أما الزيارة الشرعية فهي التي كان قد منعها النبي صلى الله عليه وسلم خوفاً من الاعتقاد في المقبور، كما كان أهل الجاهلية يعتقدون في بعض الأموات، كالذي كان يلت السويق للحجيج، وكما قال
ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، واتخذوا صنمه إلهاً يعبدونه من دون الله، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحسم هذا الأمر في أول الإسلام، ثم بعد ذلك أباح لهم زيارة القبور وبين العلة فقال: (
كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها فإنها تذكر الآخرة أو تذكر بالموت).
فيرق القلب وتدمع العين عند زيارة القبور، ولذلك أفسح النبي صلى الله عليه وسلم المجال لمن يزور القبور وهو معتقد الاعتقاد السديد بأن المقبور لا ينفع ولا يضر.
ومن العلل أيضاً انتفاع الرجل المؤمن بالله جل في علاه وانتفاع الميت، أما انتفاع الموحد وذلك بأنه سيدخل إلى المقبرة فيؤدي حق الله وحق المقبور، أما تأدية حق الله فإنه عندما يذهب إلى المقبرة يعلم أن الموت بيد الله، وأن الله هو الآخر سبحانه وتعالى، وأن الله هو مكون الكون، ثم يرفع يديه ويدعو الله جل في علاه بالإحسان إلى أخيه، فيفوز بالتوحيد ويفوز بالإحسان إلى أخيه، ويرجع ذلك إليه لقول الله تعالى:
هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ
[الرحمن:60] فينتفع المقبور بدعاء هذا الحي، والحي أيضاً يتذكر ويتدبر بأنه نازل إلى هذا القبر كما نزل صاحبه.
حكم زيارة القبور للنساء، وأقوال العلماء في ذلك
القول الراجح في حكم زيارة النساء للمقابر
والصحيح الراجح في ذلك تحريم زيارة القبور للنساء للأدلة الظاهرة جداً في التحريم:
أولها: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زوارات القبور).
فأنا أقول: وإن كانت الصيغة صيغة مبالغة وأن التكرار هو الذي يدخلها في اللعن فإن ابتداء الذهاب ذريعة للتكرار والوسائل لها أحكام المقاصد، فلا بد أن تمنع من الأول.
والدليل الأوضح من ذلك والأصرح هو حديث أم عطية قالت: (نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا) وظاهر النهي التحريم، ولا يحتاج تحريم النبي إلى تأكيد، فإذا قال لك النبي: لا تفعل، فعليك أن تقول: سمعت وأطعت وهذا حرام لا أفعله، فهذا ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نهينا) يعني: لا تفعلن ولا تذهبن، فهذه دلالة واضحة من أم عطية على أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور.
الدليل الثالث: من النظر، وهو أن هناك مفاسد عظيمة عند ذهاب المرأة إلى القبور، فإن ذهاب المرأة إلى القبور يؤدي إلى فتنة الرجال، فينظرون إلى عينها، ووجهها، ويدها، أو ينظرون لبكاء المرأة، فيفتنون بها، وفي هذا مصادمة لمقاصد الشريعة.
الأمر الثاني: أنها لو ذهبت فلن تتذكر الآخرة، بل لن تصبر على أقدار الله، وستتسخط على أقدار الله.
وهذا الغالب في النساء، فالضعف فيهن معروف، ويظهر ذلك جلياً في قصة المرأة التي قالت للنبي: (إليك عني)، فهي وإن كانت لا تعرفه لكنها لم تقبل النصيحة، فهو يقول لها: (اتقي الله واصبري) وهي ترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره.
فالنساء الأصل فيهن الضعف، فيغلب على عقولهن التسخط على أقدار الله جل في علاه وينطقن بكلمات الكفر إذا ذهبن، وفي هذا أيضاً مصادمة لمقاصد الشريعة.
الثالث: أنه لا فائدة من ذهابها، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهاها عن الاتباع، فالنهي عن الزيارة أشد وأقوى.
فهذه كلها أدلة تثبت أن الأقرب إلى الصواب هو تحريم زيارة المرأة للقبور.
الرد على المخالفين
أما الرد على المخالفين في ذلك فنقول:
أولاً: الذين قالوا بالكراهة قالوا بحديث: (نهينا ولم يعزم علينا) فنقول: نهي النبي لا يحتاج إلى تأكيد، فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تذهبي أو لا تتبعي فلا يحتاج أن يؤكد ذلك، ولا صارف هنا عن النهي إلى الكراهة، بل يبقى على أصله وهو التحريم.
وأما الرد على الذين يقولون بالجواز، فإنهم استدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم مر على امرأة وهي تبكي فلم ينهها. فنقول: الإجابة على هذا الحديث من وجهين:
الوجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (اتقي الله) وتقوى الله فعل المأمور وترك المحظور، وقد نهاها النبي صلى الله عليه وسلم عن اتباع الجنائز ولعن من زارت القبور، فتقوى الله لا تكمل إلا بالانتهاء عن زيارة القبور التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون إجمالاً قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم المرأة عن زيارة القبور بقوله: (اتقي الله).
