يذكر الله سبحانه وتعالى أن دينه واحد لجميع الأمم والأنبياء والرسل، فهو دين يدعو إلى الخير ويحارب الشر، ومع ذلك لما جاء البشر العلم والطريق الصحيح اختلفوا فيه وتفرقوا إلى فرق وأحزاب وطوائف، كل حزب بما لديه متمسك وفرح، وكل حزب يحسب أنه على الصواب وأنه على هدى، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل أمة أو فرقة تبعث يوم القيامة على ما كانت عليه من دين، وفي ذلك اليوم يتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم ممن أحدثوا من أمته من بعده وغيروا وبدلوا.
قال تعالى:
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ 
[المؤمنون:54]، يقول الله للنبي صلى الله عليه وسلم: لا يضيق صدرك من عمل هؤلاء الذين فرقوا الدين، والذين تأخروا عن دين الله سبحانه، وقد قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى الخلق جميعهم، فيقال: هذا نبينا صلى الله عليه وسلم وهذه أمته، والأمة: إما أمة الدعوة وإما أمة الإجابة، وكلا الأمتين تتفرق، وأمة الدعوة هي التي بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فيهم الذكر والأنثى، وفيهم الإنسان التقي وفيهم الشقي، وفيهم من أهل الأوثان وأهل عبادة الصليب واليهود وغير ذلك، فأمة الدعوة: كل من يدعوهم النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أرسل إليهم، وقد أرسل إلى جميع من هم على الأرض في عهده إلى يوم القيامة، وأما أمته الذين يأتي إمامهم يوم القيامة: فهم الذين استجابوا له صلوات الله وسلامه عليه، وقالوا: لا إله إلا الله.
فالله سبحانه وتعالى أخبر عن هذه الأمة كلها أنهم لا يزالون مختلفين، فيأتي اليهود على ما هم فيه، والنصارى على ما هم فيه، وأهل الأوثان على ما هم فيه، ويأتي المسلمون الذين يقولون: (لا إله إلا الله) يدخلون في الدين يخترعون ويبتدعون ويتركون دين الله سبحانه، ويخبر عنهم يوم القيامة أنهم يذادون عن حوضه يوم القيامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليذادن أقوام عن حوضي يوم القيامة فأقول: أصحابي أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: ألا سحقاً ألا سحقاً، ألا بعداً ألا بعداً)، يقول: بعداً لهؤلاء الذين أحدثوا، وهم كانوا يقولون: لا إله إلا الله، ولكنهم ابتدعوا في دين الله وفرقوا دينهم، فلما جاءوا يوم القيامة جاءوا مسلمين، وعلامات الصلاة بادية في وجوههم من آثار السجود، وفي أيديهم وفي أرجلهم، ولكنهم لما كادوا يصلون إلى حوض النبي صلى الله عليه وسلم أبعدوا عنه؛ لأنهم ابتدعوا في دين الله سبحانه، فكل إنسان يترك دين الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم يخشى عليه أن يأتي يوم القيامة فيذاد عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم، أي: يدفع ويبعد عن حوضه، ويقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا بعداً) أي: لمن أحدث بعدي، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث: (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في ديننا هذا ما ليس منه فهو رد)، وقال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، والذي يحدث في دين الله ويعمل عملاً ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا جماعة المسلمين فأمره مردود عليه، مهما زعم أنه يتقرب إلى الله عز وجل بذلك.
فالله سبحانه نزل الكتاب وأرسل رسوله صلى الله عليه وسلم حتى يتبع الناس ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ
[الأعراف:3]، أي: لا تتبعوا شركاء من دون الله سبحانه، ولكن اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم، وقال تعالى:
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي
[يوسف:108]، فالمؤمنون على بصيرة من دينهم يتعلمون أمر دينهم، ويتبعون الكتاب وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يكون إمامهم يوم القيامة النبي صلوات الله وسلامه عليه.
أما أهل الأهواء فيتبعون ما يخترعون، قال تعالى: (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ).
يقول تعالى: (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) والغمرة: ما يغمرك، وهو الشيء الذي يغمر الإنسان ويغطيه، ومنه الغمر: الماء الكثير الذي يغمر الأرض ويغمر ما تحته، فقوله تعالى: (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ)، أي: في عمايتهم، وفي ضلالتهم، وفي حيرتهم، وفي شكهم، وفي ابتعادهم عن دين الله سبحانه وتعالى، وفيما طبع على قلوبهم من غشاوة وغلاف، فذرهم في ذلك واتركهم، ولا تحزن عليهم، فنحن سنحاسبهم ونعذبهم.
وقوله تعالى: (فَذَرْهُمْ) كلمة وعيد وتوعد من الله تعالى، وما جاءت هذه الكلمة في القرآن كله إلا بمعنى الوعيد، قال تعالى: (حَتَّى حِينٍ)، لو قال: (إلى حين) فقد يكون فيها شيء من المتاع، وشيء من الراحة، ولكن (حَتَّى حِينٍ) معناها: اصبر عليهم فسنريهم حتى يأتيهم العذاب أو حتى يأتيهم الموت فيحاسبهم الله سبحانه.
ثم يقول سبحانه:
أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ *
نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ 
[المؤمنون:55-56].
قوله: (أَيَحْسَبُونَ)، قرأها نافع وابن عامر وحمزة وأبو جعفر: (أيحسِبون)، وقرأها باقي القراء: (أيحسَبون).
