ذكر الله تعالى في هذه الآية أن من صفات المؤمنين أنهم يتركون أماكن النوم والراحة ويقومون الليل لله تعالى فيتهجدون ويذكرون الله تعالى، ويدعون ربهم خوفاً وطمعاً، وينفقون مما رزقهم الله تعالى. وقيام الليل سلاح المؤمن، وفوائده كثيرة ومنافعه عظيمة عاجلاً وآجلاً، ويسن للمؤمن أن يوقظ زوجته وأهله من أجل أن يقيموا الليل، ويكون لهم في ذلك الأجر العظيم عند الله تعالى، والمؤمن إذا صدق مع الله في قيامه بالليل فإن صلاته ستنهاه عن الفحشاء والمنكر.
تفسير قوله تعالى: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع ...)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
فأحب الصلاة إلى الله سبحانه صلاة داود، فكان يقسم ليله فنصفه ينام فيه فيستريح ثم يقوم ثلث الليل ثم ينام سدس الليل، فقسم الليل أسداساً فثلثين من الليل للنوم وثلث لقيام الليل.
والمؤمن يقتدي بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وبفعل أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، فنبي الله داود كان ينام ثم يقوم الليل ثم ينام، والنبي صلى الله عليه وسلم يخبر عن حاله أنه كان يقوم الليل وينام فيه عليه الصلاة والسلام، وأخبر عن رجل نام حتى أصبح، أي: نام الليل كله من أوله إلى آخره حتى جاء وقت صلاة الصبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه).
فالمؤمن إذا نام جاء الشيطان عند رأسه فعقد على رأسه عند قفاه ثلاث عقد يضرب على كل عقدة ويقول: عليك ليل طويل فارقد، فيوهم الإنسان أن ما زال الليل أمامه طويلاً فينام، فكلما أراد أن يستيقظ ليصلي أو يذكر الله عز وجل قال له الشيطان: مازال الليل طويلاً، فينام حتى تطلع الشمس وضاع عليه الليل فلا قام الليل ولا صلى الصبح.
فالشيطان يضحك على هذا الإنسان ويستهزئ به حتى أنه يبول في أذنيه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يعرف ما لا نعرف، ويرى ما لا نرى صلوات الله وسلامه عليه.
ولو قيل لإنسان: إن إنساناً يبول في أذنك لأنف عن ذلك وتغيظ وعادى هذا الذي يفعل ذلك، فكيف بهذا الشيطان الذي يتوعد الإنسان أنه سيبول داخل أذنيه، ومن يرضى لنفسه أن يستهين به الشيطان ويضحك عليه، ويسخر منه ويبول في أذنيه، فهذا الذي ينام الليل كله ويضيع ليله في النوم، والذي يضيع ليله سهران يتفرج على التلفزيون وعلى الدش وعلى كذا، فيا ترى ماذا سيعمل الشيطان بهذا الإنسان؟ وإذا كان الشيطان سخر من الذي لم يقم يصلي بالليل واستهان به واحتقره فتبول في أذنيه، فكيف بمن يقضي الليل في معصية الله سبحانه تبارك وتعالى، ويجلس يتفرج على الحرام، ويضيع وقته في الحرام ولا يذكر الله سبحانه تبارك وتعالى؟!
فعلم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وحثهم على أن يقوموا من الليل، ولذلك جاءت أحاديث عنه صلوات الله وسلامه عليه فيها الحث على ذلك، منها هذا الحديث الذي يخبر أن الشيطان يقعد لكم بالمرصاد ويفعل ذلك.
ويزيل المؤمن عن نفسه عقد هذا الشيطان بالعمل بقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة) والإنسان أول ما يقوم بالليل فإنه يضبط المنبه على أن يقوم قبل الفجر بساعة أو بنصف ساعة أو أكثر أو أقل، فأول ما يسمع المنبه لا يطفئه ويكمل نومه، ولكن يستيقظ من نومه ويذكر الله سبحانه تبارك وتعالى، فيقول: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور، الحمد لله الذي عافاني في بدني، ورد علي روحي، وأذن لي بذكره. فيقوم ويجلس ويذكر الله ثم يتوجه فيتوضأ ليصلي لله سبحانه.
