قبل أن أتكلم على الشفاعة أقول: إن صاحب القرن قد التقم القرن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (
التقم صاحب القرن القرن، وأصغى ليؤذن له)، فإذا نفخ النفخة الأولى، صعق جميع الناس، وإذا نفخ في الصور النفخة الثانية فإذا الناس قيام ينظرون.
وكلهم يحشرون على أرض غير هذه الأرض وسماء غير هذه السماء، ويحشر الناس حفاة عراة غرلاً، أي: غير مختونين، ويبلغ العطش منهم مبلغه، ويشتد عليهم الكرب.
وعائشة رضي الله عنها اندهشت عندما سمعت هذه الأوصاف من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله، الرجال والنساء ينظر بعضنا إلى بعض، فقال: يا ابنة الصديق ، الأمر أشد من ذلك).
أي: أن الشمس تدنو من الرءوس قدر ميل، فيبدأ العرق يتصبب من الناس، فمنهم من يصل العرق إلى كعبيه، ومنهم من يصل إلى ركبتيه، ومنهم من يصل إلى حقويه، ومنهم من يصل إلى صدره، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً.
فيشتد الأمر عليهم، كما وصف الله جل في علاه ذلك الموقف فقال:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
[الحج:1-2].
سكارى يتخبطون يقولون: ألا تدعون ربنا يكشف عنا هذه الكربة؟ ألا تشعرون بما نحن فيه من كرب شديد؟!
فيجتمع رأيهم على أن يستشفعوا عند الله، ثم يقولون: من هو الذي يشفع لنا عند الله؟ فيذكرون آدم عليه السلام ويقولون: آدم عبد خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه، فيذهبون إلى آدم فيقولون: يا آدم، أنت خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما بلغ بنا من الكرب، فاشفع لنا عند ربك؛ ليخفف عنا ويفصل بيننا؟
فيقول آدم: أنا لست لها، لكن اذهبوا إلى نوح فإنه أول رسول أرسل إلى الأرض.
فيذهبون إلى نوح عليه السلام، فيقول: لست لها، ويذكر خطيئته، لكن اذهبوا إلى إبراهيم أبي الأنبياء.
فيذهبون إلى إبراهيم فيحيلهم على موسى، وموسى يحيلهم على عيسى، وكل نبي يقول: لست لها لست لها، اذهبوا إلى فلان، ثم يقول عيسى عليه السلام: اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
فيقول عليه الصلاة والسلام: أنا لها، أنا لها، فيذهب صلى الله عليه وسلم إلى تحت العرش فيسجد، وهذا هو المقام المحمود؛ تكرمة من الله لمحمد صلى الله عليه وسلم على رءوس الخلائق، أن الله جل في علاه لا يقبل أحداً يشفع لفصل القضاء بين الناس إلا محمداً صلى الله عليه وسلم.
فيأتي صلى الله عليه وسلم، فيخر ساجداً فيعلمه الله محامد يثني عليه بها، فيقال له: يا محمد، ارفع رأسك وسل تعطه، واشفع تشفع، فعند ذلك يرفع رأسه صلى الله عليه وسلم ويطلب من الله سبحانه وتعالى أن يأتي لفصل القضاء بين العباد.
ويأتي الله جل في علاه فيفصل بين العباد، وأول من يفصل الله جل في علاه بينهم الأمة الإسلامية.
ثم يضرب الجسر على متن جهنم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والجسر: هو الصراط الذي يعبرون عليه إلى الجنة فمنهم من يجتازه كطرفة عين، ومنهم من يهوي في جهنم والعياذ بالله.
وهو أدق من الشعرة وأحد من السيف، فيه كلاليب -أي: خطاطيف- تخطف الناس، هذه الكلاليب وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها كشوك السعدان، وهي إذا أخذت بيد أحد أو برجله، فلن يفلت منها، بل لا بد أن تنزل به إلى نار جهنم والعياذ بالله.
وفي هذا الموقف العظيم لا أحد من الناس يتكلم إلا الرسل، يقولون: (اللهم سلم سلم)، هذه مقولة إبراهيم ونوح وموسى وعيسى وأولي العزم من الرسل.
ويصف النبي صلى الله عليه وسلم عبور الناس على الصراط، فالمؤمنون الخلص الذين أطاعوا ربهم وأدوا الفرائض، وانتهوا عن المحرمات، فإنهم يمرون كطرفة عين، وكأجاويد الخيل، وكالريح المرسلة.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن أول أمة يعبرون الصراط هي الأمة الإسلامية؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا وأمتي أول من يجيز الصراط) والحمد لله على أن جعلنا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
فمنهم من يجتاز الصراط كطرفة عين، ومنهم من يجتازه كالريح المرسلة، ومنهم من يجتازه كأجاويد الخيل، وكالطير، ومنهم من يمشي، ومنهم من يزحف، وآخر هذه الأمة عبوراً على الصراط هو من يحبو على الصراط، ومنهم المكردس، ومنهم الذي تخطفه الكلاليب، ومنهم الذي يخدش لكن ينجو بفضل الله عليه.
وقد فسر ابن مسعود رضي الله عنه قول الله تعالى:
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا
[مريم:71] حيث قال: هو المرور على الصراط.
إذاً: يأتي محمد صلى الله عليه وسلم فيشفع في الخلائق الشفاعة العظمى، وهي المقام المحمود الذي وعده ربه جل وعلا.
والشفاعة شفاعتان:
شفاعة مثبتة، وشفاعة منفية.
