إن علماؤنا ينظرون إلى المتن فيقولون: هذا من مشكاة النبوة، وهذا ليس من مشكاة النبوة، فما هي الضوابط؟ وما هي الأصول التي ارتكزوا عليها ليعرفوا أن هذا الحديث من مشكاة النبوة أم لا؟
فتجد أحدهم يقول في حديث معين: هذا ليس من حديث فلان، كأن يقول: هذا ليس من حديث أبي صالح فكيف يقول: هذا ليس من حديثه؟ لأنه قد عرف أحاديث أبي صالح ، ومكث معه مدة طويلة في الطلب ومجلس التحديث، فعلم كيف يحدث أبو صالح ، وما هي السلسلة المنتقاة لـأبي صالح، وهل إذا حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم يصل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟
وكذلك فعلماؤنا الذين نظروا في كلام النبوة بعد ما تبحروا في قراءة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، واطلعوا عليها، علموا ما يخرج من فيه صلى الله عليه وسلم، وما لا يخرج من فمه الله صلى الله عليه وسلم، لكن بالضوابط والأصول التي ذكرها العلماء؛ حتى نعلم الفارق بين كلام النبي وبين كلام غيره مما هو أشبه بكلام النبوة كأمثال الحسن البصري، فقد قيل: إن كلامه يشبه كلام النبوة.
عرض الحديث على القرآن
وهو أصل الأصول الذي ارتكز عليه علماؤنا من الصحابة لتنقية أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، هو عرض الحديث على القرآن، والقرآن والحديث هما وحي أوحى الله بهما إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فكيف نقول: إن عرض السنة على القرآن يظهر الحديث الصحيح من الضعيف؟ نقول: إذا أصلنا هذا الأصل بأن القرآن والسنة خرجا من مشكاة واحدة فالذي يخرج من مشكاة واحدة لا يكون فيه اختلاف، ولا تضاد، قال الله تعالى:
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا 
[النساء:82].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (ألا وإني قد أوتيت القرآن ومثله معه)، فهم يأخذون حديث النبي صلى الله عليه وسلم فيعرضونه على القرآن، فإذا راءوا المعارضة من كل وجه فلا يمكن أن نقول: إن هذا الحديث قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بكلام هو وحي من الله، لكن اللفظ من النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون مخالفاً لقول الله من كل وجه؟! فهذا محال.
الصورة الأولى
لقد أصل الصحابة هذا الأصل بأمثلة كثيرة منها مثلاً حديث
عائشة رضي الله عنه وأرضاها عندما قيل لها بعدما مات
عمر والحديث في الصحيح: إن
عمر بن الخطاب دخل عليه
صهيب بعد ما طعنه
أبو لؤلؤة فبكى، فقال
عمر: أوتبكي وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (
إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه)، فلما مات
عمر ودفن ذكر ذلك للفقيهة
عائشة رضي الله عنه وأرضاها فوهمت
عمر رضي الله عنه وأرضاه، وردت عليه الحديث وقالت: يرحم الله
عمر! والله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك وقد قال الله تعالى:
وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى 
[الأنعام:164].
فانظر كيف محصت حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن غيره، فقد نظرت في الكلام فوجدت أن الحديث المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، ليس للميت ذنب في ذلك، من أجل أن يعذب، وإنما هذا فعله أهل الميت، فالفعل فعل أهل الميت وليس فعله، والله جل وعلا يقول في كتابه:
وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى
[الأنعام:164].
ومعنى الآية: أنه لا يعذب أحد بفعل غيره، ويلزم من كلام عمر أن الميت سيعذب بفعل غيره فـعائشة رضي الله عنها وأرضاها لم تنظر في الإسناد في عصرها؛ لأن الصحابة كلهم عدول، وقد ذكر الله عدالتهم من فوق سبع سموات، فيبقى النظر إلى المتن، فلما نظرت إلى المتن عرضته على كتاب الله فوجدت المعارضة، فقالت: كيف يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وقد قال الله تعالى:
وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى
[الأنعام:164]؟! فالمقصود أن عائشة عرضت هذا الحديث على كتاب الله.
