إسلام ويب

القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه - الأمور بمقاصدهاللشيخ : محمد حسن عبد الغفار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أمر الله تعالى بالتفقه في الدين وحث عليه، ولا يمكن أن تجد فقيهاً متمكناً لا يعرف القواعد الفقهية التي تضبط له فروع الفقه ومسائله. ومن القواعد الفقهية قاعدة: الأمور بمقاصدها، والتي تُعنى بالنيات، فلا تعتبر الأفعال أو تترتب عليها النتائج إلا بها، وهي تبين أنه قد تتحد الأعمال وبالنيات تختلف أحكامها، وللنية ثمرات، منها: التمييز بين العادات والعبادات، وتمييز العبادات بعضها من بعض، وقلب العادات إلى عبادات.
    إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    الإخوة الكرام! نفتتح اليوم بإذن الله كتاب القواعد الفقهية لفضيلة الشيخ/ محمد بن بكر بن إسماعيل ، ثم نتكلم عن أحكام المواريث، فنقسم الدرس بين القواعد الفقهية، وبين مهمات في أحكام المواريث.

    انتهينا من المقدمة والكلام على القواعد الفقهية وأهميتها، وأنه لا يمكن أن تجد فقيهاً متقناً لعلم الفقه بدون أصول الفقه، وبدون القواعد الفقهية، إلا أن يكون صانعاً لها والفرق بينهما يبينه إتقان الأصول والقواعد، والتي تجعل من الرجل صانعاً للخفاف أو بائعاً لها.

    وقد فرقنا بينهما، وهذا التفريق ليس منا، بل من فحل من فحول الفقه وهو ابن رشد في بداية المجتهد، فهناك فارق بعيد بين المقلد الذي هو بائع الخفاف وبين المجتهد الذي هو صانع الخفاف، فقد نجد من ينتسب إلى الفقه الشافعي مثلاً فيحفظ كل فروعه، وتسأله في مسألة منه فإذا هو كالسيل الجرار، أما إذا سألته في مسألة مستحدثة؛ لأنه لا يدرس العلوم أو ليس بفقيه بحق فلا يستطيع الجواب، ويضرب أخماساً بأسداس؛ ولذلك صانع الخفاف: هو الذي يضبط المسائل، وإذا أتاه فرع لم يقرأه يرد الفرع على الأصل، وهذا مصداقاً لقول الإمام مالك : ليس العلم بكثرة المسائل، ولكن العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء.

    نبدأ إن شاء الله بأول قاعدة، وهي أهم القواعد وهي: الأمور بمقاصدها، وأغلب هذه القواعد أدلتها من الكتاب والسنة.

    وأدلة هذه القاعدة كما يلي:

    أولاً: ما في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما الأعمال بالنيات)، و(إنما) أسلوب حصر أي: قبول الأعمال بالنيات صحة أو بطلاناً، ومن أساليب الحصر: ثم وإن وإلا، وتقديم ماحقه التأخير، أو تأخير ما حقه التقديم، مثل قوله تعالى: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].

    أي: نعبدك أنت وحدك أو نعبد إياك، فقدم المفعول على الفعل والفاعل، وإياك نستعين: فيها نفس المعنى.

    ومن أساليب الحصر: النفي والإثبات، مثل: لا إله إلا الله. ومعنى أسلوب الحصر: أن الحكم لا يتواجد إلا فيما ذكر، ويخرج كل ما كان غير هذا الذي ذكر.

    فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات)، والتقدير: قبول الأعمال وصحتها مرتبط بالنيات، فهذا أول دليل لهذه القاعدة العظيمة التي تشمل فروعاً كثيرة.

    وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه قال: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية)، فقال في الجهاد -الذي هو عمل الجوارح- إنه لا بد أن يقترن بنية وفي الحديث الذي يذكر الجيش الذي يخسف بأوله وآخره، قالت عائشة يا رسول الله! إن فيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يخسف بهم ثم يبعثون على نياتهم)، فذكر أصل الأصول وهو النية.

