إن أعظم وصية يتواصى بها المسلمون فيما بينهم هي توحيد الله عز وجل في العبادة، ولذلك كانت هذه الوصية هي أول وصية أوصى بها لقمان ولده، ثم أوصاه بمراقبة الله عز وجل، وأشار له إلى علمه المحيط بكل شيء، ثم أوصاه بأعظم فريضة فرضها الله على عباده وهي الصلاة، ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأمره بالصبر على ما يصيبه في طريقه إلى الله، ولأهمية بر الوالدين والرفق بهما فقد جعله الله بين هذه الوصايا تنبيهاً على عظم حقهما على الإنسان.
وصايا لقمان لابنه
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين:
يذكر الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات وصية لقمان لابنه، ووعظه له، فقال: (يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) فأول وصية يجب على الوالد أن يوصي بها ولده هي: أن يوحد الله سبحانه وتعالى، وألا يشرك به شيئاً، وأن يعلمه التوحيد والعقيدة.
إن الإنسان الذي في قلبه عقيدة سليمة، بعيدة عن الشرك، فهو جدير بأن يبارك الله عز وجل له في عمله، وأن يلهمه الصواب، وأن يعينه في أمره.
أما الذي يشرك بالله سبحانه فهو جدير ألا يعينه؛ لأنه أشرك بالله، فالله يتخلى عنه ويتركه؛ لأنه يتوجه إلى غير الله، والله أغنى الشركاء عن الشرك سبحانه وتعالى، فإذا أشرك العبد معه إلهاً غيره فدعا غير الله، وتوكل على غيره، وطلب المعونة من غيره تركه الله عز وجل مع هذا الغير، ثم لا ينفعه هذا الذي يدعوه من دون الله.
إن الإنسان المؤمن يتعلم التوكل على الله سبحانه، وأن يوجه عبادته لله، فلا يدعو إلا الله، ولا يشرك بالله سبحانه وتعالى شيئاً، لا في ألوهيته، ولا في ربوبيته، ولا في أسمائه وصفاته، بل يكون على التوحيد حتى يلقى الله سبحانه تبارك وتعالى.
قال الله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ[لقمان:13] ، فالإنسان الذي يقع في الشرك بالله سبحانه يظلم نفسه، ويضع العبادة في غير محلها، وفي غير موضعها، فبدلاً من أن يعطي لله حقه يعطيه لغيره سبحانه وتعالى، فهذا هو أعظم الظلم.
فهم يعلمون أن الله غني، ولكنهم يعبدون غيره ويجعلون له شركاء سبحانه وتعالى، فعقولهم فارغة، وأقوالهم بعيدة عن الصواب.
وكان أهل الجاهلية يدعون في رخائهم غير الله سبحانه وتعالى، يصنعون الأصنام ويدعونها ويعبدونها، فإذا جاء وقت الشدة والبلاء تركوها وتوجهوا إلى الله يدعونه وحده لا شريك له.
ففي وقت الشدة يدعون الله، ويعتقدون أنه لا ينفع إلا هو، والسؤال هو: ما الذي جعله لا ينفع في وقت الرخاء حتى يدعون غيره سبحانه وتعالى؟!
إنها قسمة عجيبة تدل على عقول لا تفكر إلا فيما تشتهيه وتهواه، فيعبدون الأصنام ويقولون: تقربنا إلى الله سبحانه وتعالى، وفي وقت الضر والشدة يتركون الأوثان والأصنام ويدعون الله عز وجل!
وهذه التفرقة لا دليل عليها، ولكن من ابتعد عن الله سبحانه فالشيطان يضله ويلعب به.
