أما بعد:
فيا عباد الله: إن حكمة الخلق والإيجاد، ونعمة الرزق والإمداد حكمةٌ بالغة فما تغني النذر، حكمةٌ أوضحها الله عز وجل في محكم التنـزيل، فقال عز من قائل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58] الحكمة التي من أجلها خلق الله العباد، وخلق الله الكون، وسخر سماواته وأراضيه، وشمسه وقمره، وجباله وسهوله، وأنهاره وبحاره وجميع الكائنات، الحكمة التي من أجلها أوجد هذا العالم هي: حكمة العبادة، وهذا واضح من كلام الله عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
واهتمام الإنسان بأي عملٍ آخر غير هذه الحكمة وضعٌ للشيء في غير موضعه، واهتمامٌ بما ليس له أهمية.
إن الأهمية الأولى والحكمة العظيمة، والسر الذي من أجله خلقك الله أيها الإنسان! أن تكون عبداً لله، خاضعاً لشريعة الله، متلقياً لجميع أمورك ونواهيك من الله، تسير على نور من الله، تحكّم منهج الله في كل تصرفاتك، في ليلك ونهارك، في سرك وجهارك، في مسجدك ومكتبك، في بيتك وسوقك، مع نفسك وزوجك، مع أولادك ووالديك، مع جيرانك وأقاربك، تُحَكِّمْ شريعة الله في كل حركةٍ من حركاتك، وفي كل سكنةٍ من سكناتك، عينك تحكمها بأمر الله، أذنك تحكمها بأمر الله، لسانك تحكمه بأمر الله، يدك تحكمها بأمر الله، رجلك تحكمها بأمر الله، فرجك تحكمه بأمر الله، بطنك تحكمها بأمر الله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44].. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47].
كثيرٌ من الناس يحمل هذه الآية على الحكام والمسئولين فقط، ويقول: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] وما علم أن مدلول الآية أوسع من ذلك، أنها تشمل الحاكم والمحكوم، وتشمل الرجل والمرأة، وتشمل الوالد والولد، وتشمل المدرس والطالب، وتشمل المدير والموظف، وتشمل الضابط والجندي، تشمل كل إنسان: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44].
هذا أمر الله، وحكمه عز وجل، لا تظنن أنك متروك أو مضيع، إنك محكومٌ في كل جزئية من جزئياتك، وفي كل تصرف من تصرفاتك، وفي كل عمل من أعمالك، في ليلك ونهارك وفراشك وطعامك، وفي إتيانك لزوجتك، وفي دخولك إلى بيتك، وفي خروجك من منزلك، وفي دخولك إلى عملك، وفي ركوبك لسيارتك، وفي سماعك للمطر، وفي رؤيتك للشمس، وفي بداية النهار، وفي نهاية النهار: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].
يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرورٍ عاد بالخطرِ |
كل الحوادث مبداها من النظرِ ومعظم النار من مستصغر الشررِ |
إن كثيراً من الناس لا يقدرون لهذا الأمر أهميته، فأمر غض البصر مهم، ولذا نص الله عليه في القرآن، وخاطب المؤمنين على حدة، وخاطب المؤمنات على حدة، فقال في المؤمنين: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور:30] وكأن قائلاً يقول: لِمَ يا رب؟! أريد أن أمتع بصري، أريد أن أتمتع بالنظر إلى الجمال الذي أوجدته في النساء -الجنس الآخر- لماذا يا رب! توجد الجمال ثم تقول: أغض بصري؟!!
فالله عز وجل يعلمك مصلحتك، وما هو الأفضل لك، قال عز وجل: ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30] أزكى لك وأفضل وأرفع، وأجل وأعف وأنظف أن تغض بصرك؛ لأنك إذا نجست عينك بالنظر إلى محارم الله أغضبت الله عز وجل فإنه يراك حين تنظر إلى حرماته.
