من تمام النعمة وعظيم فضل الله عز وجل على المؤمنين أن يريهم وجهه الكريم يوم القيامة، وهذه النعمة لا يحصل عليها الكافرون، فهم محرومون من النظر إلى وجهه سبحانه.
اختلاف العلماء في رؤية الكافرين لربهم يوم القيامة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فإن من أشرف مسائل العقيدة على الإطلاق هي مسألة رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، كيف لا وهي تتعلق بالنظر إلى وجه الله الكريم، والمتعة والنعيم التامان في الجنة يكونان بالنظر إلى وجه سبحانه.
وقد سبق ذكر الرؤية وأدلتها والمخالفين لأهل السنة والجماعة فيها، وكيفية الرد عليهم، والمسألة الأخرى هي رؤية الكافرين لله جل في علاه يوم القيامة، فهل يحرمون في عرصات يوم القيامة من رؤيته أم يرونه عند الحساب؟
والجواب: أن الناس ينقسمون إلى أقسم ثلاثة:
القسم الأول: المؤمنون الخلص الذين آمنوا بالله ووحدوه حق التوحيد، وآمنوا به رباً ولم يجحدوا شرعه سبحانه جل في علاه، فأتمروا بأمره وبأمر نبيه صلى الله عليه وسلم.
والقسم الثاني: الكافرون الخلص الذين جحدوا ربهم، وجحدوا شرعه، وخالفوا أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فأظهروا الكفر، وكانوا مرصاداً وحرباً لدين الله جل في علاه، وحرباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
القسم الثالث: مذبذبون بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا هؤلاء، فلا هم مؤمنون خلص ظاهراً وباطناً، ولا كافرون خلص ظاهراً وباطناً، فأبطنوا الكفر والجحود والاستكبار والاستعلاء على دين الله جل وعلا وأظهروا الإسلام، فكان لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين.
والرؤية الثانية: رؤية فتنة ومحنة واختبار، وفيها توبيخ وزجر، وهذه الرؤية هل هي رؤية عامة أم هي رؤية خاصة بالمؤمنين؟ اختلف العلماء من أهل السنة والجماعة في ذلك على أقوال ثلاثة:
القول الأول: أن الكافرين والمؤمنين والمنافقين يرون ربهم على عرصات يوم القيامة قبل أن يضرب الجسر، وقبل أن يذهبوا إلى الجنات أو النيران، فعند الحساب يرى الكافرون والمؤمنون والمنافقون ربهم جل في علاه. وهذا هو القول الأول من أقوال أهل السنة والجماعة.
فكل ذلك لقاء بين الرب وبين العبد، واللقاء يستلزم الرؤية والمعاينة.
واستدلوا أيضاً بما استدل به المصنف -وإن كانت أسانيده ضعيفة- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فينظر الله إليهم -يعني في عرصات يوم القيامة- وينظرون إليه)، وهذا عام في جميع أهل الموقف أنهم ينظرون إلى الله، وينظر الله جل وعلا لهم، وأهل الموقف فيهم المؤمنون الخلص، والكافرون الخلص، والمنافقون الذين هم وسط بين المنافقين وبين المؤمنين، وهذا يدل على أن الكافرين سيرون ربهم، لكن هذه الرؤية ليست رؤية إكرام ولا سعادة ولا سرور، بل هي رؤية امتحان واختبار وحسرة وألم، حتى إذا أدخلهم الله النار حرموا من رؤيته.
القول الثاني من أقوال أهل السنة والجماعة: أنه لا يرى الله جل وعلا أحد لا في عرصات يوم القيامة ولا في الجنات إلا المؤمنون الخلص فقط؛ لأن رؤية الله شرف عظيم لا يرتقي إليه منافق ولا كافر، فالمؤمن فقط هو الذي سيرى ربه جل في علاه.
واحتجوا على ذلك بالنص القاطع من كتاب الله جل وعلا وهو قوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ[المطففين:15]، وهذا نص قاطع عام في كل كافر بالاتفاق، وفي كل منافق أبطن الكفر وأظهر الإسلام كـعبد الله بن أبي بن سلول وطائفته ممن أبطنوا الكفر وأظهروا الإسلام، فهؤلاء من الكافرين، والله جل وعلا يقول: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ[المطففين:15]، يقول ذلك لمن يكذبون بيوم الدين وهم الكافرون، فهذا نص قاطع على أنه لا يرى الله إلا المؤمنون، فكما حجبت رؤية الله عن هؤلاء في الغضب فإن المؤمنين يرونه في الرضى، وفي عرصات يوم القيامة أيضاً.
القول الثالث: القول بالتفصيل، وهذا قول لبعض أهل السنة والجماعة، وعند تدقيق النظر فأن هؤلاء هم أسعد الناس بالدليل.
إذاً: فأهل الكتاب يمحصون ويتساقطون إلى نار جهنم قبل أن يروا ربهم، وأيضاً اليهود يقولون: كنا نعبد عزيراً ابن الله -ينسبونه إلى الله جل في علاه-، فيقول الله جل في علاه: كذبتم مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ[المؤمنون:91]، فيتمثل لهم شيطان عزير عليه الصلاة والسلام فيهوي في النار، ويتساقطون هم معه، ويبقى من يكشف الحجاب لهم، وهم المؤمنون وفيهم المنافقون، فيأتيهم الله جل وعلا على صورة غير الصورة التي يعرفونها -، وهذا فيه دلالة على أن الله له صورة، وكونه يأتى بصورة غير صورته جل في علاه فهو فعال لما يريد سبحانه إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[يس:82]، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[الأنبياء:23] -فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك لست بربنا، ثم يأتيهم في الصورة التي يعرفونها فيقول: أنا ربكم -فبينه وبينهم علامة- فيقولون: نعم، فيكشف عن ساقه جل في علاه، فيخر ساجداً كل مؤمن ومنافق، فمن كان يسجد لله إخلاصاً وتوحيداً كاملاً يسجد كما كان يسجد في الدنيا، أما الذي كان يسجد نفاقاً فإذا جاء ليسجد تحولت فقرات ظهره طبقاً واحداً، فينقلب على ظهره ولا يسجد لله جل وعلا، وهذا محل الخداع والمكر بأهل النفاق.
