إسلام ويب

السيرة النبويةللشيخ : سعيد بن مسفر

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بدأ الشيخ محاضرته بالكلام عن فضل النبي صلى الله عليه وسلم على سائر الخلق، واختصاصه بالشفاعة العظمى يوم القيامة في المحشر. ثم بين الشيخ أن سيرة رسول الله منهج لحياة المسلم، وأن دراستها تفيد في كل مناحي الحياة، كما أنها سبيل إلى التعرف على كل التفاصيل التي مرت في حياته صلى الله عليه وسلم، ومنها التعرف على معجزاته والتي ذكر منها الشيخ تكثير الطعام بين يديه، ونبع الماء من بين أصابعه، واطلاعه على أحداث ومواقف لم يحضرها.
    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    هذا الدرس يلقى في مسجد (الشربتلي) في مدينة جدة بعد مغرب يوم السبت الموافق (23 من شهر جمادي الأولى عام 1417 للهجرة) على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وهو الدرس الأول من سلسة تأملات في السيرة النبوية.

    سيرة من؟!

    إنها سيرة خير البشر، وأفضلهم، وأكرم الخلق، فسير العظماء والأبطال والعباقرة جديرةٌ بالدراسة؛ لاستخلاص العبر، ولأخذ المواقف، لكن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من كل سيرة.

    إنه ليس رجلاً عبقرياً عظيماً فحسب، وليس بطلاً فقط، يكفيه أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه ليس رسولاً فقط، بل هو من أولي العزم، بل هو أفضل الرسل على الإطلاق، وخير وأكرم من خلق الله.

    نادى ربنا تبارك وتعالى كل الأنبياء بأسمائهم يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا [الصافات:104-105].. يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود:46].. يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ [آل عمران:55].. يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ [القصص:31] وهذا شيءٌ طبيعي أن ينادي الله عز وجل عبيده بأسمائهم، فهم وإن كانوا رسلاً وأنبياء إلا أنهم عبيد، والسيد إذا دعا العبد دعاه باسمه، ولكن محمد صلى الله عليه وسلم ما ناداه ربه باسمه في القرآن، فليس في القرآن يا محمد! بل فيه نداءان اثنان يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة:67] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [التوبة:73].

    علام يدل هذا التخصيص؟

    يدل على عظم المنزلة، وسمو المكانة، وأنه خير من خلق الله، فهو أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، وخير من سار على الأرض في هذه الدنيا، وصاحب اللواء يوم العرض، وأول من يطرق باب الجنة، وأول من يؤذن له بالشفاعة يوم القيامة.

    اجتماع الخلق في أرض المحشر

    في الصحيحين : يجتمع الناس في عرصات القيامة في يوم شديد الكرب، شديد الهول، السماء فيه تنفطر، والنجوم تنكدر، والجبال تسير، والقبور تبعثر، والبحار تسجر، وأهوال يشيب لها رأس الوليد الصغير الذي ليس له ذنب، فهو يوم يجعل الولدان شيباً، قال تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2].

    مثل لنفسك أيها المغرور     يوم القيامة والسماء تمور

    إذ كورت شمس النهار وأدنيت     حتى على رأس العباد تسير

    وإذا الجبال تقلعت بأصـولهـا     ورأيتها مثل السحاب تسير

    وإذا البحار تأججـت نيرانهـا     ورأيتها مثل الحميم تفور

    وإذا الوحوش لدى القيامة أحضـرت     فتقول للأملاك أين نسير؟!

    فيقال سيروا تشهدون فضائحاً     وعجائباً قد أحضرت وأمور

    وإذا الجنين بأمه متعلق     يخشى الحساب وقلبه مذعور

    هذا بلا ذنب يخاف لهوله     كيف المقيم على الذنوب دهور

    في ذلك اليوم العظيم يطول على الناس الموقف، وعدة ذلك اليوم خمسون ألف سنة، واليوم منها بألف سنة مما نعد، قال عز وجل: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47] فاليوم من أيام الآخرة يعدل ألف سنة، واضرب ألف سنة في خمسين ألف سنة، فهذا يوم القيامة والناس وقوف، والشمس تدنو من الرءوس ولا توجد مظلة إلا مظلة الرحمن، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها، وليس هناك ماء إلا حوض الحبيب صلى الله عليه وسلم، نرجو الله أن يسقينا من حوضه، ويحشرنا في زمرته، ويجعلنا من أتباع سنته، ومن الناصرين لدينه وهداه.