قيل للحسن البصري : [بِمَ نستعين على غض البصر؟ قال: بعلمك بأن نظر الله إليك أسرع من نظرك إلى المنظور إليه] أنت تنظر والله ينظر، أنت تجترئ على حرمات الله وتمتع نظرك بالتلذذ بمحاسن امرأة لا تحل لك، والله ينظر إليك ويغضب عليك ويسخط عليك، ويمقتك من فوق سبع سماوات، يمقتك لأنك عبدٌ شهواني، عبدٌ هابط، عبدٌ شيطاني، تريد معصية الله، تريد التمرد على أمر الله بعينك، رغم أن العين ليست منك، ما ركبتها في رأسك، ولا ركبتها أمك لك، ولا اشتريتها من السوق، ولا من المستشفى.
هب أنك أعمى! كيف تستطيع أن تتمتع بمتاع هذه الحياة؟ إن الأعمى المسكين يعيش في عالم والناس في عالم آخر، ولذا جاء في الحديث: (إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته عنهما الجنة) ليس هناك عوض مع الصبر والاحتساب إلا الجنة؛ لأنك إذا أغمضت عينيك وحاولت أن تجرب دقيقة أو دقيقتين أو ثلاثاً فلا تفتح عينيك. تقول: أين الباب؟ أين حذائي؟ أين سيارتي؟ كيف أقودها؟ كيف أصل إلى بيتي؟ كيف أرى زوجتي؟ كيف أنظر إلى طعامي؟ كيف أتلذذ بالنظر إلى أولادي؟ كيف أنظر إلى فراشي؟ كيف أنظر إلى غرفة نومي؟ كيف أقرأ كتابي؟ كيف أقوم بمعاملاتي؟!!
كل هذا بنعمة البصر، هذه نعمة لا تعدلها نعمة، لكن قيدها الله بالنظر فيما أحل، وفيما يحب، وكثيرٌ من الناس استعمل هذه النعمة فيما يسخط الله؛ ما نظر بها يوماً في كتاب الله، ما نظر بها يوماً في ملكوت الله، وما نظر بها يوماً فيما يرضي الله، وإنما خصصها ليلاً ونهاراً، بالنظر في محارم الله، سواءً في المجلة، أو في الفيلم، أو في السوق، أو في الحرام، فعينه مخصصة لمحاربة الله، هذا لم يحكم بأمر الله.
هل هناك أعظم من أن تنظر إلى الله كما تنظر إلى القمر ليلة النصف لا تضام في رؤيته كما جاء في الحديث الصحيح، يقول عليه الصلاة والسلام: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة النصف لا تضامون في رؤيته) وقال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة:22] أي: مشرقة وجميلة، تعلوها نضرة النعيم، يعلوها الجمال والبهاء، يعلوها الرضا والرضوان من الرحمن تبارك وتعالى، يقوم أهل الإيمان يوم القيامة ووجوههم مسفرة وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [عبس:38-39] مسفرة بنور الإيمان، ضاحكة بالرضا عن الله، مستبشرة بوعد الله عز وجل: ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [عبس:39]..
إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23] أي: مشاهدة، وقال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] الحسنى هي: الجنة، والزيادة هي: النظر إلى وجهه الكريم. لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35] ما يشاءون: كل ما يخطر في بالك، بل أعظم مما يخطر في بالك، يقول الله عز وجل: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ [السجدة:17] فلا تعلم أنت ما في الجنة، فيها نساء لكن لا كنساء الدنيا، وتعلم أن في الجنة خموراً لكن ليست كخمور الدنيا، وتعلم أن في الجنة قصوراً شاهقات لكنها ليست كقصور الدنيا، وتعلم أن في الجنة ثماراً لكن ليست كثمار الدنيا، وتعلم أن في الجنة أنهاراً لكنها ليست كأنهار الدنيا، كل ما في الجنة، وكل ما خطر في بالك فالجنة بخلاف ذلك، هذا ما يشاءون: وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35] هذه نعمة في الآخرة، لكن لمن غض بصره في الدنيا عما حرم الله.
تريد أن تملأ عينيك بالنظر إلى وجه الله وأنت قد ملأتها وأفسدتها ونجستها بالنظر إلى الزانيات والداعرات والمتبرجات، لا يمكن أبداً، العين المريضة القذرة التي لا ترتاح ولا تطمئن إلا إذا نظرت إلى ما يحرم الله عز وجل هذه العين لا تستطيع أن تنظر إلى الله، عين مريضة، ولذا جاء في الأثر: (من ملأ عينيه من الحرام ملأهما الله من جمر جهنم).
