إسلام ويب

تفسير سورة الروم [1 - 8]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أخبر الله عز وجل بهزيمة الروم، ثم وعدهم بالنصر بعد ذلك على الفرس، وكان ما قال؛ ليبين أن وعده سبحانه نافذ ولا مرد له ولا دافع، ونصر الله تعالى هو حليف المؤمنين في كل زمان إذا هم نصروا دينه، والكفار لا يزالون في عتوهم ونفورهم وتكبرهم على أوامر الله وعلى الحق، والله يدعوهم إلى الرجوع إليه والنظر في آلائه الدالة على ربوبيته دون ما سواه.
    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، أما بعد:

    فقال الله عز وجل في سورة الروم:

    بسم الله الرحمن الرحيم الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ * أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ [الروم:1-8].

    بدأ الله سبحانه تبارك وتعالى هذه السورة بهذه البشارة للمؤمنين، وهي أن الروم الذين غلبوا في أدنى الأرض سيغلبون عدوهم من الفرس بعد ذلك، وكان المشركون قد شمتوا بالمسلمين حين بلغ الجميع أن الروم قد هزمت؛ لأن الروم أهل كتاب وهم أقرب إلى المؤمنين من المشركين، وبلاد الفرس عباد نيران، وهم أقرب إلى المشركين ومن أعدى أعداء المسلمين، وفي الآية السابقة يطمئن الله سبحانه تبارك وتعالى المؤمنين أن الغلبة لعباده المؤمنين، وكأن المسلمين حينها كانوا ينظرون في عواقب الأمور ويتوسمون أن أهل الكتاب إذا انتصروا فنحن سننتصر يوماً من الأيام، وإذا هزم أهل الكتاب نظر المشركون إلى المسلمين وقالوا: أنتم أيضاً ستهزمون في يوم من الأيام، فرد الله سبحانه زعم المشركين فقال عز وجل: غُلِبَتِ الرُّومُ * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون.

    القول في الحروف المقطعة في أوائل السور

    بدأت السورة بذكر الحروف المقطعة قال تعالى: الم [الروم:1] وهذه من حروف اللغة العربية التي يتحدى بها الله عز وجل الخلق جميعهم، والتحدي: أن هاتوا كتاباً مثل هذا القرآن فيه مثل هذا الإعجاز العظيم وهو من جنس الحروف التي تنطقون بها الم.

    وذكرنا فيما مضى فقلنا: إن الغالب أنه إذا ابتدأت السورة بحروف، تتكرر هذه الحروف في هذه السورة، فيكون نسبة تكرار هذه الحروف وخاصة الحرف الأول منها أعلى نسبة من نسب التكرار في السورة نفسها، فيكون الألف أعلى حرف تكرر في هذه السورة، يليه اللام، ثم المجموع من الألف واللام والميم يكون أعلى ما تكرر في هذه السورة.

    وهذا ضرب من ضروب الإعجاز الذي يتحدى الله سبحانه وتعالى الخلق أن هاتوا كتاباً مثل هذا الكتاب، أو سورة مثل هذه السورة، فيتجلى في السورة دقة الأحكام التي فيها، وجمالها في بلاغتها وفصاحتها وإتقانها، وفي التشريع الذي تضمنته آياتها، وما فيها من إعجاز علمي، ومن نبوءة صحيحة صادقة، كالإخبار بأخبار صادقة سابقة على النبي صلوات الله وسلامه عليه، كل ذلك وغيره كثير، فتجد فيه إعجاز هذا الكتاب العظيم الذي يقول فيه الإنسان المنصف إذا قرأه: يستحيل أن يكون هذا من قول البشر.

    كما أن من فوائد الحروف المقطعة في أوائل السور أيضاً: شد وجذب الانتباه، فالعرب لم يكونوا معتادين على ذلك، فلم يسمع العربي أحداً يقول له: الم، فإذا سمعها جهل ما الذي يقصده قائلها، فانتفض ليسمع ما الذي يريده؟ وذلك كما يسمع الإنسان صوتاً غريباً لم يعتد على سماعه، فيجتهد أن يصغي إليه، على خلاف الصوت الذي قد اعتاد أن يسمعه، فقد يمر على أذنه من غير أن ينتبه إليه.