إن أول شيء يتعلمه الإنسان المؤمن هو توحيد الله سبحانه، وألا يشرك به شيئاً، فلا يدعو إلا الله، ولا يتوكل إلا على الله، ولا تكون ثقته إلا في ربه سبحانه وتعالى، وإذا نذر كان نذره لله سبحانه، فيعلم أن الذي ينفع ويضر هو الله سبحانه، وأن الذي يعز ويذل هو الله سبحانه وتعالى، فيكون قد ركن إلى ركن عظيم، إلى ربه سبحانه وتعالى، فإذا ركن إلى غير الله استحق أن يتركه الله، وألا يعينه لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وهذه وصية من الله عز وجل لكل إنسان بوالديه، فكما حملته أمه، ورباه أبواه فليوف لهما هذا الحق في وقت كبرهما.
وقوله تعالى: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ[لقمان:14]، أي: ضعفاً على ضعف، والوهن على الوهن بمعنى: أطوار الحمل والتخليق للإنسان في بطن أمه، فكلما ازداد حجم الجنين في بطن أمه كلما ازداد ضعف الأم، وثقل بطنها، وازداد حملها، وإذا بها تضعف شيئاً فشيئاً إلى أن تلد، وتكون تلك الولادة أصعب شيء على الأم، حتى إنهم ليعدون هذا الحال حال موت، فهي إخراج روح من روح، ويحتمل أن تموت الأم، ويحتمل أن تعيش بعد ذلك، وفي هذا الوقت العصيب يكون أهم شيء عند الأم هو ابنها وجنينها الذي في بطنها، ولذلك وصى الله سبحانه وتعالى بالأم فقال: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ في عامين) والفصال: هو الفطام، وهو انفصال الابن عن أمه في أمر الرضاعة بعد عامين، فبعد أن ترضعه ينفصل عن الرضاع ويتغذى بغير لبن أمه.
ففي الآخرة إذا كانا مسلمين فسوف يشفع الابن لأبيه ولأمه، والأب والأم لأبنائهما، أما الكفار فلا شفاعة بين المسلمين وبين الكفار.
وقوله: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا[لقمان:15] ، هذه وصية من الله عز وجل بدوام المصاحبة بالمعروف، فلا تؤذهما، وإن طلبا منك مالاً أو غيره فأعطهما وأجزل للوالدين ثقة بالله أنه سيخلف عليك سبحانه.
وقوله: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا[لقمان:15] ، أي: ما داموا في الدنيا فصاحبهما بالمعروف، وبعد الوفاة يكون البر بالوالدين بالدعاء، والإحسان إلى أصدقائهما، فإذا كان أبوك يحب فلاناً، أو كان صديقه، فأحب من أحبه أبوك، وأعطه وتصدق عليه، وهذا من برك لأبيك، وكذلك إذا كانت فلانة صديقة لأمك، وكانت أمك تحبها، أو كانت جارة لها، فلتكرمها براً بأمك، وهذا من البر بالوالدين في الدنيا وبعد الموت.
ولذلك جاء عن ابن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما أنه كان في سفر، وكان راكباً على بعير وكان معه حمار، فلقي أعرابياً، فإذا بـعبد الله بن عمر ينزل ويسلم عليه سلاماً حاراً، ويهدي إليه، ويعطيه أحد الدابتين اللتين معه، فإذا بمن حوله يقولون: ما الذي تعمله؟! إن هذا أعرابي يرضى بدون ذلك، وبأقل من ذلك بكثير، لقد أعطيته ركوباً مما معك، ولو أعطيته أقل من ذلك لرضي، فقال: إنه كان من أهل ود عمر رضي الله عنه، وكان صديقاً له، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من البر بأبيك أن تبر أهل ود أبيك) ، فـابن عمر ود هذا الأعرابي ليس لأنه صديق له، وإنما لصداقته لأبيه، فبره عبد الله بن عمر براً بأبيه بعد وفاته رضي الله تبارك وتعالى عنهما.
تذكير الله عباده بأن مرجعهم إليه
وقوله تعالى: وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ[لقمان:15] أي: اقتد وائتس، وسر على درب الذين أنابوا إلى الله، وكانوا في طريق الله من قبلك، وهم رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وأولياء الله، والصالحون من عباد الله.
