يهدي الله من يشاء ويضل من يشاء
الهداية والإضلال راجعان إلى علم الله
قد ترجع إلى نفسك وتقول: الله أعلم بما في القلوب، فقد يكون الإنسان في المعاصي وفي الفجور، وفجأة يأتي عليه الهدى من الله عز وجل، ألم يهد الله
عمر بن الخطاب رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكان على ما كان من أمر الجاهلية؟ وقد كان أراد أن يقتل النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام.
وقتل ابنته ووأدها يوماً من الأيام، فإذا بالله عز وجل يعلم من قلبه أنه يصلح للإيمان فهدى قلبه، فكان من أرق الناس على المؤمنين، ومن أخوف الناس لرب العالمين، وصار إيمان عمر يوزن بإيمان الأمة غير النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فالجواب: أن الهدى راجع لعلم الله سبحانه تبارك وتعالى، ولذلك قطع عليك التفكر في ذلك، ستقول لربنا: لماذا ؟ يقول لك الله:
لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ
[الأنبياء:23]، لا تتدخل في شيء ليس من حقك، ولا من إرادتك، ولذلك قال الله لسيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه:
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ
[القصص:56] إذاً غيره يسكت من باب أولى
لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ
[الأنبياء:23].
وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم لرقة قلبه أن يذهب ويزور قبر أمه عليه الصلاة والسلام فاستأذن ربه فأذن له، ولما وصل إلى قبر أمه حن لأمه عليه الصلاة والسلام فهي ماتت وله ست سنوات عليه الصلاة والسلام، وكانت رقيقة مشفقة عليه صلى الله عليه وسلم، ورأت رؤيا عظيمة أنه يخرج منها نور أضاء ملك كسرى وغيره، فهذه المرأة ماتت قبل الإسلام، فأحب أن يستغفر لها صلى الله عليه وسلم، فمنع من ذلك عليه الصلاة والسلام، فبكى بكاء شديداً صلى الله عليه وسلم، وبكى حوله الصحابة، وسألوه عما يبكيه عليه الصلاة والسلام، فأخبر أنه استأذن ربه أن يزور قبر أمه فأذن له، واستأذنه أن يستغفر لها فمنع من ذلك.
إذاً: هنا الأمر ليس بيد الإنسان، إنما الأمر بيد الله وحده لا شريك له، ولذلك يقول الله عز وجل عن نبيه:
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ
[الحاقة:43-46] أي: لأخذناه أخذاً قوياً وعاقبناه عقوبة شديدة، وقطعنا نياط قلبه صلوات الله وسلامه عليه، وحاشا له أن يتقول على الله رب العالمين تبارك وتعالى.
فإذا قيل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فمن من الناس يكون له درجة تقرب من درجته صلى الله عليه وسلم حتى يتألى على الله وحتى يتكلم على الله بما لم يقله الله رب العالمين، وحتى يعترض على قضاء الله عز وجل وقدره؟
قال تعالى:
وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
[القصص:56] أي: وهو أعلم بمن يستحق الهدى، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه أن يؤيد الإسلام بأحد العمرين عمر بن الخطاب أو أبي الحكم الذي هو عمرو بن هشام أبو جهل ، ولكن الله يعلم أن عمر هو الذي يستحق ذلك، فهدى عمر ، وأما عمرو فمات على كفره، وقتل في يوم بدر، وألقي ملعوناً في القليب.
قال الله سبحانه:
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا 
[القصص:58].
أي: إذا كان الأمر على ذلك وأنتم تتكبرون عن دين رب العالمين، فلا تنسوا كم أهلكنا من قرى عظيمة.
والقرية معناها: المدينة، وصار عندنا العرف أن القرية بمعنى الريف، أما في لغة العرب ولغة القرآن فالقرية بمعنى البلد.
ولذلك فإن الله سبحانه تبارك وتعالى قال:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى
[يوسف:109] يعني: من أهل البلدان.
قالوا: لأن أهل البلدان يتميزون عن أهل الريف وعن أهل البادية برقة الطباع؛ لأن البلد تجمع أناساً كثيرين، والإنسان مع احتكاكه بالكثير من الناس يكون أليفاً رقيقاً، ويعرف التخاطب مع هذا ومع هذا، وأما مع قلة العدد فيتعلم الإنسان النفور والجفاء ويتعلم الغلظة، ومع قلة العدد قد يترأس عليهم.
فلذلك كان في أهل البادية الغلظة وكانوا أجلافاً، ولكن أهل المدن فيهم رقة الطباع، فجعل الله عز وجل منهم المرسلين، ومنّ على أهل القرى أن جعل الأنبياء منهم.
قال الله سبحانه تبارك وتعالى:
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا
[القصص:58] والبطر هو: أن الإنسان يتكبر على نعمة الله سبحانه تبارك وتعالى، فيطغى بهذه النعمة، ويعطيه الله مالاً فيتكبر على الخلق، وينظر إلى نعمته أنه مستحقها، وأنه لا أحد مثله في هذا الشيء، فيطغى على الخلق ويستكبر عليهم.
فهذه القرى
بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا
[القصص:58] أي: أغناهم الله وأعطاهم الرفاهية والغنى، فكان الواجب عليهم أن يعبدوا الله وأن يشكروه، ولكن بطروا، فلما بطروا أهلكهم الله سبحانه تبارك وتعالى.
قال:
فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا
[القصص:58] أي: ديار الأقوام البائدة في كل بلد من البلدان صارت آثاراً لا يسكنها أحد، فتذهب إلى أسوان فترى آثار الفراعنة، ولا أحد يسكن في هذه الأماكن، والله عز وجل قال:
لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ
[القصص:58] أي: صارت الديار دياراً خربة، ليس فيها أحد.
وكذلك قرى عاد، وقرى ثمود، وقرى الفراعنة، وغيرهم ممن أهلكهم الله سبحانه، وترك مساكنهم لتنظروا وتعتبروا.
قال تعالى:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ
[الفجر:6-7] فالذي يذهب يجد قصوراً عالية، وأعمدة فخمة، وسقوفاً منقوشة، وأهلها كانوا في هذه الأماكن عمروها وعاشوا فيها ما شاء الله عز وجل، فلما استكبروا إذا بالعذاب يأتيهم من عند الله سبحانه، وكم من قرى قد غطتها الرمال، والآن ينقبون عنها فيخرجون قصوراً كاملة موجودة بداخلها، فضرب لنا الأمثلة بذلك حتى نعتبر.
قال تعالى:
فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ
[القصص:58] أي: كنا نحن الذين ورثنا هذا كله ورجع إلينا ما أعطيناهم، وكذلك يرث الأرض ومن عليها، فليعمل الإنسان المؤمن بحق وبإخلاص؛ لعل الله عز وجل أن يجعله من أهل الجنة، وأن يمن عليه بنعمه سبحانه.