    والموقف طويل، والانتظار صعب على النفوس، فأنت لا تستطيع أن تنتظر ولا تحب الانتظار، ولو سافرت في رحلة فستظل ترقب الساعة متى يحين موعد الإقلاع، فلا تريد أن تبقى ولو لعشر دقائق. وإذا أتيت إلى المطار، وأعلن أن الرحلة تأخرت ساعة فكيف يكون وضعك؟! ستقول في نفسك: أأجلس، أم أرجع، وتضيق عليك نفسك وأنت جالس تحت المكيف، وعلى الكرسي، وإذا قيل: تأخرت الطائرة ثلاث ساعات أو أربع انزعجت. وإذا أتيت إدارة حكومية ووجدت أمامك عشرة أشخاص أو خمسة عشر، أو عشرين؛ جلست تترقب وصول شخص ما ليساعدك ويخلصك من هذه الزحمة، فلا تريد أن تنتظر. فكيف تنتظر يوم القيامة على تلك الحال؟

    موقف أولي العزم في المحشر

    يضج الناس في المحشر، ويذهبون إلى الأنبياء والرسل باعتبار أن لهم مكانة ومنزلة؛ من أجل الشفاعة عند الله ليقضي بين العباد ولو إلى النار، فيأتون إلى نوح أول الأنبياء والرسل، فيقول: نفسي نفسي، إن لي دعوة قد دعوتها على قومي ليس لي غيرها، ويقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله.

    ومن غضب الله أن دمر الكون كله؛ لأن الساعة تقوم حينما لا يقال في الأرض: الله .. الله، فيغضب الله ويدمر الكون، فلا يوجد من يجرؤ على الشفاعة في ذلك اليوم.

    فالآن المدير عنده السكرتير، ومدير المكتب، والمساعدون، فإذا كان غاضباً وجاء من يقول: من فضلكم! لدي معاملة وأريدكم أن تشفعوا لي عند المدير، فيقال له: المدير ليس في مزاج حسن اليوم، فاذهب وعد في وقت يكون فيه مزاجه حسناً، فيختارون الأوقات المناسبة لذلك.

    في ذلك اليوم الأنبياء يقولون: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، نفسي نفسي.

    فالنبي يقول: نفسي نفسي، فكيف بنا أنا وأنت -يا أخي- يوم القيامة، لا إله إلا الله! نستغفر الله من الذنوب! فإذا كان الأنبياء المعصومين الذين لا يعصون الله لا يجرءون على سؤال الله شيئاً، فكيف بالمقصرين والمذنبين أمثالنا.

    فيقال: اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم، فيقولون له: ألا تشفع إلى ربنا في فصل القضاء؟ فيقول: نفسي نفسي، ويذكر أنه قد كذب ثلاث مرات، ويقول: إني أستحي أن أسأل الله وقد كذبت كذبات ثلاث.

    وما هي كذبات إبراهيم عليه السلام؟ إنها كذبات من أجل الدعوة، وهي صدق فيه تورية، فالمرة الأولى: حين خرج قومه لعبادة الأوثان وتقديم القربان قال: إني سقيم، وصدق! يقول: إن في قلبي مرضاً من عبادتكم لهذه الأصنام، لا أقدر أن أخرج معكم فأنا سقيم، قلبي مريض مما فيه من عبادتكم لغير الله، لكنه من محاسبته لنفسه اعتبرها كذبة.

    - والثانية: لما قام على الأصنام وحطمها وعلق الفأس على كبيرها، قال تعالى: فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [الأنبياء:58] فلما جاءوا: قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:59-60] فتىً! فأين فتيان الإسلام؟ في المقاهي والمدرجات والأرصفة، وأمام المسلسلات والدخان والجرائد والمجلات إلا من عصم الله، فكان إبراهيم فتىً من فتيان الله، من فتيان الدين: فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ فلما جيء به قالوا: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:60-62] فقال لهم: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ [الأنبياء:63] ويشير إلى الصنم بإصبعه، وهو يعني أن إصبعه هذه كبيرة الأصابع هي التي حطمتها؛ لأنه لولا وجود هذه الإصبع لما قدر الإنسان على عمل شيء، فالإصبع السبابة تعد كبيرة الأصابع، وإذا فقدت هذه الإصبع لا يستفاد من بقية الأصابع بأي حال، قال: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ [الأنبياء:63] يعني: إصبعه، فهم ظنوا أنه يعني الصنم، قال: فَاسْأَلُوهُمْ [الأنبياء:63] وهو أراد أن يقررهم على نقص عقولهم وقلة أفهامهم، إذ كيف يعبدون من لا يمنع نفسه؟ قال: فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ [الأنبياء:63] قالوا: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ [الأنبياء:65] أي: أنت تعلم أنهم لا يتكلمون، قال: أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنبياء:67] لأنكم تعبدون شيئاً لا يمنع نفسه، ولا ينفع، ولا يضر.

