ذكر الله تعالى في هذه الآيات أن نفراً من الجن سمعوا هذا القرآن الكريم البليغ المعجز، فدهشوا لسماعه، وتعجبوا من عظمته، فولوا إلى قومهم منذرين، فأخبروا قومهم بما سمعوه من العجب، وذكروا لهم صفته، وأنه يهدي إلى الرشد وإلى الطريق المستقيم، ثم نصحوا قومهم بأن يتبعوا دين الله تعالى، فإن هم فعلوا ذلك كان لهم الأجر العظيم، وإن لم يفعلوا ذلك فإنهم لا يعجزون الله شيئاً، ولا يضرون إلا أنفسهم.
جاء في صحيح مسلم عن
جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي) إن الله عز وجل ميز النبي صلى الله عليه وسلم بخمس خصال من فضله وكرمه، ولم يكن لأحد من الأنبياء مثل ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (
كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود) أي: أنه بعث إلى الخلق جميعهم، الأحمر والأسود، والعربي والعجمي، والإنس والجن، فهذه خصيصة لم تكن إلا له وحده صلوات الله وسلامه عليه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي)، فقد رحم الله عز وجل به هذه الأمة وأعطاهم الغنائم، وقد كان الأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم لا يحل لهم الانتفاع بها، فإذا قاتلوا وغلبوا أعداءهم أخذوا الغنائم ووضعوها فوق الجبل وتركوها، فتنزل نار من السماء فتحرقها، ويكون ذلك دليلاً على أن الله قد قبل منهم هذا الجهاد، ولكن في شريعتنا رحم الله عز وجل هذه الأمة فأباح لهم أن ينتفعوا بهذه الغنائم.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض طيبة طهوراً ومسجداً)، فالذي يريد أن يصلي فمسجده الأرض، وفيها طهوره، فإذا لم يجد ماء يتوضأ به فليتيمم من الأرض، وله أن يركع ويسجد على تراب الأرض، فلا يحتاج إلى سجادة ولا حصيرة، فالأصل أن الأرض طاهرة، إلا إن علمت النجاسة في موضع فلينتقل الإنسان إلى موضع آخر ليس بنجس، وهذا تيسير عظيم من الله سبحانه في أمر الوضوء والاغتسال، فالبدل من ذلك هو التيمم.
وقد كان السابقون يحتاجون إلى مكان يصلون فيه، وأما نحن فلا نحتاج إلى ذلك، ففي أي مكان أدركتنا الصلاة صلينا، فإذا لم يوجد المسجد صلاها المسلم في أي مكان من الأرض، وأما السابقون فكانوا ملزمين بأن يصلوا في المساجد، ولذلك قال الله عز وجل لموسى عليه السلام وأخيه
وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً
[يونس:87]؛ لأن آل فرعون منعوهم من الصلاة والعبادة في المساجد، فأمرهم الله أن يجعلوا بيوتهم إلى القبلة، وأن يصلوا في بيوتهم، فالأصل عندهم ألا يصلي الإنسان في بيته، ولكن للضرورة التي وقعوا فيها من إيذاء فرعون وجنوده لهم رخص لهم في ذلك، وأما نحن فالأرض لنا مسجد وطهور، فإذا وجد المسجد فيلزم المسلم أن يذهب إليه، وإذا لم يجد المسجد صلى في أي مكان هو فيه.
قال صلى الله عليه وسلم: (فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل -أي: حيث كان-، ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر) أي: أنه صلى الله عليه وسلم نصر بالرعب، فجعل الله له جنوداً من الإنس ومن الملائكة، وجنوداً مما شاء الله عز وجل مما يبثه في قلوب أعداءه، ومن ذلك الرعب، فأيما عدو سمع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قادم إليه جعل الله عز وجل في نفسه الرعب والخوف من النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل الله له من الجنود ما يعلم ومالا يعلم صلوات الله وسلامه عليه.
قال: (وأعطيت الشفاعة)، فأعظم عطاء من الله سبحانه لنبيه أن يشفع في فصل القضاء يوم القيامة، ويطلب من الله عز وجل أن يفصل القضاء بين العباد، وله شفاعات أخرى معلومة.
عموم دعوته صلى الله عليه وسلم للجن والإنس
ذكر الله عز وجل عن الجن أنهم قالوا لقومهم:

يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ

، وداعي الله هو النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى آمنوا به أي: آمنوا بالله سبحانه وتعالى.
وقوله:
يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
[الأحقاف:31] أي: يغيثكم من عذاب النار يوم القيامة، فالجن فيهم منذرون، لكن لم يذكر الله لنا أن فيهم رسلاً منهم، إلا أنهم يسمعون أنبياء الله عز وجل من البشر ويبلغون أقوامهم، فهؤلاء سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم، فذهبوا وبلغوا قومهم وقالوا لهم: استجيبوا لربكم.
وأما قول الله عز وجل:
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ
[الأنعام:130] فهذا جاء على التغليب، فمعنى رسل منكم أي: من الإنس للجميع، كما تقول للشمس والقمر: الشمسان، وهي شمس واحدة، ولكنه غلب واحد من الاثنين، وتقول: العمران، وتقصد أبا بكر وعمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما، وهو عمر واحد وليس اثنين، وقلنا: العمران ولم نقل: البكران؛ لأن العمران أسهل. فهذا أيضاً من هذا الباب، فالمقصود بـ (رسل منكم) أي: من جنس واحد من الاثنين وهو الإنس.
يذكَر الله سبحانه وتعالى الكافرين بيوم الحشر والعرض الأكبر عليه سبحانه، فيقول:
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ 
[الأحقاف:34] فيقال لهم:
أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ 
[الأحقاف:34] ويؤتى بالنار لها سبعون ألف زمام، وعلى كل زمام سبعون ألف ملك، حتى تكون أمامهم فيصرخون ويفزعون، فيقال لهم:

أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ

؟ فهذه هي النار التي كنتم تكذبون بها، وتستهينون وتسخرون منها،

أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ

؟ فيجيبون على ربهم سبحانه ويقولون:
بَلَى وَرَبِّنَا 
[الأحقاف:34]، قال:
فَذُوقُوا الْعَذَابَ 
[الأحقاف:34]، فلا ينفعكم الاعتراف بعد أن رأيتم النار، فقد كان الإيمان بالغيب وبالجنة والنار ينفعكم في الدنيا، قال تعالى:
فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ 
[الأحقاف:34]، فهذا العذاب بما كنتم تكفرون، ونحن نؤمن بقضاء الله وقدره، وأنه منذ خلقهم وهو يعلم أنهم صائرون إلى النار، ولكن حين يدخلهم النار ليس معنى ذلك أنه ظلمهم، ولكنه أدخلهم النار بما كسبت أيديهم، فكان جزاؤهم جزءاً وفاقاً، إذاً: نؤمن بقضاء الله وقدره، فهو الحكم العدل سبحانه وتعالى، وحاشاه أن يعذب أحد ظالماً له، وإنما ذلك بما كسبت يديه.