خلق الله عز وجل الكون بما فيه بقدرته العظيمة القاهرة، وأخضع كل شيء له سبحانه تبارك وتعالى، وخلق هذا الإنسان وشرفه وكرمه على سائر مخلوقاته، وأمره بعبادته سبحانه وحده، وأخبر أنه إن استكبر الإنسان فإن لله عز وجل ملائكة لا يحصيهم عد لا يستكبرون عن عبادته، ويعبدونه حق عبادته، ولا يعصونه سبحانه وتعالى.
تفسير قوله تعالى: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعد بالله ...)
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
إذاً: معاملتك للإنسان الذي هو خصم لك إن لم يكن في حد من حدود الله عز وجل لك أن تعفو ولك أن تنتصر فإذا كان في حد من الحدود فليس لك أن تعفو عن حد من حدود الله سبحانه تبارك وتعالى، وعليك أن تأمر بالمعروف وأن تنهى عن المنكر، ولا تسكت على منكر, ولا تسكت على باطل.
ومن أعظم الأشياء التي تؤلف بين قلوب المؤمنين أن تسلم على صاحبك، فإذا كان بينك وبين إنسان شيء ومررت عليه فالق عليه السلام، فهذا خير عظيم وتؤجر عليه، فإذا قلت له: السلام عليك فتؤجر عشر حسنات، وإذا قلت: السلام عليك ورحمة الله، فتؤجر عشرين حسنة، وإذا قلت: السلام عليك ورحمة الله وبركاته فتؤجر ثلاثين حسنة.
فإذا سلمت على صاحبك ومددت يدك إليه مسلماً مصافحاً محباً له، فقد بدأت بالحسنى، فتكون النتيجة كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الذنوب تتساقط من بين أيديكما.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينك) فالسلام يجلب المودة والمحبة بين المسلمين، والتسليم يرفع الشحناء والعداوة والبغضاء التي في القلوب، والإنسان الذي يمر على الآخر ولا يسلم عليه قد يُحدث في نفسه شيئاً فيعامله بالمثل.
فالتسليم يرفع عن قلب الإنسان ما فيه من شحناء وغضب وبغض وكراهية كما قال النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه.
فإذاً: من ضمن الدفع بالتي هي أحسن أن تسلم على أخيك.
وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بإفشاء السلام، وأخبرنا بأن من علامات الساعة أن الإنسان يدخل المسجد ولا يصلي فيه، ولا يسلم إلا على من يعرف، فمن علامات الساعة أن الإنسان يدخل المسجد يتحدث، كما تجد الكثير من الناس اليوم يدخلون المسجد يسألون بعض الأسئلة ثم يخرجون ولا يصلون.
أو يدخلون الجنازة إلى المسجد ويخرجون ينتظرون إلى أن ينتهي الناس من الصلاة عليها ويمشون مع الجنازة إرضاء لأهلها، ولا يرضون ربهم سبحانه تبارك وتعالى في ذلك.
فمن علامات الساعة: أن يمر الرجل بالمسجد ولا يصلي فيه، ومن علاماتها: ألا يسلم إلا على من يعرف، ومن لا يعرفه لا يسلم عليه، فيجلس المسلمون متنافرين، ولا يعرف أحد أخاه، وقد خلق الله عز وجل العباد وجعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا فيما بينهم، قال تعالى: وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا[الحجرات:13].
والغرض: أن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا أن من مقومات وجود المحبة بين قلوب المؤمنين: الصفح والعفو وإفشاء السلام بينهم.
قال تعالى: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ[فصلت:36]، النزع: أدنى الحركة، فنزغ بمعنى: تحرك حركة بسيطة جداً، فيكون معنى الآية: إما يستفزنك من الشيطان شيء ولو كان شيئاً بسيطاً جداً من وسوسة الشيطان، ليصدك بها عن أن تعفو عن صاحبك، كأن يدخل في نفسك ويقول لك: ولماذا تعفو عنه؟ وهل أنت ضعيف؟ فاذهب واضربه وافعل فيه كذا وكد له، فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وتعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وأتى سبحانه هنا بهذين الاسمين السميع والعليم، أي: أنه يسمع ما تقول، ويعلم ما تخفيه في قلبك من ناحية أخيك، ويعلم ما ألقاه الشيطان من وسوسة في قلبك حتى تنتقم ممن أساء إليك، وتبتعد عن مقام العفو عنهم.