فإن خالف الحديث كتاب الله من كل وجه فلا بد أن نقول: إن هذا الحديث لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم جزماً؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخالف كلام الله جل في علاه.
الصورة الثانية
عن
أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال:

ولد الزنا شر الثلاثة

، فسمعت
عائشة رضي الله عنها وأرضاها هذا الحديث فاحتجت بنفس الآية
وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى 
[الأنعام:164]، المرأة زنت وحملت الجنين، فكيف نقول: إن هذا هو شر الناس؟ لأنه إذا كان كذلك فلا يؤمّنّ القوم، ولا يكون خليفةً، ولا يكون رأساً في الناس، ولا يكون معلماً، وقد وردت الأدلة بأسانيد صحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنه يمكن أن يكون أماماً، ويمكن أن يكون خليفة؛ لأنه لا ذنب له بما جنت أمه، ولا يمكن أن يؤخذ بجريرة الرجل الذي زنى بأمه، فقد قال الله تعالى:
وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى 
[الأنعام:164].
ولذلك ابن عباس نظر في هذا الحديث أيضاً وأصل لنا نفس الأصل فقال: كيف يقولون هذا؟ لو كان كذلك لقتله النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بطن أمه؛ لأنه لا يستحق الجنة فهو شر الثلاثة، فالأولى له أن يموت وهو في بطن أمه، ويشير ابن عباس بذلك إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن امرأة جاءت فقالت: يا رسول الله! إني حبلى من الزنا فطهرني، فقال: ارجعي حتى تضعي، فلما وضعت الجنين جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: قد وضعته فطهرني يا رسول الله! فقال: ارجعي فأرضعيه، فلو كان ليس له مكانة بين الناس لما فعل بها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ولقتل المرأة رجماً، وقتل جنينها في بطنها؛ لأنه لا يستحق أن يعيش فهو سيكون في النار لأنه شر الثلاثة.
فانظروا إلى ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه فبعد أن أخذ المتن عرضه على الحديث، وهذا هو المقياس الثاني الذي سنتكلم عنه، وعرضه أيضاً على الكتاب، وعلى نفس الآية
وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى
[الأنعام:164].
فهذا أصل أصله الصحابة لمعرفة حديث النبي صلى الله عليه وسلم ولا عكس، فلا يمكن أن نقول: إن القرآن إذا شهد لمتن من متون الحديث أن ذلك يقويه على الراجح من أقوال أهل العلم، مثل شهادة القرآن لحديث: (إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان)، والآية التي تقويه هي:
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
[التوبة:18]، إلى آخر الآية، ومع ذلك لم يصح لأن العلماء ينظرون بعد العصور المتقدمة إلى المتن والسند، فالحديث لم يصح حتى ولو شهد القرآن.
وكذلك إذا عارض الحديث القرآن من كل وجه فإننا نقول: حتماً وجزماً أن الله لم يوح بهذا الحديث للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله جل وعلا قال:
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا
[النساء:82].
الصورة الثالثة
الصورة الرابعة
روى
ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عندما نزل من المعراج فقالوا له: رأيت ربك؟ فقال: (
نور إني أراه).
وهذا تصحيف من الراوي والراجح في الرواية هو (نور أنى أراه) أي: كيف أراه؟ فرووا هذا الحديث عند عائشة فقالت: كما قال مسروق : قلت يا أمتاه هل رأى محمد ربه؟ ثم روى هذا الحديث فقالت: لقد قف شعري مما تقول، من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، فردت الحديث، مع أن هذا رواه ابن عباس وغيره من الصحابة، فكيف ردته؟ لقد عرضته على كتاب الله، فقالت: كيف تقولون: إن محمداً رأى ربه وقد قال الله تعالى:
لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ
[الأنعام:103].
والغرض من هذا أننا إذا أردنا أن نعرف أن الأثر من قول رسول الله أو من قول غيره فإننا نعرضه على القرآن.
