كان الصحابة يحب بعضهم بعضاً في دين الله سبحانه وتعالى، يتناصحون ويقبل بعضهم من البعض النصيحة، بل يقول لأخيه: انصحني!
هذا عمر بن الخطاب كان ينتصح ويقبل النصيحة من أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه وهو أمير المؤمنين، فقد جاءه خطاب من أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل ، وهما من العشرة المبشرين بالجنة وعمر كذلك رضي الله عن الجميع.
فـأبو عبيدة شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أمين هذه الأمة، وشهد لـمعاذ بن جبل أنه أعلم أمته بالحلال والحرام، وقال له: (يا معاذ ! إني أحبك)، أسلم معاذ وعمره ثماني عشرة سنة، وشهد بيعة العقبة، ومات بعد ذلك في طاعون عمواس سنة سبعة عشر أو ثمانية عشر وعمره ثلاثون سنة رضي الله تعالى عنه.
هذا الشاب الصغير رضي الله عنه أحبه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا معاذ ! إني أحبك)، ثم نصحه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (لا تدعن عقب كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك وحسن عبادتك)، وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وأخبر أنه يسبق العلماء يوم القيامة برتوة.
الغرض: أنهما كتبا لـعمر : سلام عليكم، أما بعد: فإنا عهدناك وأمر نفسك لك مهم، يعني: نحن كنا أصحاباً لك، ونعلم أنك تهتم بنفسك خائف عليها من النار ومن عقوبة الله سبحانه.
وقد وليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها، يجلس بين يديك الشريف والوضيع والعدو والصديق، ولكل حصته من العدل، فانظر كيف أنت عند ذلك يا عمر !
إنا نحذرك يوماً تعنو فيه الوجوه، وتجف فيه القلوب، وتنقطع فيه الحجج لحجة ملك قهرهم بجبروته يوم القيامة، والخلق داخرون صاغرون أذلة يرجون رحمته ويخافون عقابه، وإنا كنا نحدث أن أمر هذه الأمة سيرجع في آخر زمانها إلى أن يكونوا إخوان العلانية أعداء السريرة -أي: كل واحد مصاحب للآخر في الظاهر، لكن في قلبه يتمنى له الشر- قالا له: وإنا نعوذ بالله أن ينزل كتابنا إليك سوى المنزل الذي نزل من قلوبنا. أي: نعوذ ونستجير بالله أن تظن بنا ظن السوء، أو أن الكتاب تأخذه ثم ترميه ولا تعتبر بما فيه، فإنا كتبنا نصيحة لك والسلام عليك.
هذه النصيحة من معاذ وأبي عبيدة لـعمر رضي الله عن الجميع، ثم كان الرد من عمر أن كتب إليهما رضي الله عنه، فقال:
من عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة ومعاذ بن جبل : سلام عليكما، أما بعد: فإنكما كتبتما إلي تذكران أنكما تحباني، وأمر نفسي ليهم، وإني قد أصبحت قد وليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها، يجلس بين يدي الشريف والوضيع والعدو والصديق، ولكل حصة من ذلك، وكتبتما: فانظر كيف أنت عند ذلك يا عمر !
فهو يبين لهم أنه قرأ كتابهما، واهتم بما فيه، واحتفظ به، وكان فيه: وأنه لا حول ولا قوة عند ذلك لـعمر إلا بالله. يعني: لا حيلة لي إلا أن يعينني الله على ذلك.
وكتبتما تحذراني مما حذرت به الأمم قبلنا، وقديماً كان اختلاف الليل والنهار بآجال الناس يقربان كل بعيد، ويبليان كل جديد، ويأتيان بكل موعود، حتى يصير الناس إلى منازلهم من الجنة والنار.
كتبتما تذكراني أنكما كنتما تحدثان أن أمر هذه الأمة سيرجع في آخر زمانها أن يكون إخوان العلانية أعداء السريرة، ولستم بأولئك، يعني: أن كلامكم طيب وجميل، ولن نكون نحن أصدقاء في العلانية وأعداء في السريرة.
قال: وليس هذا بزمان ذلك، بل زمان تظهر فيه الرغبة والرهبة، وما زال الناس بخير يرغبون فيما عند الله سبحانه، ويخافون من بطش الله سبحانه.