الوجه الثاني: أن هناك مفسدتين: مفسدة الزيارة، ومفسدة خروج المرأة عن شعورها بشق الجيوب ولطم الخدود والتسخط على أقدار الله، فإذا تزاحما قدم أشدهما نكارة.
فالنبي وجد المرأة عند القبر فعلت أمرين محظورين الأول: أنها زارت القبر، والثاني: أنها تبكي وتتسخط على أقدار الله جل في علاه، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم الأهم على المهم وقال: (اتقي الله واصبري) يعني: لا تتسخطي، (إنما الصبر عند الصدمة الأولى).
وإن قلنا بأنه لم ينه فهذه واقعة عين، ووقائع الأعيان لا تعمم، فلعله تركها لأنه لو نهاها عن زيارة القبور بعد أن قال لها: (اتقي الله واصبري) أن تسب أو تخرج عن شعورها فتتكلم مع النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يليق.
واستشهدوا بحديث عائشة وأنها قالت: (ماذا أقول لهم؟) ففيه دلالة أنه لما علمها الدعاء أنها تزور، وهذه دلالة ليست أيضاً بقوية؛ إذ إننا نقول: يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم علمها إذا مرت بالقبور أن تقول هذا الدعاء، وليس بلازم أن نقول إنها تزور فتقول هذا الدعاء.
وهناك دليل على أن الإنسان لو مر على المقابر ولم يدخل إليها أن يقول هذا الدعاء، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مررتم بقبور المشركين فقولوا: أبشروا بما يسوءكم، ستجرون على وجوهكم وبطونكم إلى نار جهنم) فهذا فيه دلالة على أنك إذا تكلمت بهذا الكلام وأنت مار فسوف يسمع أصحاب القبور ما تكلمت به، إذاً هذا الحديث يحتمل أنه للمرور ويحتمل أنه للزيارة، وقد جاءت الأدلة تمنع الاحتمال الثاني، فيبقى الاحتمال الأول وهو المرور.
أما دليلهم الثالث وهو زيارة عائشة لقبر أخيها، فالرد عليه: أن عائشة رضي الله عنها وأرضاها ما سافرت قاصدة قبر أخيها، وقد جاء في بعض الروايات -وإن كان فيها ضعف- أنها قالت: لو شهدته ما زرته، يعني: لو شهدت موته وصليت عليه مثلاً ودعوت له ما ذهبت إلى قبره.
فيحتمل أنها ذهبت من لوعة الأسى الذي في قلبها من أجله لأجل أن تصلي عليه أو ذهبت تدعو له.
وإن لم يرض المخالفون بهذا الرد فنقول: فعلت عائشة هذا، وفعل عائشة يصادم قول النبي، والحجة كل الحجة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما حديث فاطمة وأنها كانت تذهب كل جمعة فهو حديث ضعيف لا حجة فيه.
فإذاً: لا يبقى لهم حجة يحتجون بها.
والذين قالوا بالاستحباب قالوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها).
فنقول: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فزوروها) هذا اللفظ نقل النووي قال: هذا اللفظ خاص بالرجال ولا يدخل فيه النساء بالاتفاق.
لكن لمعترض أن يقول: هذا تغليب للرجال ويمكن أن يدخل تحته النساء لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (النساء شقائق الرجال في الأحكام) فهذا ظاهر جداً في أنهن يدخلن في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا فزوروها).
فنقول: نعم، يدخلن في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا فزوروها)، لكن جاء المانع الذي يمنع دخولهن وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زوارات القبور) ، وأيضاً قول أم عطية : (نهينا عن اتباع الجنائز).
حكم صلاة المرأة على الجنازة
فإذا قلنا بأن هذا هو الراجح وأن الأدلة الأخرى كلها أدلة محتملة، فإننا نقول: هل للمرأة أن تصلي على الجنازة إن منعت من الإتباع ومنعت من الزيارة؟
الجواب: نعم، لها أن تصلي وقد ورد عن الصحابة الكرام وعن نساء الصحابة أنهن كن يصلين على الأموات.
فللمرأة أن تدخل المسجد قبل أن يصلي الرجال فتصلي على الميت، أو تكون المرأة في آخر المسجد أو في مكان مستور فتصلي بصلاة الإمام على الجنازة.
فلهن الصلاة وليس لهن الزيارة واتباع الجنائز؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم بالتصريح: (لعن الله زوارات القبور)، ولموافقة مقاصد الشريعة؛ لأن المرأة ضعيفة العقل والقلب، فإذا ذهبت وقعت في كل المحظورات من شق الجيوب، ولطم الخدود، والتسخط على أقدار الله جل في علاه.
وهذا واقع نعيشه، وقد رأيت امرأة دخلت المقبرة وأبوها سيدفن فنظرت إلى السماء ففعلت فعلة كفرت بها في لحظتها ولو ماتت لدخلت النار خالدة مخلدة، فليس فيها حجة ولا شيء -والعياذ بالله- وهذه المرأة مسلمة، فانظروا كيف تفعل، فالمرأة لا يمكن أن تتمالك نفسها خاصة إذا وجدت الرعاع والجاهلات اللاتي يثرن الشغب في القبور، فهذه مصادمة صريحة لمقاصد الشريعة، وفيها إظهار بأن زيارة القبور للمرأة لا تصح ولا تجوز.
