نأتي إلى مسألة مهمة جداً ذكرها الإمام
ابن خزيمة في باب: ذكر أخبار رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة الصورة، وهي مسألة متعلقة بصفات الله جل وعلا، وهذه المسألة منبعها من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن
أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (
لا يقولن أحدكم لأحد: قبح الله وجهك؛ فإن الله خلق آدم على صورته)، وقال: (
إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته).
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقبحوا الوجه، فإن ابن آدم خلق على صورة الرحمن).
وهذا الباب باب عظيم جداً؛ فهو يتكلم عن صفة خبرية، فهل لله صورة؟ نحن نعرف أن للإنسان صورة متكونة من السمع والبصر واليد والرجل والساق ونحوه، فهذه صورة الإنسان، فهل لله صورة؟
هذا الباب عظيم جداً، والكلام عليه ينزل تحت الحديث العظيم المتفق عليه: (إن الله خلق آدم على صورته)، واختلاف العلماء محصور في هذه الهاء، فهل هذا الضمير يعود على آدم يعني: على صورة آدم، أم أنه يعود على الله جل وعلا يعني: على صورة الله؟ ولمن ستضاف الصورة هنا؟
أما الرواية الأكثر إيضاحاً من سالفتها فقد اختلف العلماء اختلافاً شديداً في تصحيح إسنادها أو تضعيفه، وهو حديث في سنن النسائي : (إن الله خلق آدم على صورة الرحمن)، فالصورة هنا أضيفت للرحمن تصريحاً، إذاً: فلله صورة عملاً بهذا الحديث، لكنهم اختلفوا في صحته وضعفه، فصحح هذه الرواية الإمام أحمد وإسحاق وأكثر المحققين، ومن تتبع طرق هذا الحديث وأسانيده وجد أن أسانيده صحيحة، فأقل الأحوال في هذا الحديث أن يقال فيه: صحيح لغيره، وقد ضعفه ابن خزيمة وكثير من المحدثين أيضاً، والغرض المقصود: أن العلماء اختلفوا في هذا الضمير على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إن الهاء هنا عائدة على المضروب، قال: (لا تضرب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته) يعني: خلق آدم على صورة المضروب الذي ضربته على وجهه، فإذاً: ليس لها صلة بالله جل وعلا، وإذاً لا دليل في الحديث إن قلنا: بأن الهاء تعود على المضروب.
القول الثاني: إن الهاء تعود على آدم؛ لأنه أقرب مذكور، وهذا صحيح في اللغة؛ لأن الأصل في الضمير أن يعود على أقرب مذكور، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق آدم على صورته) الهاء هنا عائدة على القريب وهو: آدم، يعني: خلق على هذه الصورة التي عرفتموها بما ذكرت لكم، ويعضد هذا الفهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق آدم على صورته طوله ستون ذراعاً) أي: على صورته التي أصف لكم: فطوله ستون ذراعاً، وهذا من القوة بمكان، لكنه يرد برد قوي جداً: إذ لا فائدة في الحديث إذا جعلنا الضمير يعود على آدم، فيكون معناه: إن الله خلق آدم على صورة آدم، وماذا كانت صورة آدم قبل أن يخلق آدم؟!
القول الثالث وهو: التأويل الصحيح: إن الهاء تعود على الله جل وعلا، يعني: خلق آدم على صورة الله جل وعلا، وهذا الذي نحى إليه كثير من العلماء حتى ابن خزيمة ، لكنه أولها وقال: الصورة مضافة إلى الله جل وعلا، لكن إضافتها إليه من باب إضافة المخلوق إلى الخالق، فوقع في الخطأ.
أنواع الإضافة إلى الله جل في علاه
بينا في القواعد المهمة في الصفات: أن الذي يضاف إلى الله نوعان: إضافة أعيان قائمة بذاتها، وإضافة معاني.
أما إضافة الأعيان: فهي الأعيان القائمة بذاتها: كتسمية الكعبة: ببيت الله، فإن البيت يضاف إلى الله تشريفاً وإجلالاً وتعظيماً كما قال تعالى:
نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا
[الشمس:13]، فإضافة الناقة إلى الله من باب إضافة المخلوق إلى الخالق؛ لبيان التشريف والإجلال والتعظيم، كما قال تعالى:
إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ
[النساء:171]، فهل هي إضافة صفة إلى موصوف أم هي إضافة مخلوق لخالق؟ إضافة مخلوق لخالق، لكن إضافتها إلى الله إضافة تعظيم وتشريف.
وأما إضافة المعاني: فليست قائمة بذاتها، كأن تقول مثلاً: القرآن كلام الله، فهل الكلام عين قائمة بذاتها؟ لا، بل هو معنى، فإضافة المعنى إلى الله: هي إضافة صفة إلى موصوف، وهنا يقول ابن خزيمة : إن صورة الله في هذا الحديث مخلوقة، وكأنه يقول: إنها صورة آدم ولكنها مضافة إلى الله لغرض الإجلال والتشريف؛ لأنها إضافة مخلوق إلى خالق، وهذا التأويل بعيد جداً، والتأويل الصحيح الراجح الذي عليه المحققون من أهل السنة والجماعة: أن الصورة صفة خبرية من صفات الله جل وعلا، وأن الضمير يعود على الله، يعني: خلق الله آدم على صورة الله، وقال: (خلق الله آدم على صورة الرحمن)، فنؤمن إيماناً جازماً ونعتقد اعتقاداً صحيحاً كما اعتقد الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وابن قتيبة وكثير من أهل السنة والجماعة فنقول: إنها صفة له جل وعلا، وما لنا ألا نؤمن بها؟ فاليد والسمع والبصر صفات من صفات الله جل وعلا، وعلينا أن نؤمن بها بلا شك، كما أننا نقرر القاعدة التي تقول: الصورة في اللغة معلومة، والإيمان بها واجب، والكيف مجهول، والسؤال عن كيفيتها بدعة، فالصورة مضافة إلى الله إضافة صفة إلى موصوف، فيكون الضمير هنا عائداً على الله جل وعلا، وتعضد الرواية الأخرى هذا القول: وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق آدم على صورة الرحمن)، فالصورة صفة من صفات الله جل وعلا الخبرية، ومعنى ذلك: أن لله صورة لا تشبه صورة الإنسان، فلله صورة تليق بجلاله وكماله وعظمته وبهائه، فهو سميع بصير، قدير متكلم بما شاء في أي: وقت شاء، له رجل وساق وقدم، وله يد وأصبع، فهذه هي صورة الله جل في علاه، كما أن لآدم صورته، فهو سميع بصير متكلم بما شاء وقت ما يشاء، وهذا إجمالاً هو الراجح من أقوال أهل العلم.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.