وكذلك ابن عمر فقد كان يفعل كما فعلت عائشة، فقد كان يقول: إن لحوم السباع حلال، كالأسد، وهو قول للمالكية.
فإن قيل: هل الضبع والذئب والثعلب والقرد مما يؤكل أو لا؟
والجواب: لقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي ظفر من الطير.
والصحيح أن الثعلب يؤكل، والضبع يؤكل.
واختلف العلماء في الذئب والقرد، فالمالكية يقولون: يؤكل، والفيل يؤكل، والصحيح الراجح في ذلك أنه لا يؤكل.
والغرض أن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه كان يعرض الحديث على القرآن ليميز هل هو من كلام رسول الله أم ليس من كلامه؟
وقد أكثرت من الأمثلة حتى يسهل على طالب العلم ضبط القاعدة.
الصورة الخامسة
الصورة السادسة
قالت
فاطمة بنت قيس : طلقني زوجي فبتّ طلاقي، والمبتوتة هي: المطلقة ثلاثاً، وهي التي بت طلاقها فلا تحل لزوجها إلا بعد أن تتزوج زوجاً غيره ثم يطلقها، وليس معنى ذلك أن يعقد عليها فقط، بل لابد من العقد والدخول.
قالت: فلم يجعل لي سكنى ولا نفقه، فأخذ عمر بن الخطاب : قولها وعرضه على كتاب الله فقال: لا نأخذ بكلام امرأة لا ندري أذكرت أم نسيت ونترك كتاب الله، وفي رواية: سنة رسول الله.
وهذه الرواية ليست صحيحة، بل الصحيح أنه قال: لا نترك كتاب ربنا لامرأة وهمت لا ندري أحفظت أم نسيت.
والآية التي انتقد عمر بن الخطاب هذه الرواية من خلالها هي قول الله سبحانه وتعالى:
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ
[الطلاق:6]، فهذه الآية فيها دليل واضح على السكنى، وهناك آيات أخرى تدل على النفقة، فـعمر بن الخطاب نظر في الحديث فعرضه على كتاب الله فظهر له أنه لا يمكن أن يكون هذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن القرآن والسنة خرجا من مشكاة واحدة فلا يمكن أن يكون بينهما تعارض.
الصورة السابعة
لقد كان الصحابة يتثبتون تثبتاً شديداً في قول النبي صلى الله عليه وسلم، ويخافون ويرتجفون من قوله صلى الله عليه وسلم (
من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).
ولذلك كان علي بن أبي طالب ، يقول: والله ما حدثني أحد حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد أقسم بالله أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير: أبي بكر رضي الله عنه؛ فإنه حدثني وصدقني.
فكان التثبت والتشديد في التثبت من قول النبي صلى الله عليه وسلم يجعل كل راوي لحديث النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بالله أنه سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان عمر شديداً في التثبت، فـ أبو موسى الأشعري عندما طرق الباب على عمر بن الخطاب ، وكان قد طلبه عمر بن الخطاب فاستأذن مرة فلم يرد عليه، فرجع على عقبيه، فلما استيقظ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه سأل عنه فقالوا: جاءك ثم رحل، فرجع إليه فقال: ما منعك أن تدخل؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الاستئذان ثلاثاً وإلا فارجع) فأخذه عمر من عنقه وجاء إلى مجلس الأنصار مرعوباً مفزوعاً قد خشي على نفسه من عمر رضي الله عنه وأرضاه، فإنه قال له: والله لا أتركك حتى تأتيني بآخر يشهد معك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك.
وهذا من شدة التثبت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: والله لا نبعث معك إلا أصغرنا أبا سعيد الخدري فذهب معه وشهد عند عمر رضي الله عنه وأرضاه.
وهذا يحيى بن معين وهو يموت قيل له: ما تطلب؟ قال: إسناد عالٍ وبيت خالٍ.
