إسلام ويب

شرح رياض الصالحين - الحلم والأناة والرفق [2]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الحلم والرفق بالناس لهما أجر عظيم، وفضلهما عند الله كبير، فهما سببان لمحبة الله عز وجل ومغفرته سبحانه وتعالى، إذ إن فيهما التيسير على الخلق والرحمة والشفقة بهم. وهما يعبران عن بساطة الإنسان وسماحته، وحسن خلقه بين الناس، ودليلان على صفاء قلب صاحبهما ونقائه.

    الله تعالى يحب الرفق

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    أما بعد:

    قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الحلم والأناة والرفق.

    عن أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله عز وجل كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته) رواه مسلم .

    وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه, وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله تعالى) متفق عليه.

    وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بمن يحرم على النار أو بمن تحرم عليه النار؟ تحرم على كل قريب هين لين سهل) رواه الترمذي ، وقال: حديث حسن].

    هذا الباب في الحلم والأناة والرفق.

    والحلم صفة من الصفات التي ينبغي أن يتخلق بها الإنسان المؤمن، فيكون حليماً في معاملته للخلق، ولا يكون عذولاً، وإنما يكون متأنياً حليماً رفيقاً بالخلق.

    قال الله عز وجل: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]. وجاء في حديثه صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري ومسلم عن عائشة : (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله) .

    والإنسان الرفيق حري بأن يعامله الله عز وجل هذه المعاملة، فالله كريم وحليم تبارك وتعالى، فإذا كان الإنسان كريماً فإن الله يعامله بكرمه، وإذا كان رحيماً وحليماً فإن الله يعامله برحمته وحلمه سبحانه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف) فإذا كان الأمر يأتي بالرفق ويأتي بالعنف والنتيجة واحدة فما كان بالرفق فهو أصوب وأفضل عند الله عز وجل فتعامل مع الناس برفق، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر برفق، حتى يكون لك في الحالين الأجر عند الله سبحانه، فإن أمرك بالمعروف معروف، ونهيك عن المنكر أيضاً معروف.

    وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من يحرم الرفق يحرم الخير كله) فمن يحرم الرفق يحرمه الله عز وجل الخير كله، ومن أعظم الخصال التي تكون في قلب المؤمن أن يكون رفيقاً وحليماً، فيأخذ بالرفق، فإذا حرمه الله عز وجل ذلك كان متهوراً ومندفعاً ومؤذياً، فيؤذي نفسه ويؤذي غيره، فيحرم الخير كله.

    شرح حديث: (لا تغضب)

    عن أبي هريرة كما عند البخاري : (قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني. قال: لا تغضب. فردد مراراً أوصني. قال: لا تغضب).

    ولا أحد يستطيع أن يمنع نفسه من الغضب، وكل فرد منا قد يغضب في اليوم مرات كثيرة فكأن معنى الحديث: لا تنفعل في غضبك انفعالاً بحيث تؤذي غيرك وتؤذي نفسك وتندم بعد ذلك عليه، ولا تستدع أسباب الغضب بأن تضع نفسك في المكان الذي تعرف أنك ستغضب فيه وتتهور، فلا تتعاط أسباب الغضب، فإن الغضب من أسباب الشر للإنسان.

    فابتعد عن أسباب الشر إلا إذا كان الغضب لله تبارك وتعالى ولشرعه، ولذلك كان الجهاد في سبيل الله عز وجل غضبة من المؤمنين لشرع رب العالمين سبحانه، فيغضبون من الكفار ويجاهدون في سبيل الله، وأما الغضب من أمر الدنيا فلا تستدع أسبابه، ولا تغضب.

    والإنسان الذي يغضب يصير طبعاً فيه، فإذا غضب اليوم من شيء فغداً يغضب من شيئين، وبعده من ثلاثة أشياء، وفي كل فترة يبتلى بأحد يغضبه، فيغضب ويتهور، فيقع في سب الخلق، ثم يقع في مد اليد على الغير، فيأتي يوم القيامة وقد شتم هذا، وقذف هذا، وسفك دم هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، حتى إذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه فطرح في النار. فلذلك لا تعود نفسك على التهور والاندفاع والغضب.