صلاة الليل تنير قلب المؤمن، وتنير وجهه، وتجعل المؤمن محباً للخير، محباً للطاعة، والذي صلى من الليل وصلى الفجر في جماعة أصبح وقد حفظه الله وحرسه الله سبحانه، فهو في حفظ الله سبحانه وفي كلئه، ويتوعد ربنا سبحانه من يؤذي الذي يصلي الفجر؛ لأنه في حفظ الله سبحانه، ويتوعد من يعاديه ومن يؤذيه؛ لأنه صلى لله عز وجل الفجر فكان في حفظ الله سبحانه تبارك وتعالى فيصبح طيب النفس.
وإذا ضيع صلاة الليل وضيع صلاة الفجر وكانت عادته ذلك فإنه يصبح خبيث النفس كسلان، ويقوم من النوم ويريد أن ينام مرة أخرى، ولا يريد أن يشتغل، لأنه تعبان ومتضايق، ولا يريد أن يكلم أحداً ويقوم من النوم ثم يمشي ولا يسلم على أحد، ولا حتى يرد عليه السلام، ولو أنه قام لله عز وجل بالليل ثم صلى الفجر لجعل الله عز وجل نفسه راضية طيبة، ووجهه منيراً من صلاته، ويجعل الله عز وجل عليه الرضا وفيه الرضا، وتجده طيب النفس، والإنسان الذي لا يفعل ذلك تجد منه التكشير والعبوس والبعد والنفور، وهذا نتيجة للكابوس الذي كان عليه طول الليل في نومه وبعده عن ربه سبحانه تبارك وتعالى.
من الأحاديث العظيمة التي جاءت عنه صلوات الله وسلامه عليه ما رواه أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته).
فصلاة الليل ليست مقصورة على واحد من البيت هو الذي يقوم الليل، ولكن يقوم الليل ويدعو زوجته أن تصلي ولو في آخر الليل، ولو أن تصلي ركعتين من آخر الليل، وبعد ذلك يرددان الأذان ثم يصليا صلاة الفجر فيكسبا الأجرين بذلك.
إذاً: البيت فيه تعاون بين الرجل وبين المرأة على قيام الليل، وعلى ذكر الله سبحانه وعلى حبه، فهل يدخل الشيطان بيتاً مثل هذا؟ وهل يكون في هذا البيت من وساوس ومن بعد عن الله سبحانه؟
الجواب: لا، طالما الرجل يخاف الله ويحب الله والمرأة كذلك، فتجد البيت بيتاً طيباً، والكل يحرص على العبادة، والكل يحرص على أن يقوم لله سبحانه تبارك وتعالى بالليل.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (فصليا أو صلى) أي: سواء أن كل واحد منهما صلى لوحده أو هما الاثنان صليا معاً، فيكتبان من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات الذين أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً.
حديث: (إن في الجنة لغرفاً يرى ظهورها من بطونها)
من الأحاديث العظيمة عنه صلوات الله وسلامه عليه حديث رواه الترمذي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة لغرفاً يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها) الغرف جمع، والغرفة معناها الموضع العالي، وأشرف المواضع في البيت يسمى الغرفة، فالجنات العالية فيها غرف، وعرفنا من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم أن الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة، فليست من الطوب الذي عندنا، ولكن الحجارة التي في الجنة من اللؤلؤ والياقوت والذهب والفضة.
ومع كونها من ذلك فقد بلغ النقاء في هذه الأشياء التي بنيت منها هذه الغرف أن صاحب الغرفة يرى ما بداخلها من خارجها، ويرى ما بخارجها من داخلها، فهي غرف عظيمة طيبة، فالأعرابي لما سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم قام إليه فقال: يا رسول الله! لمن هي يا رسول الله؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هي لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى لله بالليل والناس نيام) أي: أربع خصال إن فعلتها وعودت نفسك عليها كانت لك هذه الغرف العظيمة الطيبة سواء للرجال وللنساء.