    وهناك أحاديث فيها ضعف، ولكن يستأنس بها مع هذه الثوابت، منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نية المؤمن خير من عمله).

    ومنها: ما جاء في النسائي والدارمي بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (جاءه رجل فقال: يا رسول الله! أرأيت الرجل يقاتل شجاعة، يقاتل حمية، ويقاتل من أجل غنيمة، ما له؟ قال: لا شيء له، ثم ذكر له السؤال مرة ثانية فقال: لا شيء له، ثم ثالثة فقال: لا شيء له، إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان صالحاً وابتغي به وجهه) ابتغاء وجه الله، وهذا أصل النية.

    ومنها: ما جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لـسعد : (إنك لن تنفق نفقة تبتغي -هذا وجه الشاهد- بها وجه الله إلا أجرت عليها)، أي ما أنفقت نفقة صغيرة ولا كبيرة.

    تعريف القاعدة وشرحها

    ولا بد من معرفة معنى القاعدة حتى نطبقها تطبيقاً صحيحاً، فالأمور: واحدها أمر، أو جمع أمر، والأمر في اللغة معناه: الحال أو الشأن، أي: الشأن والحال، قد يقبل أو يرد بالمقصد، ومقاصدها: جمع مقصد، والمقصد معناه: العزم على الشيء.

    إذاً: معنى قاعدة الأمور بمقاصدها: أن أحوال وشئون الإنسان في أفعاله تترتب على نيته، وفي عرف الفقهاء: الأمور بمقاصدها يعني: أعمال المكلف، والفرق بين القواعد الفقهية وبين القواعد الأصولية، أن القواعد الأصولية: تهتم بدلالات اللفظ مثل: الأصل في الأمر الوجوب، الأصل في النهي التحريم.

    أما القواعد الفقهية: فإنها تنظر إلى أعمال المكلفين سواء القولية أو الفعلية، فأحكامها ونتائجها تترتب على النية، بمعنى أن أعمال المكلف من قبول ورد، أو ثواب وعقاب، أو صحة وبطلان تترتب على النية، فمثلاً رجل قام يصلي، فصلاته لها صحة أو بطلان، ولها ثواب أو عقاب.

    ومثاله شخص سمع المؤذن يؤذن لصلاة الظهر، فإذا قام يصلي خالعاً النية فصلاته باطلة، كأن يصلي مع الإمام الظهر فقام وكبر، ولم يستحضر النية، ولم ينو أي صلاة أي: لم يعين صلاة، فلا يدري هل سيصلي ظهراً؟ أم عصراً؟ أم نافلة؟ أم فرضاً؟ فأتى بتكبيرة الإحرام والفاتحة والركوع والرفع والسجود والرفع إلى أن انتهى من الأربع الركعات، فحكم هذه الصلاة البطلان؟ لأن الأمور بمقاصدها.

    ومعنى الأمور بمقاصدها أنها: تصح إذا كان المقصد صحيح، وتبطل بضد ذلك.

    ومثلاً: لو دخل رجل فصلى، ونوى أن يصلي الظهر، لكن لما رأى الناس ينظرون لصلاته قال: سيمدحونني، فأحسن هذه الصلاة؛ من أجل أن الناس سيمدحونه على خشوعه، فحكم هذه الصلاة: أنها صحيحة ويأثم عليها.

    أما بالنسبة للشق الثاني الذي تكلمنا عنه في معنى الأمور بمقاصدها، أي: الثواب أو العقاب، فليس له عليها ثواب؛ لأن الأمور بمقاصدها، وله الثواب لو قصد بذلك وجه الله انبثاقاً من الحديث: (ما أنفقت نفقة صغيرة ولا كبيرة تبتغي)، وقيد بـ (تبتغي بذلك...) الحديث.

