الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
ذكر الله تعالى في كتابه الكريم المسجد الحرام، وأنه جعله للناس سواء العاكف فيه والباد، فالناس يستوون في أمر المسجد الحرام، وليس أحد أحق من أحد بشيء فيه، فمن سبق إلى مكان فهو أحق به، سواء في المسجد الحرام أو في المناسك في الحج أو في العمرة، حتى ينتقل من هذا المكان، والكل سواء في تعظيم الحرمة وقضاء النسك، ويستوي في ذلك الحاضر الذي هو موجود، أو الباد وهو الذي يأتي من البادية أو القرى، أو يأتي من مكان بعيد إلى هذا البيت الحرام.
قال سبحانه وتعالى:
الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ 
[الحج:25]، قوله: (ومن يرد) أي: أصبح يريد، وجزمت كلمة يرد هنا بحذف حرف العلة،
وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ 
[الحج:25]، أي: من يريد في المسجد الحرام أن يلحد فيه ظالماً، والإلحاد: هو الميل والزيغ والبعد عن الحق. ومن صور الذي يلحد في المسجد الحرام أن يظلم نفسه ويظلم غيره، أو يقع في الشرك بالله سبحانه، أو في الكبائر والفواحش والذنوب، فالله عز وجل يتوعد هذا الملحد بالعذاب الأليم، حيث قال:
نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ 
[الحج:25].
وجاء في صحيح البخاري عن ابن عباس قال: قال صلى الله عليه وسلم: (أبغض الناس إلى الله ثلاثة)، يعني: أبغض العصاة إلى الله رب العالمين ثلاثة، (ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريقه)، فهؤلاء أبغض الناس إلى الله سبحانه وتعالى، وأبغض العصاة: هو من يلحد في الحرم، يعني: يقع في الفواحش، أو يقع في كبائر الذنوب، أو يريد الظلم فيه، وكذلك الإنسان الذي يشرك بالله سبحانه وتعالى، فهؤلاء هم أبغض الناس إلى الله عز وجل.
وقوله: (ومبتغ في الإسلام سنة جاهلية) أي: بعد أن دخل في الإسلام عاد يعمل ما كان يعمله أهل الجاهلية ويعتقدونه من شرك، وكهانة، وعرافة، وسحر، وأشياء كانوا يفعلونها في الجاهلية، فكذلك الذي يريد أن يرجع إلى دعوى الجاهلية، ويتعصب بعصبية الجاهلية، ويدعي دعوى الجاهلية، فهو من أبغض الناس إلى الله عز وجل.
وذلك أن من سنن الجاهلية أن الإنسان إذا قتل إنساناً أتى أهل القتيل فقتلوا القاتل، وقتلوا معه من هو أعظم منه من قبيلته، فيأخذون بدم الواحد دماء أناس مظلومين لم يفعلوا شيئاً، ولعلهم يتركون القاتل احتقاراً له ويقتلون أكبر رجل في قبيلته، إذ لعلهم يحتقرون القاتل ويقتلون زعيم القبيلة مثلاً، فهذا هو الذي يبتغي في الإسلام سنة الجاهلية، وما كان يصنعه أهل الجاهلية من محاسبة غير الظالم، فيأخذون مظلوماً بذنب إنسان ظالم.
قال: (ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريقه)، وهو الذي يقتل إنساناً من غير حق أو سبب، أو هو من يقتل غير القاتل، أو يقتل الإنسان المظلوم.
فهؤلاء أبغض الناس إلى الله عز وجل، ولهم العذاب الأليم عند الله رب العالمين سبحانه.
قوله تعالى:
وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ 
[الحج:25] قلنا: الإلحاد: هو الزيغ والميل عن طاعة الله سبحانه، والدخول في المعاصي وأعظمها الشرك بالله سبحانه، وجاء عن الصحابة في تفسير ( من يرد فيه بإلحاد ) تفسيرات كلها تعود لهذا المعنى، فيقول
ابن عباس رضي الله عنه:
وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ 
[الحج:25] قال: الشرك، وهذا نوع من أنواع الإلحاد في البيت الحرام، والشرك سواء في المسجد الحرام أم في غيره فهو لا يغفره الله عز وجل إلا أن يتوب العبد ويراجع التوحيد، فالذي يذهب للمسجد الحرام ويدعو غير الله عز وجل يستحق هذه العقوبة الشديدة.
قال عطاء : الشرك والقتل، يعني: الذي يلحد في الحرم هو الذي يقتل مظلوماً أو يشرك بالله عز وجل، وقيل: بل معناه صيد الحمام، وقطع شجر الحرم، ودخول الإنسان غير محرم، وهذه كلها من المعاصي التي قد يفعلها الإنسان، فيذهب مسافراً إلى مكة ثم يدخل الحرم بغير حج ولا عمرة، وكأنه يستهين بهذا المكان الذي شرفه الله سبحانه وعظمه، ولا يرى عليه لله عز وجل حقاً أن يدخل هذا المكان محرماً. ومثله الذي يستهين فيصيد حمام الحرم أو يقطع شجرة مستهيناً بالعقوبة في ذلك المكان، فصيد الحمام وقطع الشجر في ذلك المكان من الإلحاد بظلم، فكيف بالإنسان الذي يظلم أخاه المؤمن؟!
قال ابن عمر رضي الله عنهما: كنا نتحدث أن الإلحاد فيه أن يقول الإنسان: لا والله، وبلى والله.
فكلام ابن عمر يدل على أنه بمعنى اللغو في الكلام، فالمقام العظيم في المسجد الحرام يمنع الإنسان أن يتكلم باللغو أو بغير ما ينبغي عليه.
ولذلك كان ابن عمر رضي الله عنه يجعل لنفسه فسطاطين، أي: خيمتين، خيمة في الحل وخيمة في الحرم، فإذا أراد أن يأتي أهله ويتكلم معهم في أمور الدنيا ذهب إلى الخيمة التي في الحل، وإذا أراد العبادة ذهب إلى الحرم، ولا يخلط بين هذه وتلك، وهذا من ورع ابن عمر رضي الله عنه.
ومثله أيضاً عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه حيث كان له فسطاطان: أحدهما في الحل، والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل، وإذا أحب أن يؤدب عياله أدبهم في الخيمة التي في الحل، وإذا أراد أن يصلي صلى في خيمة الحرم، فقيل له: لماذا تفعل هذا الشيء؟ فقال عبد الله بن عمرو : إنا كنا لنتحدث أن من الإلحاد في الحرم أن نقول: كلا والله، وبلى والله، يعني: المنازعة في الكلام، فخاف عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم من الوقوع في ذلك في الحرم.