إسلام ويب

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - صفة الكلامللشيخ : محمد حسن عبد الغفار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الله عز وجل يتكلم حقيقة متى شاء، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة، وقد خالفهم فيها كثير من طوائف أهل البدع، وهم مختلفون على مذاهب متعددة وآراء متباينة في صفة الكلام.

    1.   

    طوائف أهل البدع في صفة الكلام

    الحلولية

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    ثم أما بعد:

    طوائف أهل البدع في صفة الكلام كثيرة منها:

    الطائفة الأولى: الاتحادية، أو الحلولية، ومذهبهم في صفة الكلام يتفرع عن قولهم بأن عين الخالق في عين المخلوق لا فرق بينهما، وهذا مذهب ابن عربي حيث قال:

    وكل كلام في الكون كلامه فرض علينا نثره ونظامه

    أي أن كل كلام في الدنيا هو كلام الله، وهذا القول من أقبح الأقوال، وهذه الطائفة من أشر الطوائف المبتدعة التي تصل بغلوها إلى الكفر والخروج من الملة، ويرد عليهم بقول الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وقوله تعالى: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ [النحل:74]، والوجود كله فيه خالق ومخلوق، فما سوى الله من بشر وجماد وغير ذلك مخلوق، ولقبح هذه المقالة فلن نطيل في الرد عليها.

    الفلاسفة

    الطائفة الثانية: الفلاسفة مثل: أرسطو والفارابي وابن سيناء ، هؤلاء يقولون: إن القرآن لم يتكلم الله به حقيقة، ولكنه فيض فاض من العلة الفعالة، فسموا الله جل وعلا بالعلة الفعالة، وهذه من الأسماء التي لم يسم الله جل وعلا نفسه، قالوا: فقابل نفساً زكية، يقصدون محمداً صلى الله عليه وسلم، فأوجب لها تخيلات وتصورات، فتصور ملكاً يدعى جبريل، يقرأ عليه كلاماً سماه قرآناً، فأملاه على الناس على أنه من جبريل.

    والرد عليهم من وجهين:

    الوجه الأول: الأدلة التي تثبت أن القرآن كلام الله، كقوله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، فلم يقل الله عز وجل: وكلم الله موسى تخييلاً، أو تصويراً، بل قال الله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، فتكليماً: مفعول مطلق يؤكد أن الذي صدر منه الكلام هو الله، وهو كلام حقيقي وليس تخيلاً ولا إفاضة على النفس الزكية.

    الوجه الثاني: لازم قولهم يضاهي قول مشركي العرب، فقد قالوا: إن القرآن من كلام محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا عنه: شعر من شعره صلى الله عليه وسلم، وهذا مثل كلام الفلاسفة، لكنهم قالوا: هو نفس زكية تتخيل وتتصور بعض الأنوار الملائكية، أو تتصور ملكاً يسمى جبريل يأتيه بهذا الكلام، وهذا الكلام منتقض بقول الله تعالى: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الحاقة:41-42].

    المعتزلة

    الطائفة الثالثة: المعتزلة، القائلون بأن القرآن كلام الله ولكنه مخلوق، واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، هذا استدلالهم بالنقل، أما استدلالهم بالعقل فقالوا: لو قلنا: إن الله يتكلم لزم من كلام الله أن يكون له مخرجاً، لأن كل متكلم لا بد له من مخرج، وهو أن يكون له فم ولسان، وهذا تشبيه بالمخلوق.

    والرد عليهم من وجهين كما هي القاعدة في الرد على أهل البدع، أولاً بالأدلة الثابتة من الكتاب والسنة، ثم بإبطال الشبه والرد عليها.

    أما الشبهة الأولى فهي استدلالهم بقول الله: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، قالوا: فشيء: نكرة في سياق الإثبات، وهي صيغة من صيغ العموم، والقرآن شيء فيدخل تحت خالق كل شيء، فهو مخلوق.

    والجواب عليهم هو أنه إذا كانت هذه اللفظة عامة، فقد أتت أدلة وقرائن أخرى خصصت هذا العموم، كقول الله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6] وأضاف الكلام إليه بإضافة الصفة إلى الموصوف، وقول الله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، وقول الله تعالى: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ [البقرة:253]، فهذه الأدلة تخصص هذا العموم، إذاً الكلام صفة من صفات الله، وصفات الله ليست مخلوقة.