قال صلى الله عليه وسلم: (هي لمن أطاب الكلام) والمعنى: أن كلامه طيب، وأسلوبه جميل في الكلام، وخلقه عظيم، فهو يتشبه بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، وليس هو إنساناً نفوراً أو إنساناً يرفع صوته على الناس أو بذيء اللسان شتاماً سباباً، ومن صفات عباد الرحمن: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا[الفرقان:63]، فالجاهل يؤذيه في الكلام، ومع ذلك فهذا العبد الصالح يرد عليه بطيب الكلام.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (وأطعم الطعام) يعني: أكثر من الصدقة والهدية، فيطعم الضيف والفقير والمحتاج ويعطي للجار.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (وأدام الصيام) أي: صام الشهر الذي فرضه الله سبحانه وأكثر من الصيام في غيره.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (وصلى لله بالليل والناس نيام) إذا كان الناس يقظى فإن الإنسان قد يصلي مثلما يحصل في رمضان في صلاة القيام، فإن الناس يشجع بعضهم بعضاً، فإذا رأى إنسان إنساناً يصلي فإنه يصلي معه غيرة منه، فهذا شيء طيب أن الإنسان يغار في الخير، ولكن أفضل من ذلك أن يقوم بالليل وحده لا يراه أحد من الناس.
الإنسان وهو في بيته إذا قام بالليل والناس نائمون ومع ذلك لم يقل: أنه مثل الناس فينام مثلهم، ولكن قام لله عز وجل فصلى والناس نيام واستمتع بذلك؛ فهذا من أهل هذه الغرف التي يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها.
حديث: (لا تكن مثل فلان كان يقوم من الليل فترك قيام الليل)
وجاء في حديث آخر لـعبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه رأى رؤيا كأن النار أمامه، وكأنها بئر والبئر بعيدة عنه وجاء رجلان فأخذاه ولما وصلا به عند هذه البئر وجد من يمنعه عنها وقيل له: إنه ليس من أهلها، ووجدها مطوية ومقفولة فأصبح وقص الرؤيا على أخته فقصتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل) يعني: كأنه لم يكن يقوم من الليل في ذلك الوقت، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل) أي: لم يكن يحصل له هذا الشيء الذي كان في الرؤيا وهو دخول النار فإنه بعيد عنها، فكان عبد الله رضي الله عنه لا ينام من الليل إلا قليلاً بعدما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
فـعبد الله بن عمرو قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تكن مثل فلان) وهذا من أدب الراوي أنه لم يذكره، ولعل فلاناً هذا قد تاب بعد ذلك، أو لعله كان لا يقوم من الليل ولم يفضحه الراوي الذي حدثهم عنه وهو عبد الله بن عمرو، ولعله النبي صلى الله عليه وسلم قال: فلان وذكره هكذا، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم ذكره باسمه حتى يقال له: قال عنك النبي صلى الله عليه وسلم كذا، فيرجع ثانية إلى قيام الليل، فالغرض أن قيام الليل جاءت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحث عليه.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يخبر أنه لا يمكن أبداً لإنسان يقوم الليل ويكون صادقاً في ذلك حتى لو كانت من عادته أنه يفعل شيئاً من المعاصي فإذا قام الليل قياماً صادقاً فإنه سيمنعه القيام من هذه المعصية التي هو فيها، وقد جاء في القرآن قول الله عز وجل: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ[العنكبوت:45]
فإذا صدق الإنسان في صلاته أعانته على البعد عن معصية الله، لذلك الكثير من الشباب يشكو ويقول: أنا أعاهد ربنا أني أغض البصر، ويرجع مرة أخرى للنظر إلى ما حرم الله، أو أعاهد ربنا أني لا أشرب السجارة ويعود مرة ثانية ويشربها! فنقول له: قم الليل، واصدق مع الله سبحانه في صلاتك تمنعك عن هذا، ولكن ليكن عندك العزيمة الصادقة التي لا تعلق المعصية على القضاء والقدر، كأن تقول: لو هداني الله سأبطل السجاير، أو سأكون أفعل كذا، ولكن قم وادع ربك سبحانه، واعزم على هذا الشيء، فتجد صلاتك هذه تنهاك عن الفحشاء والمنكر.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.