فهذا هو دليل الطائفة الثالثة الذين يقولون: إن أهل الكتاب أو الكفار لن يروا الله جل وعلا حتى في عرصات يوم القيامة.
والصحيح الراجح هو هذا القول، وأصحابه هم أسعد الناس بالدليل وقولهم بأن الكافرين لا يرون ربهم لا في عرصات يوم القيامة ولا في غير عرصات يوم القيامة، يدل على أنهم لا يرونه في الجنة من باب أولى، فهم أهل الخسارة، وأهل الغي والعار الذين حرموا جنة الدنيا، ثم حرموا أفضل ما في جنة الآخرة وهي رؤية الله جل في علاه، وهذا جزاء وفاقاً؛ فإنهم جحدوا ربهم وجحدوا شرعه وأنكروا وجوده، فالله جل وعلا عندما تركوه تركهم، وحرمهم أن يروه حتى وهو يحاسبهم.
الجواب على القائلين بأن الكافرين يرون ربهم يوم القيامة
ما استدل به القائلون بأن الكافرين يرون الله يوم القيامة يجاب عليه بعدة أجوبة: أولاً: احتجاجهم بقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ[الانشقاق:6]، وقولهم بأن اللقاء يستلزم الرؤية، يجاب عليه: بأن اللقاء لا يستلزم الرؤية، فإن اللقاء لقاءان: لقاء بسلام، ولقاء بغير سلام، فأما اللقاء بسلام فإنه -كما هو معلوم- أن السلام تحية أهل الإسلام، وقد قال الله جل وعلا لآدم: (فهذه تحيتك وتحية أمتك من بعدك)، فكلمة السلام عليكم معناها لك منا الأمان والسلامة من كل شيء، كما تعني الدعاء بالسلامة من كل نقص ومن كل شر يسوءك في الدنيا والآخرة، فاللقاء بسلام فيه الأمان واللذة والسرور والإكرام.
والقاء الثاني: ليس بسلام، وهذا لا يستلزم النظر، وأما اللقاء الأول الذي يكون بسلام فيستلزم المعاينة والإبصار؛ لما فيه من الأمان والإكرام والسلام، ودليل ذلك قول الله تعالى عن المؤمنين عندما يدخلون الجنة: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ[الأحزاب:44].
اللقاء الثاني: لقاء بغير سلام، وهذا لقاء توبيخ لا يستلزم المعاينة ولا الإبصار، فهو لقاء المحاسبة، فلا يكون بينهم وبين الله ترجمان، وفيه يوبخهم الله جل وعلا ويقول لأحدهم: ألم أنعم عليك؟ فيقر بكل ذلك ولا يجحد شيئاً حتى إن الله يختم على فيه ويقول: يكفيك شاهد من نفسك، فتنطق اليد، وينطق الفخذ، وينطق كل شيء بجسده، ثم يلقى في نار جهنم مدحوراً موبخاً من قبل الله جل في علاه.
إذاً: فاللقاء الذي يكون بغير سلام لا يستلزم المعاينة والإبصار؛ للحجاب الذي بينهم وبين الله، فلا يرونه.
وأما استدلالهم بأن أهل الموقف ينظرون إليه وينظر إليهم فالحديث فيه ضعف، لكن ابن القيم رحمه الله يرجح تصحيحه، ولم يقل المعنى صحيح، لكن قال: ينظر لأهل الموقف، وينظرون إليه.
الوجه الثاني: ينظرون ويحجبهم الله عن رؤيته، وهذا ظاهر.
وأوضح الأدلة في الإجابة عليهم هو قول الله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ[المطففين:15]، وقد يقال: إذا لم ير الكافرون ربهم فكيف يراه المنافقون؟ والجواب: أن رؤية المنافقين من تمام المكر والمخادعة، جَزَاءً وِفَاقًا[النبأ:26] وأجراً طباقاً، بل إن هذا يستلزم حسرة وألماً على المنافقين، فيكون عقابهم أشد من عقاب الكافرين، فعندما يرون الله يقع في قلوبهم أنهم مع المؤمنين، وأنهم من أهل السلامة، ومن أهل الجنة، فيأتي الله جل وعلا فيغلق عنهم باب الرحمة، فينظرون إلى أهل الجنات وهم يسيرون كأجاويد الخيل، وكالريح المرسـلة إلى الجنات فيقولون: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ[الحديد:13]، يقول الله تعالى عنهم: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ[النساء:142] ، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ[الأنفال:30]، فهم يمكرون والله يمكر بهم في الآخرة، ويخادعون الله والله يخدعهم بأن يأتيهم ويرونه، ويحسبون أنهم من أهل الجنات، ثم يضرب بينهم وبين أهل الجنات، وبعد أن طمعوا بالجنة قطع طمعهم، وكان لهم الدرك الأسفل من النار، وهذه دلالة أيضاً على أن المنافقين أشد نكالاً وعذاباً من أهل الكفر.
قياس الغائب على الحاضر المشاهد دليل على إحياء الله الموتى