من صفات المؤمنين الصادقين التي امتدحهم الله بها: قيام الليل، ففيه يظهر الخضوع والتواضع من هؤلاء المؤمنين لربهم سبحانه، ولذلك فقد حث الله تعالى نبيه والمؤمنين على قيامه، ورتب عليه فضائل عظمية، ومزايا كثيرة، منها: قربه جل وعلا لهم في الثلث الأخير منه، ومنها أنه جعله سبباً لدخول الجنة والثبات على دين الله، ولهذا فقد شمر إليه الصحابة الكرام والنبي من قبلهم، فكان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، تقرباً وشكراً لربه سبحانه.
تفسير قوله تعالى: (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجداً ...)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وفي سورة السجدة ذكرهم الله سبحانه بأنهم إذا ذكروا بآيات رب العالمين سبحانه أقبلوا إلى ربهم سبحانه، وخروا على وجوههم ساجدين له سبحانه وتعالى، مسبحين حامدين الله سبحانه، غير مستكبرين على ربهم، ولا مستكبرين على الطاعة، قال تعالى: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا[السجدة:15]، أي: سجدوا لله سبحانه وتعالى، وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ[السجدة:15]، فهم مؤمنون خاشعون لله متواضعون، لا يستكبرون على طاعة الله سبحانه وتعالى، والاستكبار أمره خطير، وهو أول جريمة وقع فيها مخلوق، وفعلها إبليس لعنه الله إذ أبى واستكبر أن يسجد لآدم، فكان مصيره الطرد من رحمة رب العالمين سبحانه وتعالى، وكذلك كل إنسان يستكبر على الله فمصيره النار، وأبى الله عز وجل أن يدخل الجنة إنساناً في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر، بل الله سبحانه وتعالى يعذبه ويدخله جهنم بما كان يستكبر عليه سبحانه ويستكبر على خلقه، فالمؤمنون متواضعون لا يستكبرون.
هذه الآية فيها أن من صفات المؤمنين أنهم تتجافى جنوبهم، تجافي جنب الإنسان بمعنى: ارتفع جنبه عن فراشه، أو تنحى عن الفراش، فإذا نام لا ينام نوماً طويلاً، وليس ليله كله نوماً وإنما ينام جزءاً ويقوم لله سبحانه وتعالى ما تيسر من الليل.
وقد جاء في قيام الليل من الآيات ما يفيد أنه ينبغي على المؤمن أن يكون بهذه الصفة؛ ليرضي الله سبحانه وتعالى.
ومن الأحاديث التي جاءت في قيام الليل حديث رواه الترمذي عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم)، وهذا من النبي صلى الله عليه وسلم حث وتحريض وإغراء لقيام الليل، وواضح أن القيام أصله: أن تقوم على قدميك واقفاً للصلاة، وإن رخص الله في النافلة أن تصلي قائماً أو قاعداً، سواء كنت قادراً على القيام أو غير قادر، فلك أن تقوم ولك أن تقعد في قيام الليل وفي النوافل، ولكن الأجر العظيم يكون على القيام، ولذلك قال تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ[البقرة:238] أي: قياماً طويلاً بين يدي الله سبحانه وتعالى. (فإنه دأب -أي: عادة- الصالحين قبلكم، وهو قربة إلى ربكم) أي: يقربكم من الله سبحانه وتعالى، وأقرب ما يكون العبد من ربه سبحانه وهو ساجد، فقيام الليل قيام عظيم، فإذا سجد العبد في جوف الليل الآخر كان قريباً من ربه سبحانه، وكان جديراً بإجابة الله سؤاله.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ومكفرة للسيئات) أي: أن القيام يمحو السيئات، (ومنهاة عن الإثم) أي: يعين الإنسان على اجتناب الآثام والمعاصي.
وروى الترمذي من حديث عمرو بن عبسة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر)، فالليل أجزاء: ثلث أول، وثلث أوسط، وثلث أخير، وجوف هذا الثلث الأخير أقرب ما يكون العبد من ربه سبحانه، والرب من عبده سبحانه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن) أي: إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فحاول قدر ما استطعت ولا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا[البقرة:286]، وذكر الله سبحانه بأن تصلي لله سبحانه وتعالى، سواء كانت صلاة طويلة أو صلاة قصيرة، وبأن تذكر الله سبحانه وتعالى فيه، ويدخل تحت الذكر كلما صدقت عليه هذه الكلمة، وسواء كان الشخص جالساً يذكر الله سبحانه بالتسبيح أو بالتهليل أو بالتكبير أو بقراءة القرآن، أو بقراءة حديث النبي صلى الله عليه وسلم، أو بالانشغال بطلب العلم، أو بغير ذلك مما هو ذكر لله عز وجل فكله ذكر، قال صلى الله عليه وسلم: (إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة -يعني من آخر الليل- فكن)؛ لأنك تكون قريباً من ربك سبحانه.