فيا أهل الحديث! لقد اشتهرت الإسكندرية بقلة علم الحديث فيها حتى قيل: إن أهلها ليس لهم همة في طلب الحديث، أيها الجمّاع أريدك أن تكون نقاشاً وقماشاً لا أن تكون قماشاً فقط.
فإن قيل: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين أحدكم على أريكته شبعان يأتيه الأمر من أمري فيقول: نعرضه على كتاب الله، فإن وجدناه في كتاب الله أخذنا به، وإن لم نجده في كتاب الله لم نأخذ به، ألا وإني قد أوتيت القرآن ومثله معه)، وقد عرض الصحابة الحديث على القرآن، فهل وقعوا فيما حذر منه النبي أم لا؟
والجواب: أن هذا الحديث عام، فهذا الشبعان كلما جاءه حديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم عرضه على القرآن، فإن وجده في القرآن أخذه، وإن لم يجده لم يأخذه، وأما الصحابة فلم يفعلوا ذلك في كل الأحاديث، وإنما فعلوه في الأحاديث التي عارضت كلام الله سبحانه وتعالى، وقد علموا أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يعارض كلام الله جل في علاه، فحديث النبي صلى الله عليه وسلم هذا ينطبق على القرآنيين الذين يقولون: لا حاجة إلى السنة.
وأما الصحابة فإنهم كانوا يأخذون بالسنة إلا الشيء اليسير الذي عارض القرآن، فيكون فعل الصحابة مخصوص من عموم الحديث، فالنبي قال في الحديث:
يأتيه الأمر من أمري
، وفي هذا دلالة على كل أمر من أمر النبي فإنه يعرضه على القرآن، وأما الصحابة فقد كانوا يأخذون بجميع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم إلا إذا عارض الحديث القرآن، وأذكر لكم قصة رواها لنا الشيخ أبو إسحاق ، فقد ذكر أنه كان يجلس في مسجد في كفر الشيخ وكان واسعاً جداً، وكان يمتلئ من أوله إلى آخره إذا شرح حديثاً أو تكلم في موعظة، فقال مرة: لا بد أن نؤصل المسائل لطلبة العلم، فندِّرس في مصطلح الحديث، فحضر في أول مجلس نصف المسجد، فقال: الحمد لله على النصف ثم الأسبوع الذي بعده حضر الربع، فقال: الحمد لله على الربع ثم بعد ذلك لم يحضر غير ثلاثة في المسجد.
وأنا أقول: إن قوام الأمة يكون على أهل العلم، وأما الكثرة الكاثرة فقلما تكون جيده، فقد يكون هناك ضعيف مستضعف يدعو الله جل وعلا فينصر الله به الأمة، لكن هل يمكن أن يكون من قوام الأمة، ومن من الأعمدة التي ترتكز عليها الأمة؟ لا والله، وكذلك إذا نزلت المعضلات وحدثت الملمات على الناس فهل يكون الضعيف هو الذي يتصدى لها؟ لا والله، وهل هو الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله جل وعلا يجعل على رأس كل مائة عام رجل يجدد لهذه الأمة دينها)؟ لا والله، وهل يمكن أن يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين)، قد يدخل، والمقصود أنهم يفرون من التأصيلات، وهم لن يفقهون تحرير محل النزاع ولا الترجيح إلا بالتأصيلات، لذا فليعلم الإخوة أن التأصيل الصحيح هو الذي سيبني صرح الأمة العالي، وأنا أعرف أن من الطلاب من يتعطش للعلم لكن الطريق ليس مستنيراً أمامهم، وهنا كلمة تكتب بماء الذهب وهي من قول الشيخ محمد إسماعيل حفظه الله فقد كان يقول: بث الجذور في الأرض هو الذي يثمر، فانظروا إلى القياس البديع، فإن الفروع العالية التي نراها إذا هبت الريح القوية كسرتها وانتهت، لكن الجذور في الأرض تبقى ثابتة.