    - والثالثة: لما دخل مصر وكان حاكمها طاغية مفتوناً بالنساء؛ فلا يرى امرأة جميلة إلا أخذها، وكانت امرأة إبراهيم عليه السلام جميلة، فلما أخبروه بها وقالوا: هناك امرأة دخلت ليس لها وصف، فقال: أحضروها، ولما جيء بها ومعها زوجها، فلو قال: زوجتي، فماذا سيصنع به؟ سيذبحه؛ لأنه لا يمكن أن يسمح له بزوجته، قال: ما تكون لك؟ قال: أختي. وصدق! فهي أخته في العقيدة والإسلام؛ لأنه ليس في الأرض مسلم إلا إبراهيم وزوجه، فقال: اجلس هنا، وأخذها الملك وذهب بها إلى حيث لا يراها زوجها، فلما أرادها دعت الله عز وجل فجمده في مكانه، حاول وحاول ولكن بدون فائدة، فقال: اسألي الله أن يطلقني ولن ألمسك، قالت: اللهم أطلقه، فأطلقه الله، ولما ولت جاءه الشيطان فلحقها فدعت الله عليه ففعل ذلك ثلاث مرات يراودها وهي تدعو الله، حتى ظن أنها ليست من الإنس، فأمر بإخراجها، وفي هذه الأثناء كشف الله لإبراهيم الحجب حتى يرى كل شيء، فلا يبقى في نفسه شك، فلما خرجت أخدمها الملك هاجر وهي أم إسماعيل، ولما دخلت على إبراهيم قال: ما صنعتِ، قالت: أخزى الله الكافر فكف يده وأخدمنا هاجر .

    هذه كذبات إبراهيم -في نظره- ومع هذا يقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، اذهبوا إلى موسى.

    فيأتون موسى فيقول: نفسي نفسي، إني قد قتلت نفساً، فجريمتي لا تؤهلني لأشفع للناس عند الله، وهو من أولي العزم ومن أفضل الرسل، وقد اصطفاه الله، يقول الله تعالى له: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144] ويقول فيه: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه:41] وفي الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: (أنا أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة، فأقوم وإذا موسى قائم عند العرش فلا أدري أبعث قبلي أم جوزي بصعقة الطور) فهو من أولي العزم، ومع هذا يقول: أنا لا أستطيع أن أقول شيئاً، اذهبوا إلى عيسى.

    فيأتون عيسى فلا يذكر ذنباً وإنما يقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى محمد، لا أسألك اليوم إلا نفسي.

    الإذن لمحمد صلى الله عليه وسلم بالشفاعة الكبرى لأهل المحشر

    يأتي أهل المحشر النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (أنا لها، أنا لها) اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، اللهم شفَّع نبيك فينا، وهذا هو المشروع عند أهل السنة والجماعة : أن تدعو الله أن يشفع نبيه فيك؛ لأن الشفاعة له: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28].. مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255].

    والشفاعة حق لكنها لا تكون إلا بشرطين:

    - الشرط الأول: الإذن من الشافع.

    - والثاني: الرضى عن المشفوع له، فإذا لم يتوفر الشرطان فليس هناك شفاعة.

    قال: (فآتي فأسجد تحت العرش، ويفتح الله عليَّ من المحامد والثناء بما لم يفتح عليَّ من قبل، فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يارب! أمتي أمتي) اللهم اجعلنا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. أمة الإجابة.

    فالأمة تنقسم إلى قسمين: أمة الدعوة، وأمة الإجابة، فأمة الدعوة تشمل كل من على وجه الأرض منذ مبعثه صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة؛ لأنه دعاهم كافة، أما أمة الاستجابة فهم الذين استجابوا لله وللرسول -اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين- لأن الله تعالى يقول: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ [يونس:25] فالدعوة عامة ولكن الهداية خاصة وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس:25].

    هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد الله له وقال جل ذكره: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] فمن الذي يقول هذا؟ إنه الله، وقال له بعد أن سرد الأنبياء في سورة الأنعام: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90] ووزع الله جميع الكمالات البشرية في البشر كلهم وأعطى الأنبياء أعظم قدر من ذلك، ثم جمع جميع كمالات البشر في محمد صلى الله عليه وسلم، فما من صفة وكمال إلا وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى قدر منها، فإن قلت: الصدق، فهو أصدق البشر، وإن قلت: الشجاعة، فهو أشجع البشر، وإن قلت: الكرم، فهو أكرم البشر، وإن قلت: القوة، فهو أقوى البشر، وإن قلت: الحلم، فهو أحلم البشر.. فأي صفة تأتي بها تجده يملك الحظ الأوفر منها.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088794518

    عدد مرات الحفظ

    779087190