    إذاً: إذا صليت صلاة فأحسنت الركوع والسجود والرفع وجب أن أقول لك: اقصد بذلك وجه الله لتثاب على هذه الصلاة، وهذا معنى أو شرح التعريف.

    إذاً: شرح تعريف الأمور بمقاصدها عند الفقهاء: أن أعمال المكلفين سواء أكانت قولاً أم فعلاً، صحة أو بطلاناً، ثواباً أو عقاباً، تترتب على النية، وتطبيق هذه القاعدة كثير عند فقهائنا، والقواعد الفقهية تشمل جميع الأبواب، أو تشمل أغلب الأبواب، خلافاً للضوابط؛ لأن الضابط يشمل باباً واحداً كالطهارة مثلاً أو الزكاة.

    تطبيقات وصور لقاعدة الأمور بمقاصدها

    من هذه الصور ما يلي:

    الصورة الأولى: رجل سار بسيارته فوجد أمامه شبح رجل فقتله بالسيارة، فنأتي بالصور لنطبق القاعدة عليها؛ ليعلم طالب العلم كيف يطبق القواعد وكيف كان الفقهاء يطبقون هذه القواعد.

    عندنا رجل نريد الحكم عليه، والحكم يحال إلى القاضي الفقيه النحرير، رجل قتل رجلاً بسيارة، فعند الحكم عليه نأتي إلى القاعدة، فيقول الفقيه: الأمور بمقاصدها، إذاً: ننظر إلى الفاعل وإلى قصده ونيته، فإن كانت النية: قتله عمداً، فله حكم، وإن كانت النية أن لا يقتله عمداً، وقتله خطأً، فله حكم آخر، مع أن القتل واحد.

    إذاً: فالمقاصد تغير لنا الأحكام، فإذا كان صاحب السيارة دهس هذا الرجل وقتله قاصداً ذلك مع سبق الإصرار والترصد -كما يقولون- فحكمه القتل والقصاص.

    ولذلك قال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ .. [البقرة:178]، إلى آخر الآيات، وقال الله تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45].

    فنطبق القاعدة، أي: الأمور بمقاصدها، فهو لما قصد قتله حكمه بهذا المقصد القتل، فتأملوا إلى أنه باختلاف المقاصد تختلف الأحكام، وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يقتل، وإما أن يأخذ الدية).

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث)، منها: (النفس بالنفس)، والمقصود أن حكمه القتل.

    لكن لما غاير القصد، فما قصد القتل عمداً، بل قتله خطأً، فيتغير الحكم، مع أن الفعل واحد، والضرب بالسيارة واحد، لكن النية غيرت الأحكام في الفعل الواحد، فلما ذهب عن نية العمد قلنا له: حكمك حكم قتل الخطأ، وقتل الخطأ حكمه: الدية مخمسة وصوم شهرين.

    فلما كان قتله خطأ غاير حكمه حكم العمد؛ للقاعدة، فكل بنيته، و: (إنما الأعمال بالنية)صحة أو بطلاناً ثواباً أو عقاباً، والأمور بمقاصدها، وهذه الصور في الحدود.

    ومن الصور في الأموال: رجل كان يحب رجلاً، ورآه في ضيق فأعطاه مالاً، وقال: أراك تحتاج هذا المال، وهو ألف جنيه مثلاً، فلما أعطاه المال وتصرف الرجل فيه، بعد مدة جلس يتساءل لم لم أسأل الفقيه المقعد المؤصل ما حكم هذا المال؟

    فالإجابة ستكون من الفقيه بأن يقول: الأمور بمقاصدها، ومالك فيه تفصيل، فإن كنت أعطيته هذا المال هبة فلا رد؛ لأن الموهوب له قد امتلك هذا المال بالقبض ولا رد، وكذلك إن أرادت أن تتصدق عليه.