كتبتم هذه نصيحة تعظاني بالله أن أنزل كتباكما سوى المنزل الذي نزل من قلوبكم، وأنا أنزلها في المنزل الذي أنتم أردتم، وقد صدقتما الأمر، قال: فلا تدعا الكتاب إلي فإنه لا غنى بي عنكما.
يعني: هذه نصيحة جميلة، وأنا حفظتها، بدليل أني كتبتها إليكم مرة أخرى.
هذا عمر رضي الله تعالى عنه، الذي كان يهتم لأمر نفسه، ويخاف من الله سبحانه وتعالى.
يقول حذيفة : دخلت مرة على عمر وهو جالس يحدث نفسه، ويؤنب نفسه، ويعاتب نفسه، فجلس بجواره حذيفة رضي الله تعالى عنه وقال له: ما الذي أهمك يا أمير المؤمنين؟!
فقال عمر : بيده وأشار لنفسه، يعني: نفسه هي السبب الذي جعله يصنع هكذا.
فقال: والله لو رأينا منك أمراً ننكره لقومناك.
فنظر إليه عمر وقال: آلله الذي لا إله إلا هو، يعني: تحلف بالله الذي لا إله إلا هو على ما قلت، وأنكم لو رأيتم مني أمراً تنكرونه لقومتموه؟
فقال حذيفة : فقلت: آلله الذي لا إله إلا هو، يعني: نحلف بالله إنك لو أخطأت لقومناك.
قال: ففرح بذلك فرحاً شديداً.
كأنه كان يكلم نفسه محتاراً ومهموماً أن يكون هناك من هو خائف منه فلا ينصحه، فـعمر فرح بذلك، وعلم أنه على صواب رضي الله تعالى عنه، وقال: الحمد لله الذي جعل فيكم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من إذا رأى مني أمراً ينكره قومني.
الإنسان يقبل النصيحة ممن ينصحونه فيقبل منهم، لا يقول: أنت تحسدني؛ لأني أمير وأنت أقل مني، لم يقل هذا رضي الله عنه، لذلك لما فتح الله له الدنيا ما كان يأخذها ويحوزها ويقول: هي لي أتصرف فيها كما أريد، بل ينظر إليها ويبكي، فيسأله عبد الرحمن بن عوف عن سبب بكائه، ولماذا لا تفرح بنعمة الله؟
لكن عمر رضي الله عنه يقول: ما فتح هذا على قوم إلا سفكوا دماءهم، وقطعوا أرحامهم.
ثم يقول لأحد من الجالسين: أرحني منها. أي: وزع هذه الأموال على المسلمين، ويقسم المال بين المسلمين بحسب منازلهم ومراتبهم، ويعطي لابنه كما يعطي لآحاد المسلمين.
كان
عمر رضي الله عنه يمشي مرة فرأى طفلة صغيرة في الشارع، وكانت تمشي قليلاً وتقع، وكانت ماشية مع
عبد الله بن عمر ، فغضب ونظر إلى
عبد الله بن عمر فقال: ابنة من هذه؟ إنه قد ضيعها أهلها! قال: إنها ابنتك.
قال: أي بناتي؟
قال: بنت عبد الله بن عمر ، يعني: بنتي، أنت لا تعطينا كما تعطي الناس، فهي لا تجد ما تأكل، وعمر شهد بذلك، وقال:البنت هذه أهلها ضيعوها.
فجعل عمر ينظر نظرة ليست نظرة الأب ولا نظرة الجد، ولا نظرة الشفقة والرحمة، ولكن نظرة الحاكم العادل، فقال له: وما يمنعك أن تكسب لها، والله لا أعطيك إلا كما أعطي آحاد المسلمين. يعني: فاذهب واشتغل، لكن نصيبك في بيت المال مثل نصيب آحاد المسلمين، فرضي الله تعالى عن عمر .
هنا تظهر شدة عمر التي جعلت الناس يجبونه، كان شديداً في الحق فأحبه الناس رضي الله تبارك وتعالى عنه، لذلك لما قتل عمر ما من مسلم من المسلمين إلا بكى كأنه مات له أخوه أو ابنه أو قريبه، كل بيوت المسلمين؛ لأن شدته عليهم كانت لمصلحتهم، لخوفه عليهم رضي الله تعالى عنه، عرف حقوق المسلمين، وعرف الواجب عليه، فأعطى الحقوق وقام بالواجبات رضي الله تعالى عنه.