فالإنسان يعرض عليه كتابه يوم القيامة، وآخر يناقش في كتابه، وفرق بين من يقرأ الكتاب، وبين من يحاسب ويقال له: لم عملت كذا؟ ولم عملت كذا؟ ألم نعطك؟ ألم نربك؟ ألم ننعم عليك؟ ألم نجعلك رئيساً تحكم بين الناس؟ فما الذي صنعت في ذلك؟ هذا هو الذي يناقش الحساب، وهو المعذب كما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه.
يقول الله عن لقمان أنه قال لابنه: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا[لقمان:16] ، وهذه المرة الثانية التي يقول فيها: يا بني، وقد ذكرنا أن فيها قراءات: (يا بنيَّ) بالفتح، وهذه قراءة حفص عن عاصم فقط، وباقي القراء كلهم يقرءونها: (يا بنيِ).
وقوله: (إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) هذه قراءة الجمهور، والمعنى: إذا وجد هذا المثقال الذرة من الخردل ثم اختفى في أي مكان من الأماكن، فاسم (كان) الضمير، والخبر: مثقال.
وقراءة نافع وأبي جعفر : (إنها إن تك مَثْقالُ حبةٍ من خردلٍ) على أن مثقال اسم لكان.
والخردل حبوب رقيقة وصغيرة جداً، أقل وأرفع من النملة، ووزنها شيء يسير، وهي التي يصنعون منها غاز الخردل السام المميت الذي يستخدم في الحروب.
فقوله: (إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ) أي: هذه الحبة التي هي أقل حبة يعرفها الإنسان، إذا كانت هذه الحبة السوداء الصغيرة مختبئة بداخل صخرة، وهذه الصخرة مختفية بين السماء والأرض، فلا أحد يستطيع أن يبحث عنها، يقول الله سبحانه: (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ) سبحانه وتعالى، مهما دقت أو صغرت فالله يعلمها ويأتي بها سبحانه.
والمعنى أين ستهرب من الله أيها الإنسان إذا كان هذا المثقال من الخردلة التي لا تساوي شيئاً إذا اختفى في أي مكان في السماوات أو في الأرض أتى به الله؟ فكيف بالشيء الكبير؟ والمعنى: أنه لا تخفى عنه خافية سبحانه وتعالى، ومهما دق من عمل الإنسان، ومهما أخفى من سر، ومهما أخفى من نيته في عمله، فالله يعلمه، ويجازي به يوم القيامة.
(إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) وهنا بيان للإنسان أن الله سبحانه لا يخفى عليه شيء، وأن رزقه الذي لا يراه فالله يراه، والذي لا يعلمه فالله يعلمه، والذي يبحث عنه في كل مكان فهو عند الله مقسوم، وسيأتيه في وقت قدره الله سبحانه وتعالى.
وهنا بيان للإنسان، أن يعبد ربه وسيأتيه الفرج من عند الله.. من حيث لا يحتسب.
وكذلك العكس، فلو طلب العبد شيئاً لم يقدره الله عز وجل له، وجرى وأتعب نفسه حتى كاد يناله، فإنه سيفلت من يده، ولن يحصل عليه، فما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، فالله عز وجل مقدر الأرزاق والأقوات، فيأتي بالرزق من حيث لا يحتسب الإنسان وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ[الطلاق:2-3].
لطيف من اللطف، وهو دقة العلم، فالله لطيف يعلم ما خفي وما دق، ويعلم ما جل وما عظم، فيعلم كل شيء، ولطف الله سبحانه رحمته، ففي وقت يضيق الأمر بالإنسان، وتأتيه المصيبة العظيمة التي تكاد تفتك به، فإذا بلطف الله عز وجل يأتيه ويهدئ من روعه، ويجعله يصبر ويتصبر على هذا البلاء، فكأن اللطف يتعلق بدقة علم الله سبحانه، وبرحمته.
(إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) فلطفه في رحمته، وخبرته في علمه سبحانه وتعالى، فهو عليم بكل شيء، فهذه خبرة الله سبحانه وتعالى.