النوع الثاني من الزيارة: الزيارة البدعية:
والزيارة البدعية أصلها مشروع وهيئتها محدثة، فالأصل في زيارة القبور أن يرق فيها القلب، وتدمع بها العين، ويتذكر الموت والآخرة فهذه مشروعة، لكن يأتي أحدهم بهيئة مستحدثة مبتدعة كأن يشد الرحل إلى المقبور لزيارته، كالذين يذهبون إلى البدوي أو إلى أبي العباس، أو إلى أبي الدرداء ، فهذا كله يعتبر من البدع المنكرات؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد).
فلا يمكن أن تعظم بقعة من بقاع الأرض لأحد فيها ولا لشيء فيها إلا ثلاثة مساجد: المسجد الأقصى، والمسجد النبوي، ومسجد الكعبة.
وأيضاً من المستحدثات: أن يدخل المرء إلى هذا القبر لبنائه وتعليته، ناهيك عن الكتابات التي تحدث كالمغفور والمرحوم المتصدق وغير ذلك من التفاخر المعلوم، فهذا أيضاً من البدع.
وإيقاد السرج على القبور من المحدثات التي تجعل الزيارة بدعية.
من هذه أيضاً: أن يذهب المرء للمقبور ليستغفر لهذا الزائر الذي يدخل عليه، كما يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: يا رسول الله! استغفر لي ربي، أو استغفر لي ربك. فهذه من الزيارة البدعية أو الشركية؛ لأنها مخالفة لفعل النبي والصحابة والسلف ولا دليل عليها.
لكن أبى علينا الذين يفعلون ذلك وقالوا: عندنا أدلة من الكتاب ومن الأثر:
أولاً: قول الله تعالى:
وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا
[النساء:64] فهذه الآية فيها دلالة على ما نريد، ووجه الدلالة من هذه الآية أنها على العموم سواء كان حياً أو ميتاً.
ويرد عليهم في هذا بأن نقول: هناك فارق في اللغة بين إذ وإذا، فإذا ظرف زمان للمستقبل، أما إذ فظرف زمان للماضي، فقول الله جل في علاه:
وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ
يعني في الماضي، وقول الله تعالى:
وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ
يعني: حال حياته؛ لأن إذ ظرف زمان للماضي، ويكون معنى الآية: لغفر الله لهم.
واستدلوا من الأثر بأن الأعرابي الذي جاء للنبي في قبره وقال: يا رسول الله، إني أقرأ الآيات:
وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ
ثم قال: يا رسول الله، استغفر لي الله. فكان هناك من ينام عند قبر النبي فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه في المنام فقال: (اذهب إلى هذا الأعرابي فقل له: قد غفر الله لك)، واحتجوا بهذه القصة.
فنقول لهم: أحكام الشرع لا تناط بحال من الأحوال بهذه الرؤيا المنامية، بل أحكام الشرع تناط بقال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم، ناهيك عن أن الصحابة لم يفعلوا ذلك، والتابعون ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين لم يفعلوا ذلك.
فثبت أن هذه التوسلات أو هذه الاستدلالات كلها باطلة، وأن هذه الزيارة بدعية، وأن الذي يذهب إلى رسول الله مدعياً حياة النبي نقول له: حياة النبي حياة برزخية لا تقاس على الحياة الدنيوية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه شيئاً حتى يملك لك شيئاً فيستغفر لك الله جل في علاه.
ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين لأمته أن يذهبوا إلى قبره بعد مماته فيطلبوا منه الاستغفار لهم، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، فلما لم يفعلوا دل ذلك على أنه ليس بمشروع.
والزيارة الشركية هي أن يقصد بالرحلة إلى القبور الاستغاثة بالمقبور أو دعائه، فيصرف عبادة محضة لله لغير الله، بأن يسجد لهذا المقبور أو يستغيث به، أو يقول: اعف عني، اغفر لي، اشفني، ارزقني، أعطني، امنحني، أغثني.
فكل هذه عبادات تصرف لله، فيصرفها لغير الله، فتكون هذه زيارة شركية.
أو يحج لهذا المقبور؛ لأن الحج هو السفر قاصداً تعظيم البقعة التي سيسافر إليها، فالذين يسافرون إلى البدوي فهذا يعتبر حجاً للبدوي وتعظيماً لمكانه، فهذه زيارة شركية، ناهيك عن الطواف الذي يحدث.
فالطواف بالقبر أيضاً من الشرك الأكبر، فلذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : الطواف بالقبر بدعة.
والدليل على أن الطواف بالقبر شرك أكبر هو أن الطواف بالكعبة عبادة، فإن كان هو عبادة فصرفها لله توحيد وصرفها لغير الله شرك، وهذه الزيارة الشركية تخرج من الملة، ولا بد أن يحفظ الإنسان جناب التوحيد، ويبعد عن أي مسجد فيه قبر أو فيه معظم غير الله وغير رسوله صلى الله عليه وسلم.