والإجابة الثانية: نقول: نحن نوافق على قاعدة أن المتن إذا عارض القرآن فهو ضعيف، وذلك بشرط أن تكون هذه المعارضة معارضة كلية، وأما إذا كانت من وجه دون وجه فلا؛ لأنه يمكن الجمع بينهما، واجتهاد الصحابة في تضعيفها لم يكن صواباً، فإن هذه الأحاديث الصحيحة قد أمكن الجمع بينها وبين القرآن، فالجمع بين قول الله:
وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى
[الأنعام:164]، وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الميت ليعذب ببكاء أهله)، يكون من وجوه: أولاً: أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه إذا أوصى بذلك، فإنه إذا أوصى كان معذباً بوزره وليس بوزر غيره.
ثانياً: أنه يعذب بشق الجيوب، ولطم الخدود، ويرجع هذا إلى الوجه الأول أيضاً، أي: إذا ارتضى بذلك، أما لو شقوا الجيوب، ولطمعوا الخدود وهو لا يعلم فليس عليه شيء.
ثالثاً: أن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: وهم عمر فإن النبي صلى الله عليه وسلم مرت عليه جنازة يهودية فبكى أهلها عليها فقال: (إن الميت ليعذب من بكاء أهله)، فهي واقعة عين لا يقاس عليها المسلمون، بل هي خاصة بالكفار وإن الألف واللام في (الميت) للعموم لكنه لا يراد بها العموم هنا، بل هو من باب العام الذي يراد به الخاص وهو الكافر، وهذا هو أوجه الوجوه، وأما بقية الأجوبة فليست بشيء.
والجمع بين حديث: (الشؤم في ثلاث في المرأة، والدابة، والدار) وقول الله تعالى:
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ
[الحديد:22]، هو أنه لو كان هناك شؤم فسيكون في ثلاث لكن ليس هناك شؤم؛ لأن الله كتب هذا في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، هذه الإجابة الأولى.
الإجابة الثانية: أن هذا القول هو قول أهل الجاهلية وذكره هنا من أجل الإنكار عليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا طيرة)، وقال: (الطيرة شرك).
والجمع بين حديث: (نهي النبي عن أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير) وبين قوله سبحانه:
قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا
[الأنعام:145]، أي: أني في وقت ما تلوت عليكم هذه الآية لم أجد فيما أوحي إلي محرماً عليكم إلا هذه الأمور، ولا يمنع ذلك أن تأتي آيات أخرى تزيد عليها أشياء محرمة، فيكون هذا الحكم الذي ورد في الحديث مما أوحاه الله إليه بعد ذلك فلا يوجد تعارض، ولا يكون هذا نسخاً بل هو إضافة، والإضافة لا تعد نسخاً إلا عند الحنفية.
والجمع بين حديث ابن عباس (نور إني أراه) وقول الله:
لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ
[الأنعام:103] أي: لا تحيط بالله جل في علاه، أن نفي الإدراك لا يلزم منه نفي الرؤيا؛ لأن إثبات الرؤيا وردت به أحاديث أخرى صحيحة تخصصه من النفي كحديث: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته) فلا تعارض بين الحديث والآية؛ ولذلك فالمعتزلة لما أنكروا الرؤيا استندوا إلى قول عائشة ونحن نقول: إن عائشة أخطأت في الاستدلال، وأصابت في النفي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لن تروا ربكم حتى تموتوا)، والخطاب للأمة خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما سئل: هل رأيت ربك؟ قال: (رأيت نوراً)، وهذا نور الحجاب، فلم ير الله جل في علاه، وقال أيضاً: (نور أنى أراه)، أي: كيف أراه؟
وأما تفسير قول الله تعالى في سورة النجم:
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى
فقد قالت عائشة : رأى محمد جبريل مرتين، له جناح يسد الأفق.
وبهذه الإجابة عن هذه الأحاديث ننتقل إلى أصل آخر أصله الصحابة على نقد متون السنة وهو عرض السنة على السنة، لكن هذا بحر واسع جداً، وهل يصح أن نعرض السنة على السنة حتى نضعف الحديث أم لا؟ فهذا سيدخل فيه الكلام عن الإسناد في مسألة الشذوذ ..