الشفاعة المنفية
الشفاعة العظمى
أما الشفاعة المثبتة، فإنها تنقسم إلى أقسام:
القسم الأول: شفاعة خاصة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم إكراماً له من الله سبحانه وتعالى؛ لأنه أكرم الخلق على الله جل في علاه، وهذه الشفاعة على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: الشفاعة في أهل الموقف، وهذه خاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم؛ لأن الناس عندما يشتد عليهم الكرب فيذهبون إلى كل نبي يقول كل نبي لست لها لست لها، حتى يأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها أنا لها، ثم يسجد تحت العرش، فيقال له: يا محمد، ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع.
فهذا هو المقام المحمود وهي الشفاعة الخاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم تكرمة له من الله.
الشفاعة في فتح باب الجنة
الشفاعة لأبي طالب
النوع الثالث من الشفاعة الخاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم: شفاعته لعمه الكافر
أبي طالب:
مع أن الله نفى الشفاعة عن الكفار، بل ونهى عن الشفاعة للكافرين إلا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم في ذات مرة جاءه العباس فقال: (ماذا فعلت لعمك، كان ينافح عنك ويناصرك؟ فقال: لولا أنا -يعني: لولا شفاعتي- لكان في الدرك الأسفل من النار)، فإنه بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم أصبح في ضحضاح من النار، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يلبس نعلين من نار يغلي بهما دماغه).
فهذه شفاعة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وحتى هذه الشفاعة لم يقبلها الله كاملة؛ لأنها في أهل الشرك، فهي مستثناة هنا، وتكون في التخفيف عنه من العذاب وليس في العفو بالكلية.
إذاً: الشفاعة في الأنواع الثلاثة الأولى اتفق العلماء عليها، إلا بعض المتصوفة الذين أنكروا أصالة أن يكون أبو طالب في النار، لكن سبقت كلمة أهل السنة والجماعة على الأقسام الثلاثة في الشفاعة الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم.
الشفاعة في عدم دخول النار
أما الأقسام الثلاثة التي ستأتي فما أنكرها إلا المعتزلة والخوارج، وهي التي يشترك فيها النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، وهي كالآتي:
الشفاعة الأولى: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر الذين استحقوا النار ألا يدخلوا النار:
بمعنى: أن الذين فعلوا الكبائر وغلبت سيئاتهم حسناتهم، وقد قضى الله أنهم من أهل النار، يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيشفع فيهم، ويأتي المؤمنون فيشفعون فيهم، ويأتي الأنبياء والمرسلون فيشفعون فيهم، فيقبل الله هذه الشفاعة فلا يدخلهم النار.
هذه شفاعة عظيمة جداً في أهل الكبائر، والدليل العام على هذه المسألة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي).
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي إلا وكانت له دعوة مستجابة، وخبأت دعوتي شفاعة لأمتي) فيدخل تحتها العصاة ويدخل تحتها الأبرار.
أيضاً يستدل لها بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (ما من رجل يصلي عليه أربعون إلا شفعهم الله فيه).
وجه الدلالة من هذا الحديث قوله: (إلا شفعهم الله فيه) أي: أنهم يشفعون لهذا الرجل ويقبل الله شفاعتهم له.
الشفاعة في رفع الدرجات
الشفاعة في الخروج من النار
الشفاعة الأخيرة: الشفاعة في أناس من أهل الكبائر، غلبت سيئاتهم حسناتهم ودخلوا النار، مع أنهم موحدون لكن استحقوا دخول النار لذنوبهم، فصاروا فحماً، فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم والملائكة، والمؤمنون فيشفعون في هؤلاء فيخرجون من النار ثم يدخلون الجنة.
حيث يأمر الله جل في علاه الملائكة أن تأخذهم فتلقي كل واحد منهم في نهر الحياة، فيحيا ثم يدخل الجنة بهذه الشفاعة.
هذه الشفاعة اتفق أهل السنة والجماعة على أنها حاصلة للنبي صلى الله عليه وسلم وللأنبياء والملائكة والمؤمنين، غير أن المعتزلة والخوارج أنكروا هذه الشفاعة.
والذي اشتهر في إنكار هذه الشفاعة هو مصطفى محمود ، وهذا نتيجة لفكر الاعتزال، فإن المعتزلة يرون أن صاحب الكبيرة لا يمكن أن يخرج من النار، بل هو خالد مخلد في النار؛ لأن تأصيل الإيمان عند المعتزلة والخوارج تأصيل واحد، لكن يفترقان في الاسم، فالمعتزلة يقولون: صاحب الكبيرة هو في منزلة بين المنزلتين، لا نقول مؤمن ولا نقول كافر، أما الخوارج فقالوا: صاحب الكبيرة كافر خارج عن الملة، فلا يصلون عليه ولا يقبر في مقابر المسلمين، ولا يمكن أن يشفع له أحد؛ لأنه يعتبر خالداً مخلداً في نار جهنم، والعياذ بالله.
والمعتزلة أيضاً: نتيجتهم مثل هذه فإنهم يقولون: هو في الدنيا في منزلة بين المنزلتين، أما في الآخرة فهو خالد مخلد في نار جهنم، والعياذ بالله.
فهؤلاء أنكروا الشفاعة لأهل الكبائر؛ لأنهم لو أقروا بها لهدمت الأصول التي بنوها على فاعل الكبيرة؛ لأن الشفاعة لا تكون إلا لأهل التوحيد وهم قد أخرجوهم من دائرة أهل التوحيد بضلال منهم.
إذاً: هذه الشفاعة الأخيرة يشترك فيها الأنبياء والمرسلون والملائكة والمؤمنون، والدليل عليها قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي، يقول الله جل في علاه: (شفع النبيون وشفعت الملائكة وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط).
نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من أهل الشفاعة، وأن يؤهلنا لشفاعة نبينا فينا.