    ويخصص العموم أيضاً بالعقل، فقوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16] كقول الله تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف:25] والمساكن لم تدمر، فالعقل يخصص هذا العموم، وهو أن الريح تدمر كل شيء قابل للتدمير، فقوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16] أي: كل شيء مخلوق، والقرآن ليس بمخلوق بل هو صفة من صفات الله ومعنى من المعاني وليست عينه قائمة بذاتها.

    أيضاً قولهم: إن المتكلم يلزم له مخرج أي: فم ولسان، فيجاب عليهم بأن القياس باطل بين الخالق والمخلوق، وليس هناك قياس شبه أو علة بين الخالق والمخلوق وإنما هو قياس أولى، أي أننا لو وصفنا خلقاً من خلق الله بالكمال، فمن باب أولى أن نصف به الله جل وعلا، وإن نزهنا مخلوقاً عن النقص فأولى أن ننزه الخالق جل وعلا منه، وبعض المخلوقات تكلمت وليس بلازم من تكلمها الحنجرة والفم واللسان، فقد تكلمت النار، قال الله تعالى: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق:30] فتكلمت بلا فم ولا لسان.

    وأيضاً: الجنة تكلمت، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (احتجت الجنة والنار، فقالت الجنة: جعلتني للضعفاء من خلقك وقالت النار: جعلتني للمتكبرين من خلقك).

    أيضاً: الطعام تكلم، فقد كان الصحابة من نقاء قلوبهم وقوة إيمانهم يسمعون تسبيح الطعام بين يدي رسول الله، فالطعام يسبح لله جل وعلا بلا مخرج.

    أيضاً: السماء تكلمت، والأرض تكلمت قال الله تعالى: فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11] وقال تعالى عن الأرض: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلة:4-5]، فتكلمت السماء والأرض بلا مخرج.

    بل الأعجب من ذلك الجلود والأيدي والأرجل وهي جزء من الإنسان تتكلم بلا مخرج، قال الله تعالى الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ [يس:65] ختم الله على الأفواه فتكلمت الأيدي والأرجل، ولا نعرف كيفية التكلم، فمن باب أولى ألا نعرف كيف يتكلم الخالق جل وعلا.

    الكلابية والأشعرية

    الطائفة الرابعة من طوائف المبتدعة الذين يخوضون في صفة الكلام: الكلابية: أتباع ابن كلاب ، الذي يقول: إن القرآن كلام الله حقيقة، وهو صفة من صفات الله الذاتية، يعني: اللازمة لله كلزوم الحياة، ولزوم القدرة، ولزوم العزة، فهي صفة ذاتية أزلية أبدية، لا تنفك عن الله جل وعلا، ولا تتعلق بالمشيئة، والحروف والأصوات التي نسمعها ونطويها هذه مخلوقة، والرد عليهم أيضاً من الوجه الأول بما جاء في الكتاب والسنة من أن صفة الكلام صفة لله جل وعلا، ويقال لهم: إذا قلتم: إنها صفة ذاتية أي: لا تنفك عن الله؛ خالفتم ظاهر القرآن وظاهر السنة، فقد أثبت الله أن هذه الصفة صفة متجددة تتعلق بالمشيئة، وأنه يتكلم وقت ما شاء، قال الله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143] فالكلام هنا بسبب مجيء موسى فهو بمشيئة الله، شاء الله أن يتكلم عند مجيء موسى.

    أيضاً: قال الله تعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأنبياء:2] وهذا نص من القرآن يثبت أن هذه الصفة تتعلق بالمشيئة، فهي صفة فعلية لا صفة ذاتية.

    أما قولهم: إن الحروف والأصوات مخلوقة، فقد وافقوا بذلك قول المعتزلة وخالفوا الكتاب والسنة؛ فإن الله جل وعلا يتكلم بحرف وبصوت، ولم يخلق الحرف والصوت، قال الله تعالى: ن [القلم:1] نون: هذا حرف من كلامه تعالى، وقال: طه طه 1]، كهيعص [مريم:1]، طسم [الشعراء:1]، الم [البقرة:1] فتكلم الله بحروف، وكلام الله من صفاته، فالحروف ليست مخلوقة.