    وإن أردت بذلك المال أن تعطيه قرضاً دون أن يجر النفع فإن هذا المال حكمه أنه دين، ولا بد من الرد حين ميسرة إن كان معسراً؛ لقوله تعالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، فإذا قصدت بإعطائك له المال أن يكون وديعة، أو أمانة فتلف في يده دون تفريط فحكمه عدم الرد، إلا حين الطلب؛ لأن يد المودع يد أمان، ليست يد ضمان أبداً.

    لو أن أحد الناس أخذ وديعة يحملها ويحفظها، ولم يفرط فيها، فسرقت ليس عليه شيء؛ لأن يده يد أمان وليست يد ضمان.

    إذاً: يتغاير الحكم في أكثر من حالة بالمقصد، فلما جاء المقلد الأعمى الذي يسمع هذا فيقول: أنت رجل متذبذب، وليس عندك ثمة علم؛ ففي مسألة واحدة أو فعل واحد أعطيتنا ثلاثة أحكام! فرد عليه الفقيه المقعد بقوله: أنت مقلد وما كان لك أن تتكلم، ولو تعلمت العلم لعلمت أن هذا الحكم تغاير بقاعدة مهمة جداً عند أهل الفقه والعلوم، وهي: الأمور بمقاصدها، وإذا تغيرت النية تغير الحكم تبعاً لذلك فالحديث يقول: (إنما الأعمال بالنيات).

    الصورة الثالثة -وهي في الأموال أيضاً-: رجل كان صاحب أمل، ويكثر من أحلام اليقظة، وكلما يسير في الشارع يقول: لو رأيت مليوناً، أو ألفاً أو ألفين، فقدر الله عليه وهو يسير فرأى أسورة من ذهب تتلألأ أمامه، خطفت بصره، فنظر إليها فأخذها بيده، وجلس يحلم: سأتزوج بها المرأة الجميلة التي أحبها، وتنجب، ثم أعلم هذه البنت القرآن، ثم أبيع هذه الأسورة وأعمل شركة كذا وكذا، حتى جاء الغراب فأخذها من يده، وضيع عليه كل أحلامه التي يريدها، فجاء رجل أسود، وكان فحلاً كالجبل، فوقف أمامه فقال له وهو يأخذ بتلابيبه: أين أسورتي؟ رأيتها في يدك فأنت سارق، قال: لا والله! لست بسارق، أهي أسورتك؟ قال: نعم، هي أسورتي قال: إذاً يحل هذا الإشكال الفقيه، فذهبوا للفقيه المقعد المؤصل فسألوه عن هذه المسألة، فقال لهم: عندي قاعدة وهي: الأمور بمقاصدها: ودليلها: (إنما الأعمال بالنيات).

    فقال: ننظر في الرجل الذي أخذ الأسورة، فله أحوال، وهذه الأحوال متغايرة، لكنها مرتبة على نيته في الالتقاط، فإن التقطها ليمتلكها، وهو رجل قتلته أحلام اليقظة، فلما جعلها على طرف إصبعه، جاء الغراب فأخذها فنقول: إنه فرط فيها، وما حافظ عليها، بنية أن ويكون غاصباً، والغاصب يضمن سواء أفرط أم لم يفرط، والقاعدة عند العلماء: إن الغاصب يضمن إذا فرط أو لم يفرط.

    فنقول له: حالك كالأول بنيتك، فهل تقسم بالله على هذه النية؟ أي: أنك التقطت هذه الأسورة لتمتلكها، وهنا تكون غاصباً، وتضمن الأسورة للرجل، فقال الرجل: لا والله! ما نويت هذه النية.

    ثم نقول له: فإن كنت التقطتها لتعرفها، أي: لتكون لقطة، فأنت الآن يدك يد أمان، فإن فرطت تضمن، وإن لم تفرط لم تضمن، فقال: ما فرطت بل أخذتها في إصبعي وجاء الغراب هذا من غير أن أراه فخطفها، فيقال له: إذاً: فلست بمفرط فلا شيء عليك، وهذه هي الحالة الثانية.