    شرح حديث: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء...)

    عن أبي يعلى رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) أي: إن الله يحب المحسنين، فأحسن في كل شيء، فأحسن إلى نفسك، وأحسن إلى غيرك، وأحسن حتى في قتالك لأعدائك.

    قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة) ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الصبر، وذلك بأن يكتف الإنسان ثم يقتل.

    فإذا قتلت فأحسن القتلة، حتى مع الأعداء، فلا تشوه ولا تعذب، ودع أمرهم إلى الله عز وجل، فإذا قتلت فاقتل قتلاً يريح المقتول، ولا داعي للتشويه ولا للتعذيب، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التعذيب بالنار، وأخبر أنه لا يعذب بها إلا الله سبحانه وتعالى.

    قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة)، يعني: في الجهاد في سبيل الله عز وجل أو في غير ذلك، فإذا أردت أن تقتل شيئاً عادياً يعدو عليك فأحسن قتلته، وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بقتل خمس في الحل والحرم، فإذا قتلت ثعباناً أو كلباً عقوراً أو حدأة أو غراباً أو أي شيء من الأشياء المؤذية فاقتله وأرحه وأرح نفسك بقتله ولا تعذبه.

    قال صلى الله عليه وسلم: (وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة) وقد أباح الله لنا بهيمة الأنعام لنأكلها، فإذا ذبحت فسم الله عز وجل ثم أحسن في ذبحك لها.

    فمعنى: (أحسنوا القتلة)، أي: أحسنوا هيئة القتل، وهيئة الذبح وطريقته، فالذبحة والقتلة اسم هيئة.

    قال صلى الله عليه وسلم: (وليحد أحدكم شفرته) والشفرة سن السكين فلا تحدها أمام الحيوان، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: أنه مر على رجل واضع رجله على جانب بهيمة يريد أن يذبحها وهو يحد شفرته، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أتريد أن تميتها موتتين؟) يعني: تعذبها بأن تحد السكين أمامها ، ثم بعد ذلك تذبحها، فحد السكين بعيداً عنها، ثم اذبحها سريعاً بحيث لا تؤذيها ولا تعذبها. قال: (وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته).

    شرح حديث: (ما خير رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما)

    وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا بأخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً) عليه الصلاة والسلام فكان إذا خير بين أمرين أحدهما فيه عنف والثاني فيه رفق اختار ما فيه رفق عليه الصلاة والسلام، فكان دائماً سهلاً ويحب السهل، صلوات الله وسلامه عليه، قالت: (فإن كان إثماً) أي: إن كان هذا الأيسر فيه إثم فلا يختاره؛ لأنه كان أبعد الناس عنه، صلوات الله وسلامه عليه.

    قالت: (وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط).

    وقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا محمد! اعدل. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ومن لم يعدل إن لم أعدل، خبت وشقيت إن لم أكن أعدل) أي: إذا كنت لا أعدل فأنت خائب وشقي، ولن تنتفع بهذا الأمر الذي أنت فيه إن كنت تتبع رجلاً ظالماً، ومع ذلك ما انتقم منه صلى الله عليه وسلم، وقال له رجل من الصحابة: (ألا أقتله يا رسول الله؟ قال لا. لعله أن يكون يصلي) ولم يأمر بقتله، ولم ينتقم منه عليه الصلاة والسلام.

    وكذلك الرجل الأعرابي الأحمق الغبي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأمسك بثوبه وخنقه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أثرت حاشية الثوب في رقبته صلوات الله وسلامه عليه ثم قال له: (يا محمد! أعطني من مال الله لا من مال أبيك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أعطوه) فحلم النبي صلى الله عليه وسلم عليه؛ ليعلم الناس الحلم عليه الصلاة والسلام.

    وفي إحدى المرات أتاه وفد من الأشعريين، وقد كان يحب الأشعريين رضي الله تبارك وتعالى عنهم، ويقول: (هم مني وأنا منهم) .