    أيضاً: تكلم الله بصوت وبكيفية أعلمنا الله إياها، فتكلم بصوت عال وتكلم بصوت منخفض إن صح التعبير، قال الله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ [مريم:51-52] والنداء: يكون للبعيد، ويكون بصوت مرتفع، وتكلم معه بصوت منخفض كما قال: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [مريم:52] والمناجاة معناها: الصوت المنخفض، وكذلك يأتي الله بالعبد يوم القيامة ويضع عليه كنفه ويذكره بما فعل، ويقول: (سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك في الآخرة) . وهنا تكلم الله كيفما شاء بالكيفية التي شاءها، وهذا فيه رد قاطع على الكلابية، وعلى أفراخ الكلابية وهم الأشاعرة؛ لأن أبا الحسن الأشعري تلميذ لـابن كلاب، فالأشاعرة أتوا بغرائب الأقوال، فلا هم معتزلة، ولا هم أهل سنة وجماعة، ولا هم كلابية، أتوا ببدع من القول، فقالوا: القرآن كلام الله لكنه صفة من صفات الله الذاتية لا تنفك عن الله، فاتفقوا مع الكلابية في ذلك، ثم قالوا: وهو معنى في نفس الله، والمعنى في نفس الله بمعنى العلم وليس الكلام، فالذي نقرؤه ليس بكلام الله بل عبارة عن كلام الله، إن قرأت بالعبرية كان توراةً، وإن قرأت بالسريانية كان إنجيلاً، وإن قرأت بالعربية كان قرآناً.

    فقالوا: أولاً: إن صفة الكلام ذاتية أزلية لا تنفك عن الله.

    ثانياً: هو معنى في نفس الله.

    ثالثاً: القرآن الذي بين أيدينا ليس هو كلام الله، بل هو عبارة عن كلام الله، إن قرئ بالعربية فهو قرآن، وإن قرئ بالعبرانية فهو توراة، وإن قرئ بالسريانية فهو إنجيل.

    والجواب عليهم يكون بما جاء في الكتاب والسنة بأن صفة الكلام صفة فعلية لله جل وعلا، ثم نأتي إلى أدلتهم وشبههم:

    الأولى: قولهم: هي صفة ذاتية لا تنفك عن الله جل وعلا، يجاب عليه بأن الله جل وعلا يتكلم وقت ما شاء، قال الله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143]، وقال سبحانه: وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ [الشعراء:5]. ولازم قولهم هذا أن الله لم يزل ولا يزال يقول: (يا موسى إني أنا ربك)، ولم يزل ولا يزال يقول: (هي خمسون في الأجر وخمس قد فرضتها عليك) لما قالها للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس صحيحاً، فإن الله لم يتكلم مع الرسول إلا في المعراج عندما أعرج به إلى السماء.

    إذاً: صفة الكلام صفة فعلية لا ذاتية كما سبق بذلك الرد على الكلابية.

    أما الرد على قولهم: إنها معنى في نفس الله، هو أن المعنى في النفس ليس بكلام، ولكنه علم، بل ولازم قولهم اتصاف الله بالنقص، وهو أن الله لا يستطيع أن يعبر عما في نفسه، فكأنهم يقولون: إن جبريل علم ما في نفس الله ثم ذهب إلى محمد فعبر له عن الذي في نفس الله جل وعلا، وهذه صفة نقص، فالذي لا يستطيع أن يعبر عما في نفسه من المخلوقات نقول عنه: إنه لا يستطيع أن يعرض ما في نفسه فمن باب أولى أن ننزه الله عن ذلك.

    أما قولهم: إذا كان بالعبرية فهو توراة، وبالعربية فهو قرآن، وبالسريانية فهو إنجيل، فهو بدع من القول، ويلزم منه القول بوحدة الأديان، وأنه لا فرق بين أحكام التوراة وأحكام الإنجيل وأحكام القرآن، والله جل وعلا فرق بينهم، فقال الله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ [المائدة:44] إلى آخر الآيات ثم قال: وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ [المائدة:46] ، ثم بعد ذلك قال القرآن: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة:48]، فهو مصدق للتوراة ومصدق للإنجيل، ومهيمن عليه أي: ناسخ لهذه الأحكام التي أتت في التوراة، وأتت في الإنجيل.