    ونقول: في الالتقاط يمكن أن تكون له نية أخرى غير النية الأولى الثانية، وهي: أن يلتقطها ليتصدق بها، وفي هذه الحالة نقول له: أنت ضامن؛ لأنك تصدقت بما لا تملك، وهي ليست ملكاً لك، فرجعت المسألة حكمها كحكم الأولى فتضمن للرجل أسورته.

    وهناك صورة أخرى من باب العبادات وهي كالتالي: رجل كان غنياً يملك النصاب، وقبل أن يحول عليه الحول وجد فقراء كثر فرق لهم قلبه، والله جل في علاه يرحم من يرحم من في الأرض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، إنما يرحم الله من عباده الرحماء)، فرحمة بالذين ينامون في الشارع، ذهب يفرق عليهم مالاً، ثم بعدما حال عليه الحول، وقف الناس عند بيته يضجون أين الزكاة؟ أين الحق الواجب الذي عليك؟ فوقف الرجل يتذكر، وقال: قبل الحول قد أخرجت هذا المال، فما حكم هذا المال الذي أخرجته: أهو من الزكاة أم ليس من الزكاة؟ فاحتاج الرجل لفقيه مقعد يخرج الأحكام على القواعد، وقال له: أخرجت المال قبل الحول، والناس يطالبونني الآن، فما حكم هذا المال الذي أخرجته؟

    فقال له الفقيه المقعد: عندنا قاعدة وهي: الأمور بمقاصدها، فالأحوال والأحكام تتغاير بتغاير النيات، فلك أحوال في إخراج هذا المال: فإن أعطيت هذا المال تنوي به الاستسلاف، وأنه من الزكاة -والاستسلاف هو: تقديم مال الزكاة ويصح تقديم مال الزكاة، فكل عبادة أقتت بوقت لا يصح أن يأتي بها قبل وقتها، فهذه قاعدة عامة، وتقديم الزكاة من هذه القاعدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من العباس زكاة عامين أو سنتين.

    إذاً: فإن كانت النية عندك الاستسلاف أن تقدم مال الزكاة، فتبرأ ساحتك وليس عليك شيء، وإذا طالبك أحد فقل: أخرجتها وبرئت ساحتي أمام الله جل في علاه، وهذه هي الحالة الأولى.

    الحالة الثانية: إن أردت بنيتك أن تقدم الزكاة، لكن النية تغيرت وأنت تدفع المال فجعلتها صدقة، وجب عليك أن تخرج الزكاة.

    الحالة الثالثة: إن نوى أن تكون هبة لهؤلاء الناس، فنقول له: هذه الهبة أنت مثاب عليها عند ربك جل في علاه، وعليك أن تخرج الزكاة من جديد.

    والفرق بين الصورة الثالثة والثانية: أن الصدقة يبتغي بها وجه الله، أما الهبة فيمكن أن يبتغي بها وجه القرب للقرين، أو لمن فوقه، هذا هو الضابط الفارق المميز بين الهبة وبين الصدقة.

    ونقول له: حتى لو فعلت ذلك لتتقرب أو تتحبب لمن أعطيته فحكمك: أنك لا بد أن تخرج الزكاة.

    فهذه صور تبين لنا كيف كان علماؤنا يطبقون هذه القاعدة العظيمة الجليلة: الأمور بمقاصدها.

    توابع مهمة لقاعدة الأمور بمقاصدها

    هذه توابع مهمة جداً لهذه القاعدة منها:

    أولاً: إذا قلنا بالتعريف الفقهي: أن أعمال المكلف صحة وبطلاناً إثابة أو رداً تترتب على النية، و: (إنما الأعمال بالنيات).