فالله سبحانه مَنَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بأن جعله مغفوراً له ذنبه المتقدم والمتأخر عليه الصلاة والسلام، فعصمه الله سبحانه من أن يقع في الذنوب، ومَنَّ عليه بأنه لو حدث منه شيء فالله سبحانه وتعالى يغفر له ما تقدم وما تأخر، وسورة الفتح نزلت بعد صلح الحديبية في السادس من ذي القعدة سنة ست من هجرته صلى الله عليه وسلم، وبعد أن دعا إلى الله سبحانه وتعالى تسع عشرة سنة، حيث دعا إلى الله سبحانه في مكة ثلاث عشرة سنة، وفي المدينة ست سنوات حتى نزلت هذه السورة فأخبره الله عز وجل بقوله: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا[الفتح:1] ، وكان قبل ذلك صلوات الله وسلامه عليه لا يعلم ما الذي يدخره له ربه سبحانه وتعالى، ولذلك جاء عنه في حديث أن السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها قالت عن صبي قد توفي: (طوبى له، عصفور من عصافير الجنة، فقال: وما يدريك؟ فإني وأنا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- لا أدري ما يفعل بي)، فأعلمه الله عز وجل بعد ذلك بفترة طويلة عليه الصلاة والسلام أنه مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهذه السورة كانت قبل وفاته بأربع سنوات عليه الصلاة والسلام.
فتبين أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك في آخر حياته عليه الصلاة والسلام، فكان استفسارها وتعجبها هو أن الذي يصلي كثيراً، ويقوم كثيراً، ويتعب نفسه كثيراً، هو الذي يطلب المغفرة، أما أنت فقد غفر لك الله فلماذا تقوم؟ وكان الجواب منه صلى الله عليه وسلم أن قال: (أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً) عليه الصلاة والسلام، وقوله: (عبداً) فيه مقام عظيم وهو مقام العبودية لرب العالمين، وهو مقام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقوم الليل لله، وهو قريب من الله سبحانه، فالعبد يتشرف بأنه عبد لله سبحانه، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم يذكره ربه في القرآن في مقامات شريفة بأنه عبد عليه الصلاة والسلام، وفي مقام ذكر الله، وتلاوة القرآن، والمحاجة بهذا القرآن، حيث يقول للكافرين: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا[البقرة:23] عليه الصلاة والسلام.
وفي مقام تشريف النبي صلى الله عليه وسلم برفعه إلى السماء عليه الصلاة والسلام في الإسراء والمعراج يقول: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ[الإسراء:1] عليه الصلاة والسلام.
والإنسان في نفسه ما يدفعه إلى العبودية، وما يدفعه إلى الخضوع، فإما أن يوجه ذلك إلى الله عز وجل، وإما أن يأنف عن ذلك فيوجهه الله عز وجل إلى أحقر خلقه، فيصير عابداً للهوى، وعابداً للشيطان، وعابداً للإنسان، وعابداً للجان؛ لأنه أنف واستكبر عن عبادة الله سبحانه، وتطاول عن أن يعبد الله سبحانه، وظن أنه حر في نفسه يعمل ما يشاء دون تقيد بأحد، فنقول لمن كان هذا حاله: أنت لست حراً على الله سبحانه وتعالى ولكنك عبد لله، فإما أن ترضى بذلك كما رضي رسل الله الكرام عليهم الصلاة والسلام والملائكة الكرام عليهم السلام، وإما أن تأنف فتكون كالشيطان، فيكون مصيرك مصيره، فانظروا إلى المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام إذ يقول الله سبحانه عنه: لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ[النساء:172]، بل الكل عبيد لله سبحانه، قد رضوا بذلك فأرضاهم الله سبحانه وتعالى.
كذلك نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: (أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً؟) ، تقول عائشة رضي الله عنها: (فلما كثر لحمه صلى جالساً) عليه الصلاة والسلام أي: لما أسن وكبر في سنه صلى الله عليه وسلم فصار عظمه لا يحمل بدنه صلى الله عليه وسلم، وقد ورد ما يفسر ذلك في حديث آخر وفيه: (لما بَدَّن أو لما بَدُن) يعني: صار ثقيلاً عليه الصلاة والسلام حتى إن عظامه لا تحمل جسده صلى الله عليه وسلم في القيام الطويل، ليس معنى ذلك أنه صار سميناً، بل المعنى: أنه صلى الله عليه وسلم كان قيامه لليل في وقت طويل جداً، يستغرق صلاته الليل عليه الصلاة والسلام قائماً على قدميه، فلما تعب صلوات الله وسلامه عليه صار يقوم جزءاً من الليل ويقعد جزءاً، فيصلي صلاة طويلة قائماً، ثم يقعد ويصلي قاعداً، ثم يقوم صلى الله عليه وسلم ويكمل قائماً بحسب ما يستريح عليه الصلاة والسلام.