توجد قاعدة أصولية تتعلق بمسائل كثيرة من الفقه، ولابد من الاطلاع عليها، وهي قاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
والمعنى: أن الله جل في علاه إذا أمر بشيء فقد أحب أن يرى هذا الشيء قد فعله العبد، وائتمر به المكلف، وإذا أمر بشيء فقد أمر بكل السبل التي توصل إلى هذا الشيء، وحرم كل السبل التي تمنع من الوصول إلى هذا الشيء.
فمثلاً: أمر الله جل في علاه بأن يسارع المرء إذا سمع النداء يوم الجمعة إلى المساجد حتى يقيم هذه الشعيرة الإسلامية صلاة الجمعة؛ ولذلك يسر كل الطرق والوسائل التي توصل إلى تحقيق هذا، وحرم كل الطرق والوسائل التي تقطع المرء عن أن يصل إلى ذلك، فقد حرم البيع وقت النداء الثاني لأنه يشغل المكلف عن أن يذهب إلى صلاة الجمعة، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والوسائل لها أحكام المقاصد.
ومعنى هذه القاعدة: أن كل واجب لا يتم إلا بشيء معين فهذا الشيء يكون واجباً، سواء أكان شرطاً أو كان سبباً، وما الفرق بين الشرط والسبب؟
الصحيح الراجح أنهما يتفقان ويفترقان:
يتفقان لأن الشرط خارج عن ماهية الشيء، والسبب خارج عن ماهية الشيء.
ويفترقان؛ لأن الشرط لا يلزم من وجوده الوجود، ويلزم من عدمه العدم، كالوضوء للصلاة لا يلزم من وجوده الوجود، ويلزم من عدمه العدم.
أما السبب فهو كالركن يلزم من وجوده الوجود، ويلزم من عدمه العدم، كقول الله تعالى:
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ
[الإسراء:78]، فدلوك الشمس سبب لفرضية صلاة الظهر، فكلما حدث الدلوك وجبت الصلاة، فيلزم من وجود السبب الوجود، ويلزم من عدمه العدم.
من الفروع التي تتفرع على هذه القاعدة المهمة:
رجل له زوجتان: هند وسعاد، وحدث بينه وبين سعاد شيء، وحدث بينه وبين هند شيء، فطلق إحداهما وهو خال طلقة بائنة، ثم حدث له ذهول في عقله فنسي هل طلق هنداً أم طلق سعاد؟
فالواجب عليه عدم النظر إلى من طلقها، وعدم إمساكها، وهذا لا يمكن إلا إذا امتنع عن الاثنتين؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهو قد اختلط عليه الأمر.
ومن فروع هذه القاعدة: لو بنى بعض المسلمين عمارة، وفيها طابق للمسلمين وطابق لأهل الكتاب، فقدر الله وأصيبت البناية بالزلازل فوقعت البناية بأسرها على كل من فيها من أهل الإسلام ومن أهل الكفر، فيجب على أهل الإسلام تغسيل موتاهم وتكفينهم، والصلاة عليهم، فرأوا رجلاً ميتاً فتحيروا هل هو مسلم أم كافر؟
وتغسيل الميت المسلم واجب، والصلاة عليه واجبة، وهو فرض كفاية إن قام به البعض سقط الإثم عن الآخرين.
فنقول: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فيغسل الجميع ويكفن الجميع، ويصلى على الجميع إلا من علمنا أنه كافر.
فإن قيل: كيف أصلي على كافر؟ وكيف أدعو لكافر والله قد نهى عن الاستغفار للكافر، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك؟!
فالجواب: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولا يتم تغسيل المسلمين إلا بتغسيل من معهم، فقلنا بوجوب التغسيل لهم جميعاً؛ لأنه ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وعندما تصلي تنوي أن هذه الصلاة على المسلم فقط.
ومثل هذه المسألة ما لو تزوج مسلم امرأة نصرانية من أوروبا، ثم ماتت والحمل في بطنها، فهل تدفن في مقابر المسلمين أم تدفن في مقابر الكافرين؟ وهل يصلى عليها أو لا يصلى عليها؟
لا يصلى عليها إن كان الجنين في بطن أمه صغيراً، لكن لو كانت على مشارف الولادة في الشهر التاسع فيصلى على الجنين.
ومن فروع هذه القاعدة: إذا صلى المكلف خلف الإمام، وكان الإمام في الركعة الثالثة، والمشهور أن سترة الإمام سترة للمأموم، فلما سلم الإمام أصبح المأموم منفرداً، فكان يصلي بجانب السارية، والناس يمرون من أمامه فخشي على صلاته من البطلان، بل خشي أن يمر الشيطان من أمامه ويقطع عليه الصلاة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
فيجب عليه أن يمشي إلى السارية، وهو في صلاته من أجل أن يصلي إلى سترة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة)، وهذا أمر وظاهر الأمر الوجوب، بل قال: (وليدن منها)، وهذا الوجوب لا يتم إلا بالمشي إلى السارية.
وهذا الذي قاله مالك في المدونة، قال رحمه الله: المسبوق إذا قام ليتم صلاته فأصبح منفرداً فله أن يمشي إلى السارية، وهذا الذي طبقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه عندما دخل فوجد رجلاً يصلي منفرداً إلى غير سترة فأخذه بأذنه فجره إلى السارية، وجعلها سترة له.
فهذا تقرير لهذه القاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ومن هذه الفروع أيضاً: رجل سافر براً إلى أرض الحجاز يريد العمرة، فجلس في الصحراء ليرتاح، فدخل وقت صلاة الظهر أو صلاة العصر، فبحث عن الماء فلم يجده، فيعدل إلى التيمم، وإن كان الماء وهو الأصل في التطهير غير موجود! فلا تسقط عنه الصلاة ما دام عقله معه، فإن كان كل الجسد لا يتحرك فيومئ برأسه وإلا بعينه.
فإن وجد رجلاً معه زجاجات الماء ويبيعها بثمن المثل، فيجب عليه أن يشتريها ويتوضأ لتصح صلاته؛ لأن الصلاة مع وجود الماء لا تصح إلا به، وهذا من باب: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
كذلك إن كان في الصحراء -مثلاً- فسرق سارق ثيابه وأصبح عارياً، ووجد رجلاً يبيع هذه الملابس، فيجب عليه أن يشتري هذه الملابس ستراً للعورة حتى تصح الصلاة، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.