    فبين الله المغايرة بين العبرية والسريانية وبين القرآن، كما قال سبحانه: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48].

    الكرامية

    الطائفة الخامسة: طائفة الكرامية الذين اتفقوا مع أهل السنة والجماعة في أن القرآن هو كلام الله حقيقة، تكلم الله به، وسمعه جبريل، ونزل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: هي صفة فعلية يتكلم وقت ما شاء كيفما شاء بما شاء، لكنهم خالفوا أهل السنة والجماعة وقالوا: إن هذه الصفة اتصف الله بها بعدما كان غير متصف بها، أي: أنه اكتسب هذه الصفة اكتساباً.

    والرد عليهم من وجهين:

    الوجه الأول: ما ثبت في الكتاب والسنة من أن الكلام صفة من صفات الله الفعلية الأزلية، قديمة النوع حادثة الأفراد، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ، قال العلماء: إن الله كان رحيماً قبل أن يخلق الخلق ويرحمهم، كريماً قبل أن يخلق الخلق ويكرمهم، متكلماً قبل أن يخلق الخلق ويتكلم معهم، ولازم قولهم أن نصف الله بالنقص؛ لأننا لو قلنا: إن هذه الصفة قد اكتسبها الله جل وعلا وكان قبل ذلك لا يستطيع الكلام، فهذا نقص ينزه عنها المخلوق فضلاً عن الخالق، ولو أن رجلاً دخل على أحد أقربائه أو أقرانه فلم يتكلم يوماً ثم يومين ثم ثلاثة ثم في اليوم الرابع تكلم، فليس لأحد أن يقول: إنه كان أبكم لا يتكلم، ثم تكلم بعد ذلك، بل إن هذا الرجل كان متكلماً بالقوة، ثم بعدما شاء أن يتكلم أصبح متكلماً بالفعل.

    السالمية

    الطائفة الأخيرة: السالمية، قالوا: الكلام صفة ذاتية لا تنفك عن الله، وقد قال بذلك بعض الفقهاء وبعض أهل الحديث، وهذا مثل قول الكلابية، وقول الأشاعرة، والرد عليهم كما رددنا عليهم.

    ولهم قول آخر وهو أن هذا الكلام حروفه ليست مرتبة ولا يسبق بعضها بعضاً.

    والرد عليهم هو أننا عندنا نقرأ هذا الكلام الذي قرأه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم ، وقرأه النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءنا بالتواتر، فعندما نقرأ: بسم الله نبدأ بالباء، ثم بالسين، ثم بالميم؛ لترتيب الأحرف، فالوصل والقطع بين الأحرف لابد منه حتى تُنطق الكلمة عربية مفهومة بلسان عربي مبين.

    صفة العلو

    قال الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى طه 5]، دلت هذه الآية على صفة من أهم الصفات وهي صفة العلو لله جل وعلا، والعلو علوان:

    علو مطلق، وعلو مقيد.

    العلو المطلق: هو علو الشأن وعلو الذات، وعلو القهر، وعلو القدر والمكانة، وهو من الصفات الذاتية التي لا تنفك عن الله.

    والعلو المقيد: هو علو الاستواء على العرش، فهذا علو مقيد بالعرش، وهو صفة فعلية وليست صفة ذاتية، لأنها تتعلق بمشيئة الله جل وعلا، إن شاء استوى، وإن شاء لم يستو.

    أما العلو المطلق فإن الله جل وعلا اتصف بعلو الذات، وعلو الشأن وعلو القهر، علو الشأن أي: علو المكانة، والقدر والتعظيم، هذا لم يختلف فيه أحد، قال الله تعالى: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ [غافر:15] سبحانه وتعالى، له الكمال المطلق، والجلال المطلق، والعظمة المطلقة، وقد أنكر على أهل الكفر والإلحاد أنهم ما عظموه حق عظمته، ولا قدروه حق قدره، قال الله تعالى: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [نوح:13] ، أي: تعظيماً وإجلالاً، وقال جل وعلا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91].

    أما العلو الثاني من أنواع العلو المطلق فهو علو القهر وعلو الربوبية، وهذا أيضاً لم يختلف فيه أحد، فالله جل وعلا قهر عباده، وكل العباد تحت أمره، لا راد لأمره ولا لقضائه، قال الله تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40]، وقال سبحانه: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:93] تحت قهر الله جل وعلا، وقال الله تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18] فهذا علو القهر أيضاً لم يختلف فيه أحد.