    فجاءه الأشعريون في وقت كان مشغولاً فيه فقالوا له: احملنا. ولم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم عليه فقال: (والله لا أحملكم على شيء) فحلف على ألا يحملهم على شيء، فذهب الأشعريون وعندما كانوا في الطريق كلم بعضهم بعضاً: لقد أغضبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا نعمل؟

    فلم يلبثوا إلا قليلاً حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم صدقات من الإبل، فأرسل إلى الأشعريين فأعطاهم من هذه الإبل، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد قالوا: لعلنا أحلفنا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: (قد حلفت يا رسول الله ألا تحملنا) وهذا من أدب الأشعريين رضي الله تبارك وتعالى عنهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الإيمان يمان والحكمة يمانية) وهم أهل اليمن رضي الله تبارك وتعالى عنهم، فهم أرق الناس قلوباً وأفئدة.

    فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنا حملتكم) يعني: لست أنا الذي حملتكم، ولم أحملكم من مالي، فكأنه لما حلف قصد ألا يحملهم من ماله؛ لأنه ليس له مال يحملهم عليه، وهذا مال الله، وصدقة من الصدقات التي جاءت فحملتكم على مال الله وليس على مالي، فلم يمنعه غضبه من أن يعطيهم هذا الشيء الذي طلبوه، طالما أنه ينفعهم ولا يضره صلى الله عليه وسلم ذلك شيئاً.

    تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله). فإذا انتهكت حرمات الله، كأن يقع إنسان في الزنا، أو في الكفر، أو يفعل شيئاً نهى الله عز وجل عنه، فينتقم منه النبي صلى الله عليه وسلم لله ويأمر بإقامة الحد عليه، فهو ليس انتقاماً بالمعنى الذي نفهمه، وليس فيه تشف، وإنما هذا الانتقام إقامة لحد الله عز وجل على هذا الإنسان الذي وقع في الخطيئة، قالت: (فينتقم لله) وليس لنفسه عليه الصلاة والسلام.

    شرح حديث: (ألا أخبركم بمن تحرم عليه النار...)

    روى الترمذي وقال: حديث حسن. وفي إسناده رجل لم يوثقه سوى ابن حبان ، فإسناده فيه ضعف.

    عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا خبركم بمن يحرم على النار، أو بمن تحرم عليه النار؟ تحرم على كل قريب هين لين سهل) .

    فالنار تحرم على هؤلاء من المؤمنين، فالمؤمن إلف مألوف، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا خير في من لا يألف ولا يؤلف) والإنسان المؤمن هين لين سهل، والله عز وجل ذكر عباد الرحمن فقال: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان:63] وهوناً أي: بلين وبتواضع وبخشوع وبأدب.

    قال تعالى: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63] والجاهلون: أهل الجهل والسخط والباطل، فإذا خاطبوهم ردوا عليهم بكلام لين، وقد لا يردون عليهم ولا يجاوبونهم، وإذا ردوا عليهم فلا تخرج منهم لفظة قبيحة أبداً وإنما يقولون لهم: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين. فليس لنا دخل بكم، ولن نرد عليكم فيما تقولونه، ولا يقولون إلا الكلام الطيب، فقلوبهم أوعية للشيء الطيب، وكل إناء ينضح بما فيه، فقلوبهم ممتلئة بالخير، فإذا تكلمت ألسنتهم تكلمت بهذا الخير الذي أشربته قلوبهم، فالنار تحرم على هؤلاء، وعلى كل قريب من الناس.

    والمؤمن ليس بعيداً عن الناس، وإنما هو قريب منهم، وشر الناس من اتقاه الناس مخافة شره، أي: أن شر الخلق هو الإنسان الذي يتركه الناس لأن لسانه طويل، ولأنه مؤذ، فهذا من شر الناس.

    وعكسه المؤمن فهو خير الناس، وهو إلف يؤلف بسهولة، فإذا تكلمت معه أحسست أنك تعرفه منذ زمان، وأن بينك وبينه مودة، فالمؤمن إلف مألوف، ولا خير في من لا يألف ولا يؤلف.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089346596

    عدد مرات الحفظ

    783937650