    فلو انتفى شيء من هذه القيود التي بانتفائها لا يوجد الحكم، كما قعدنا قاعدة سابقة، فلو وجدت النية التي رأس الأمر عليها دون العمل لا يترتب عليها الآثار الشرعية، وبالمثال يتضح المقال: رجل تزوج امرأة، كغراب البين التي كانت دائماً تقول للرجل الذي يقول: لا بد أن تتساوى المرأة مع الرجل في الميراث، وحكموا عليه في المحكمة بالردة، وقالت: هذا زوجي يقيم الليل، والحمد لله أن ربنا رزقه بهذه المرأة، وهذا أول عقاب في الدنيا، فما يدخل إلا وتنظر له نظرة وحش كاسر، ولا يسمع إلا جعجعة أو لا يرى إلا وليداً تصفعه على وجهه، وكان ضعيف الشخصية، كلما يدخل يقول: ربنا نجني منها، فإذا نظر إليها قال: طالق ألف مرة أو سبعين مرة، وكل يوم من ضيقه منها يتحدث مع نفسه: هي طالق، طلقتها اليوم، سأطلقها غداً، طالق ألف مرة، طالق مليون مرة، لكنه من جبنه لا يستطيع أن يتلفظ. وهو إذا تلفظ لا بد أن تتزوج زوجاً غيره فيبتلى بها لتحل له، وذهب هذا الرجل الضعيف إلى الرجل الفقيه غير المقعد فقال له: إني أبغض هذه المرأة وكلما دخلت عليها ورأيت وجهها العبوس قلت في قلبي: طالق، ولا أستطيع أن أصرح بها، وقلت: طالق طالق طالق قال: يا بني! القاعدة عند العلماء: الأمور بمقاصدها، وقد نويت طلاقها، وإنما الأعمال بالنيات. وأنت قد طلقتها ألف مرة، فقد عصيت الله بتسعمائة وتسعين مرة، وبثلاث قد بانت منك بينونة كبرى، ولا تحل لك حتى تنكح زوجاً غيرك، وهؤلاء الفقهاء هم الذين تعج الأسواق بهم، فارتاب الرجل في قوله، وقال: لعلي أنظر إلى فقيه مقعد ومؤصل، فرجع للفقيه المقعد المؤصل فأخبره، فقال: من قال لك ذلك؟ قال الفقيه الفلاني قال: هذه ترجع إلى القاعدة التي قعدها، وهي قاعدة صحيحة، لكن تطبيقه لها كان تطبيقاً فاحشاً خطأ، إذ أن القاعدة: الأعمال بالنيات، وأنت لم تعمل، ولم تتكلم، ويلوح في الأفق أمامي دليل يريح قلبك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تكلم أو تعمل).

    إذاً: أناط المسألة بالعمل، فإذاً: ارجع فهي زوجتك، إلا أن تطلقها بلسانك.

    فهنا خرجت القاعدة وما طبقناها تطبيقاً دقيقاً، وعلمنا: أن الأعمال الظاهرة ترتبط بهذه النيات، هذه واحدة.

    ثانياً: استثناء، وذلك أنا قعدنا: إن هذه الأحكام في القواعد أحكام أغلبية، فانظروا إلى هذا الاستثناء وهو: إلغاء مسألة النية في الظاهر الذي لا يحتاج لتأويل، وقلنا هذا في باب الطلاق أو النكاح لحفظ الفروج؛ لأن هذه المسألة من أهم المسائل، والفروج حقها عند الله عظيم، فلحفظ الفروج قال علماؤنا: الظاهر في الطلاق أو النكاح أنه لا يحتاج لنية، فإذا دخل رجل على امرأته فقبلها، وجلس معها يسايرها، ووجد منها الخير كله، فأحبها كثيراً، وبعدما أحبها وتكلم معها قال: أنت طالق يا حبيبتي، وهو يمازحها طبعاً مزاحاً أسود، فلما قال: أنت طالق بكت المرأة، فقال: ما يبكيك، هذا مزاح ولا يقع فقالت: لا بد أن ترجع للفقيه، فرجع للفقيه أو المأذون الشرعي، فقال: قلت لها طالق ولم أنو الطلاق، فقال: يا بني! (إنما الأعمال بالنيات)، والأمور بمقاصدها، ارجع لامرأتك فهي امرأتك، وليست بطالق، فلما رجع إلى الفقيه المقعد قال له: نعم، الأمور بمقاصدها، لكن: جاءني استثناء، أو جاءتني آية ظاهرة جداً، أو جاءني حديث ظاهر جداً، أما الآية فقال الله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ [البقرة:230]، وهذه عامة مطلقة، ويبقى المطلق على إطلاقه ما لم يأت المقيد يقيده، ويبقى العام على عمومه ما لم يأت مخصص، فقال: فَإِنْ طَلَّقَهَا ، ولم يفتقر الأمر إلى نية، وأما الحديث فقال النبي صلى الله عليه وسلم -وهو حديث مختلف فيه لكن هناك من صححه-: (ثلاث جدهن وهزلهن جد)، إذاً: حتى ولو كنت مازحاً فقد ألغي الحديث المزح.