    ومثال ذلك: ما يحدث لو مر بكم القطار وأنتم تعرفونه، فإنه كلما مرّ كأنه لم يمر، ولا ينتبه لمروره أحد منكم بخلاف إنسان كانت هذه هي أول مرة يرى فيها القطار، فإنه إذا مر القطار سيجتهد أن ينظر إليه، وسيتملكه العجب عند رؤيته له، فكذلك عندما يأتيهم من الله سبحانه تبارك وتعالى شيء لم يعتادوا عليه كقوله سبحانه: الم [الروم:1] فإنه يشدهم فيسألوا: ماذا تعني هذه الحروف؟ وقد يحرصون على أن يسمعوا ما يقوله صلى الله عليه وسلم، ليعرفوا ما يريد من هذه الأحرف، فكأن القرآن يقول لهم: تعالوا واسمعوا غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم:2-3]، وعند سماعهم يزدادون عجباً على عجب، فيتساءلون: ما الذي تقوله؟ وهل ما تخبر به من أن الروم ستنتصر على فارس حقاً؟ فيعلق ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم بأذهانهم، ويظلون يتوقعون ويتحدثون: هل سيصدق ما أخبر به القرآن أم أنه سيكذب؟ أما المؤمنون فهم جازمون بصدق كلام رب العالمين.

    أبو بكر يراهن على صدق ما وعد به القرآن

    أبو بكر الصديق بعد نزول الآيات في صدر سور الروم يندفع في أرجاء مكة وينادي على أهل مكة الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم:1-4] فقد روى الإمام الترمذي عن أبي بكر الصديق رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه لما نزلت هذه الآية الم * غُلِبَتِ الرُّومُ [الروم:1-2] خرج أبو بكر بها إلى المشركين وذكر ونادى في أرجاء مكة بذلك، غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم:2-3].

    فقال الكفار: أفلا نراهن على ذلك، أي: نراهنك أنه لن يحصل الذي تقول به، فيقبل منهم أبو بكر الصديق هذه المراهنة، والرهان نوع من القمار، وأصل القمار من قمره في الشيء بمعنى: غلبه فيه، وهي بمعنى: الخطر والمخاطرة؛ لأن مال أحد الطرفين على خطر، فإنه إما أن يكسب، أو يُغلب فيضيع منه ماله، وكان هذا موجوداً في أول الإسلام، وبعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بقليل، ثم حرم بعد ذلك، وقد كان هذا الأمر موجوداً في الأعوام المكية، فلذلك راهنهم أبو بكر في أن الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم هو صدق، وبعد أن ارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان، قالوا لـأبي بكر رضي الله عنه: كم تجعل البضع؟ فاتفقوا على ست سنوات، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه اجتهد حين وافقهم على الست السنوات، وإلا فالآية لم تحدد ذلك، وقد أخطأ رضي الله عنه فيما اجتهد به، فهو ليس معصوماً، إنما العصمة لكتاب رب العالمين وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، أما قول البشر فلا، والبضع في لغة العرب من ثلاثة إلى تسعة، فلما جاءت السنة السادسة لم يحصل الغلب الذي راهن عليه أبو بكر ، فعاب المسلمون ذلك على أبي بكر الصديق وقالوا: كيف تقول ستة والقرآن لم يقل: ستة؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر : (أفلا احتطت لذلك؟) أي: بأن لا تنزل عن التسعة إلى الستة.

    وكانوا قد جعلوا الرهان خمس جمال، وجعلوا الأجل إلى ثلاث سنوات، وبعد ذلك زادوا في الأجل لدون التسع السنوات، ثم حدث ما أخبر به القرآن العظيم على ما قدمنا قبل ذلك، وغلبت الروم الفرس ففرح المسلمون، وكان هذا في يوم بدر، ففي يوم انتصار المسلمين على المشركين انتصر أهل الكتاب على المجوس، وفرح المسلمون بنصر الله سبحانه.

    وقد كان الفرس قوة عظمى في العدة والعتاد والروم كذلك، ولكن كان الفرس أقوى من الروم، وفي هذا الحين كان الفرس منتصرين على الروم نصراً عظيماً، وأخذوا منهم بلاداً من بلاد الروم، وكان الخوف ينتاب المسلمين، إذ عندما تتقابل قوتان عظيمتان إحداهما أقوى من الأخرى، وهذه الأقوى هي عدوة للمسلمين، فإن ذلك يجعل المسلمين يخافون أن ينتصر أعداءهم، كما أن المسلمين يفرحون بأن القوة الأخرى تنتصر عليهم، أما الفرح الأعظم فهو بنصر الله سبحانه الذي كان في يوم بدر، فحدث الانتصاران في هذا اليوم، ففرح المسلمون بنصر الله عز وجل لهم، وكذلك وقع ما اعتقده المسلمون من صدق كلام رب العالمين سبحانه وأن الروم تنتصر على الفرس، فعبر القرآن عن هذه الفرحة فقال: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ [الروم:4-5]، ومعلوم أن النصر من أمر الله سبحانه تبارك وتعالى ومن قضائه وقدره، فهو ينصر من يشاء

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089188858

    عدد مرات الحفظ

    782575173