وقوله: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ) أي: هل تظنون أننا كلما أعطيناكم من مال وأمددناكم ببنين وذرية معناه: أنكم من أهل الخير وتستحقون الخير؟ هل هذا دليل على استحقاقكم عند الله يوم القيامة الجنة والنعيم؟
إن الدنيا قد يعطيها الله عز وجل من يحب ومن لا يحب، فعطاء الله للناس في الدنيا ليس دليلاً على أنه يعطيهم يوم القيامة أيضاً، بل قد يكون إملاء واستدراجاً لهم، ولهذا قال تعالى: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ)، أي: ما نعطيهم في هذه الدنيا، وقوله تعالى: (مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ)، فليس معنى هذا: أننا نسارع في إعطائهم الخيرات من أجل أن نعطيهم خيرات يوم القيامة، فهذه الخيرات معجلة لهم في الدنيا ولا خير لهم في الآخرة، فهم لم يحسوا أننا نملي لهم، قال تعالى:
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ
[الأعراف:183].
وقوله تعالى: (بَل لا يَشْعُرُونَ) أي: فهم في غفلة، فالإنسان في غفلة وفي نوم حتى إذا مات استيقظ من هذا النوم، وقام من رقدته ومن غفلته، فالدنيا غفلة للإنسان وحلم من الأحلام، إذا مضى هذا الحلم وجاءه الموت واستيقظ يرى الواقع الأليم الذي كان عليه.
قال تعالى:
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ 
[المؤمنون:60]، من الصفات الكريمة في الإنسان المؤمن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ)، أي: يعطون، فيعطون عملاً، ويعطون مالاً، ويعطون إخلاصاً ونية، ويعطون ويقدمون أعمالاً تكتبها الملائكة، فهم يعطون الأعمال والملائكة يكتبونها، فكل أعمالهم على الإخلاص وعلى التقوى، وهم كما قال الله تعالى: (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)، أي: قلوبهم خائفة وخاشعة لله رب العالمين، (أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)، فالمؤمن يعرف أنه راجع إلى الله، فمهما عمل من عمل ينظر أمامه: يا ترى هل هذا العمل موافق للكتاب والسنة أو مخالف لهما؟ وهل هو موافق لمراد الله؟ وإذا كان موافقاً فهل هذا الذي أعمله أنا مخلص فيه أو لست مخلصاً؟ فهو يقدم العمل المتابع للكتاب والسنة وينظر في إخلاصه، وبعد ذلك يخاف ألا يقبل هذا العمل.
وقد جاء في حديث عند الترمذي وابن ماجة ما يوضح لنا هذا المعنى، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية:
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ
[المؤمنون:60]: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟)، أي: يؤتون ما آتوا من المعاصي وهم خائفون؟ هل هذا هو المعنى؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (لا يا ابنة الصديق! ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون ويخافون ألا يقبل منهم، أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون).
هذه هي طبيعة المؤمن، وهي فطرة الله سبحانه وتعالى، فقلبه قد عرف ربه، وصدق وآمن، فهو يخشى ربه، ففي قلبه الإيمان الذي عرفه بقدرة الله سبحانه، والناس ما قدروا الله حق قدره، والإنسان المؤمن يحاول أن يصل إلى درجات المعرفة واليقين العالية، فهو في خوف من الله سبحانه وتعالى، فيؤتي ما آتى، يصلي ولا يمن، ولا يقول: أنا صليت، وأنا سأدخل الجنة، بل يعطي زكاته ويتصدق بالصدقة ويعمل الخيرات ولا يركن إلى ذلك أنه قد نجا بهذا الشيء، فتراه يخاف ألا يقبل منه.
فإذا كان إبراهيم النبي المعصوم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وإسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يقولان لله سبحانه وتعالى:
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا
[البقرة:127]، وهما يبنيان البيت الذي سيحج إليه الملايين من البشر إلى يوم الدين، وهذا يعني أنه (من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها)، فالإنسان الذي يبني لله عز وجل مسجداً كلما صلى فيه إنسان كان له بهذا الذي بناه أجر، إذاً: سيكون أجر إبراهيم وإسماعيل ببنائهم هذا البيت من آلاف السنين ويحج إليه الملايين ويصلون فيه ما لا يحصيه من الأجور إلا الله، ومع ذلك يخافون من الله ألا يقبل منهما، فيقولان:
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
[البقرة:127]، فالإنسان المؤمن يخاف من الله سبحانه ألا يقبل عمله، ويعمل العمل وهو ينظر إلى الآخرة أنه راجع إلى الله، فيخاف أن يموت على غير الإسلام، فيقول كما قال يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام لما ذكر الملك الذي هو فيه:
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ
[يوسف:101].
فيوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام آتاه الله الملك والعلم والنبوة، وعلم تأويل الرؤى والأحلام، وآتاه الله عز وجل من فضله في الدنيا، وهو وليه سبحانه، دافع عنه، وكان معه حين طرده إخوته، ووضعوه في غيابة الجب، وحين أُخِذَ عبداً وحين نجاه الله سبحانه وتعالى، فجعله ولداً عند من أخذوه وربوه، وبعد ذلك صار عزيزاً لمصر عليه الصلاة والسلام.
مع كل ما أعطاه الله من النعم والأفضال يقول: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا)؛ لأن هذه الدنيا لا تساوي شيئاً، إنما المهم هي الآخرة، فثبتني على دين الإسلام حتى ألقاك عليه، وتوفني على الإسلام، قال تعالى: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ).
نسأل الله عز وجل أن يتوفانا مسلمين وأن يحلقنا بالصالحين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.