    وهنا القاعدة صحيحة، لكنه -أي: الفقيه غير المقعد- لم يطلع اطلاعاً واسعاً حتى يأتيك بالحكم الصحيح، فأنت الآن وإن كنت مازحاً فقد طلقت امرأتك.

    فإذا طلقتها وأنت مازح فقد أحللتها من الوثاق إلا في حالة واحدة، وهي: إذا احتفت القرائن، وبينت لنا أنك جاهل عن هذه النية، أو قلت هذا الكلام وأنت لا تريده، ولولا أن هذا حدث في زمن الصحابة ما قلنا به، والذي جعلنا نقول بذلك: أن القرائن المحتفة إذا جاءت وقوت عدم إرادة الطلاق قلنا به.

    ففي زمن عمر بن الخطاب عندما جاءت المرأة تقول لزوجها -وكانت تبغضه وتريد أن تنفك منه- ما أرضى بك حتى تتغزل فيَّ فقال: أنت قمر أنت شمس أنت حسناء، قالت: لا، والله ما أرضى إلا أن تقول أنت خلية طالق فقال: أنت قمر خلية طالق، فهنا الكلام ظاهر جداً أنه يتغزل ولا يريد الطلاق بحال من الأحوال، فهو قال: أنت قمر أنت شمس، قالت: هذا الغزل لا أريده، قال: لقنيني قالت: قل -وكان غراً لا يعلم أن هذا طلاق-: خلية طالق، قال: أنت قمر خلية طالق.

    فهنا القرائن المحتفة أثبتت عدم إرادته الطلاق جزماً، فلما ذهب إلى عمر -الفقيه- قال له عمر بن الخطاب : ارجع فأوجعها ضرباً فإنها امرأتك، وليست بطالق.

    إذاً: فهذه مستثناه، وهذا الاستثناء إذا احتفت به قرائن تثبت الجزم في إرادة الطلاق فيقع، أو تثبت الجزم في عدم إرادة الطلاق فلا يقع.

    فهنا فرق بين النية وبين اللفظ، فاللفظ الصريح أقامه الله مقام النية، فلا يحتاج إلى تأويل، ولا يحتاج إلى نيات، قال الله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230]، وأيضاً بين النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد).

    إذا: فحتى لو مازحها فقد ألغيت النية وبقي اللفظ الظاهر، وهذه الحكمة لحفظ الفروج ولئلا يتلاعب أحد، فيأتي رجل ويطلق امرأته مرة ومرتين وثلاثاً، ولكنه يعشقها، ولا يريد أن ينفك عنها، لا والله كنت مازحاً وما نويت الطلاق،ولو قلنا بهذا القول لفتحنا باباً كبيراً، وشراً مستطيراً على الناس، لكن حفاظاً على هذه الفروج قلنا: أنزل الله الظاهر منزلة الباطن فلا نحتج بهذه القاعدة، فهذا كل ما يرتبط بهذه القاعدة العظيمة من صور.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088451768

    عدد مرات الحفظ

    776819532