قال الله سبحانه تبارك وتعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ[فصلت:37]، فالله سبحانه تبارك وتعالى هو الذي علمك العفو، وهو يقول لك سبحانه: إنه يعفو عن خلقه مع إجرامهم في حقه سبحانه ومع ذنوبهم العظيمة وكثرة خطاياهم إلا أنهم إذا تابوا إلى الله فإن الله يتوب عليهم سبحانه تبارك وتعالى، والله هو السميع الذي يسمع ما يقوله العباد، وهو العليم الذي يعلم ما يفعلون، وهو القادر على أن يعاقبهم، ومن آيات قدرته سبحانه تبارك وتعالى أنه خلق السموات والأرض، أفليس بقادر على أن يعاقب هؤلاء، وقد سمع ما قالوا، وعلم ما نووا وفعلوا؟! ومع ذلك يتجاوز ويعفو ويصفح عنهم، فاعف أنت أيضاً، وهذا من جمال الترتيب في هذه الآية، فقد ذكر لك مقام العفو، وأنك إذا عفوت لم ينقص ذلك من قدرك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله) فلما ذكر مقام العفو، وأن الشيطان إذا نزغ فاستعذ بالله القادر الذي يسمع ويعلم ويقدر عليك وعلى خصمك وعلى الشيطان، عقبها بذكر قدرته على خلق السموات والأرض، فهو الذي خلقهما، فانظر في آياته لتعرف قدرته سبحانه تبارك وتعالى العظيمة.
قال سبحانه: لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ[فصلت:37] أي: احذروا أن تسجدوا للشمس والقمر كما فعل الكفار ذلك، فسجدوا للشمس، وقالوا عنها: إنها إله تستحق العبادة، وهي مخلوق خلقها الله سبحانه تبارك وتعالى، وكذلك القمر آية من آيات الله، خلقه سبحانه لتعرفوا قدرة الله سبحانه تبارك وتعالى، لا لتعبدوها من دونه سبحانه.
قال تعالى: وَاسْجُدُوا لِلَّهِ[فصلت:37] أي: الإله المعبود الحق سبحانه تبارك وتعالى، فهو الذي خلقهن، وخلق السموات والأرض وخلق الليل والنهار، وخلق البلاد والعباد، وخلق كل شيء.
قال تعالى: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ[فصلت:37] أي: إن كنتم تبعدون الله حقاً، وإذا عرفتم أنه الرب الخالق الذي يستحق أن يعبد وحده، فهو الرب، وهو الإله سبحانه تبارك وتعالى، فإذا عبدتموه فوحدوه وحده ولا تشركوا به أحداً.
تفسير قوله تعالى: (فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له ...)
قوله: (أطت السماء) من: أط السقف، بمعنى: أنه كاد يهوي من الثقل الذي عليه، فقد بدأ يهتز ويكاد أن يقع وينشق، (أطت السماء) أي: كادت السماء أن تهوي، وقد قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا[فاطر:41]، فالسموات ثقيلة، وفيها ملائكة لا يحصي عددهم إلا الله سبحانه تبارك وتعالى، فمن ثقل الملائكة تئط السماء مثل السقف الذي يهتز ويكاد أن يهوي، ولكن الله عز وجل يمسكها أن تزول من ثقلها، وقد خلقها الله، فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ[فصلت:11]، وكذا الملائكة يعبدون الله سبحانه بالليل وبالنهار ويسبحونه وينزهونه ويقدسونه سبحانه، قال تعالى: وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ[فصلت:38] أي: لا يتعبون، ولا يملون من عبادة الله سبحانه تبارك وتعالى، وخلقهم الله وكرمهم، وهم مخلوقون من نور بأصل خلقتهم، فهم مكرمون عند الله سبحانه تبارك وتعالى.
وهذه الآية إحدى سجدات القرآن، وسجدات القرآن كلها متأكدة الاستحباب، مع الاختلاف الذي في سورة ص بين الشافعي والجمهور، والغرض: أن هذه إحدى السجدات التي في القرآن، والتي يستحب لمن قرأها أن يسجد إذا كان في وقت سجود، وليس في أوقات الكراهة أو التحريم، سواءً كان في الصلاة أو في غير الصلاة والله أعلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.