    أما علو الذات فحدث فيه الخلاف، ومعناه: أن الله عال بذاته على خلقه، وقد دل على ذلك أكثر من دليل من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، كما دل على ذلك العقل والفطرة.

    أما الدليل من الكتاب فقول الله تعالى: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23]، وقال: الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [الرعد:9]، والقاعدة أن كل اسم من أسماء الله الحسنى يتضمن صفة من صفات الكمال، فاسم الله العلي اسم من أسماء الله الحسنى يتضمن صفة العلو، فهذه أول دلالة من دلالات أسماء الله في القرآن تثبت علو الله جل وعلا.

    الدلالة الثانية التي تدل على العلو: الدلالة المقيدة العلو على العرش، قال الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى طه 5].

    وقال جل وعلا: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54].

    وقال سبحانه: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] والاستواء يأتي في اللغة بمعاني فيتعدى بنفسه ويتعدى بإلى ويتعدى بعلى، ولكل معنى سنبينه عند شرح الآية.

    أيضاً: من الدلالات على علو الله عز وجل: دلالة الفوقية، وتكون من لفظ العلو، قال الله تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18] فهذه دالة على علو الله جل وعلا، وقال الله تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل:50] فالملائكة فوقهم العرش، وفوق العرش الله جل وعلا، فدلالة الفوقية تدل على علو الله جل وعلا.

    ومن الدلالات أيضاً: التصريح بالعندية، قال الله تعالى: وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ [الأنبياء:19] العندية هنا: فوق؛ لأن الملائكة في السموات، فعندية الله جل وعلا فوق السموات.

    أيضاً: من الدلالات على علو الله على خلقه: الصعود، فالصعود يكون من أسفل إلى أعلى، قال الله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ [فاطر:10] من أسفل إلى أعلى، يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10] فالصعود والرفعة والعروج كل ذلك يدل على علو الله جل وعلا.

    وقال الله تعالى عن عيسى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:158]، وقال جل وعلا في سورة آل عمران: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:54-55] يعني: من السفول إلى العلو ورافعك من الأرض إلى السماء.

    وقال جل وعلا: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ [المعارج:1-3] ثم فصل المعارج، فقال: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج:4] أي: تصعد.

    أيضاً: من الدلالة على علو الله: عكس الصعود، وهو النزول، لأن النزول يكون من أعلى إلى أسفل، قال الله تعالى: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ [هود:14] أنزل أي: من أعلا إلى أسفل وقال الله تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ [الشعراء:192-194]، فالتنزيل يكون من أعلى إلى أسفل.

    أيضاً: من الدلالات على علو الله: (في) قال الله تعالى: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ [الملك:16] ففي هنا تعني: الله جل وعلا في السماء، والسماء لا تظله ولا تقله، بل كل السموات والعرش تحته جل وعلا فلا بد من تأويل: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] على ذلك، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : هذه الآية على معنيين:أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] أي: أأمنتم من في العلو، فالسماء هنا بمعنى: العلو، واستدل على ذلك بقول الله تعالى: وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [النمل:60] فالمطر ينزل من السحاب، وسماه الله سماءً من السمو وهو العلو، فالسماء هنا بمعنى: العلو، وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [النمل:60] أي: من المزن وهو في العلو، إذاً: فهنا قول الله تعالى: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] معناه: أأمنتم من في العلو.

    المعنى الثاني: أن في بمعنى على ولها مسوغ في اللغة، فهناك قرائن تدل على أن في تأتي في اللغة بمعنى على، قال الله تعالى: فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ [آل عمران:137] أي: على الأرض، وليس معنى ذلك أن يشقوا الأرض ويسيروا في داخلها، وقال تعالى: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا [الملك:15] أي: على مناكبها، وقال الله تعالى حاكياً عن فرعون: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ طه 71] أي: على جذوع النخل، هذه الأدلة من الكتاب.

    أما الأدلة من السنة فقد قال ابن القيم : إنها وصلت إلى خمسين حديثاً كلها تدل على علو الله جل وعلا.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765795026