هذا أمر الله، وحكمه عز وجل، لا تظنن أنك متروك أو مضيع، إنك محكومٌ في كل جزئية من جزئياتك، وفي كل تصرف من تصرفاتك، وفي كل عمل من أعمالك، في ليلك ونهارك وفراشك وطعامك، وفي إتيانك لزوجتك، وفي دخولك إلى بيتك، وفي خروجك من منزلك، وفي دخولك إلى عملك، وفي ركوبك لسيارتك، وفي سماعك للمطر، وفي رؤيتك للشمس، وفي بداية النهار، وفي نهاية النهار: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].
وبعض النساء كذلك تخرج ليس لها عمل إلا أن تنظر، والله خاطب الرجال بهذه الآية وقال: ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30] أفضل لهم، فلو أنك غضضت بصرك لأعطاك الله اثنتين وسبعين حورية، جاء وصفها في القرآن وفي السنة بما لا يتصوره العقل، يكفيك أن الله يقول فيهن: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات:49].. كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ [الواقعة:23].. كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:58].
تصور زوجتك مثل الياقوتة والمرجانة، هل رأيت في حياتك ياقوتة، لقد حاولت يوماً وأنا أدخل عند بائع الجواهر واللآلئ قلت له: أرني من فضلك قطعة من الياقوت أو المرجان، فأعطاني قطعة صغيرةً لا تزن ستين أو سبعين جراماً في صندوق مذهب، فقلت له: بكم هذه؟ قال: هذه بمئات الآلاف.
فنظرت إليها حقيقة، فسلبت بصري من جمالها، ومن شكلها، ومن عظمتها، قلت في نفسي: فكيف بالزوجات في الجنة كأنهن الياقوت والمرجان.
بالله هل من حقك أن تضيع هذه من أجل خبيثة تنظر فيها؟ يقول:
فاسمع إذاً أوصافها وصفاتها تلك المنازل ربة الإحسانِ |
هي جنة طابت وطاب نعيمها فنعيمها باقٍ وليس بفانِ |
ويقول ابن القيم رحمه الله في الميمية :
فيا خاطب الحسناء إن كنت راغباً فهذا زمان المهر فهو المقدمُ |
فكن مبغضاً للخائنات لحبها لتحظى بها من دونهن وتسلمُ |
وصم يومك الأدنى لعلك في غدٍ تفوز بعيد الفطر والناس صومُ |
الصائم الآن عن الحرام يشعر بمعاناة، يرى النساء ويغض بصره، فقط هي أيام وليالٍ إلى أن تموت وتفطر في الجنة إن شاء الله، أما ذاك الذي يفطر أتدرون ما مثله؟ مثل من يصوم يوماً في رمضان ومن يفطره، الصائم في نصف النهار يحس بألم الجوع، ويعاني من لذعة العطش، ويريد الأكلة التي كان قد تعودها كل يوم الساعة الثالثة أو الثانية والنصف، لكنه يصبر ويضغط على أعصابه ويذهب ينام، وبعضهم إذا دخل البيت يكون غضبان؛ لأنه صائم، ثم إذا جاء المغرب، ووضعت الموائد، وصفت الصحون، وقدم الماء البارد، والشراب البارد، والطعام الجميل، شعر بفرحة ليس بعدها فرحة، ولهذا جاء في الحديث: (للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه).
أما ذاك الذي لم يصبر وقال: لن أصوم، وكفر -والعياذ بالله- وأفطر في نصف النهار، وذهب البيت وأكل، إذا أتى المغرب هل له فرحة؟ ليس له فرحة، بل عليه لعنة في قلبه، وإذا مات هل له فرحة؟ ليس له فرحة، بل عليه غضب من الله تبارك وتعالى، فأنت يا مسلم! غض بصرك عن محارم الله عز وجل حتى تمتع بصرك بالنظر إلى وجه الله في الدار الآخرة، وبالنظر إلى زوجاتك من الحور العين، وبالنظر إلى قصورك وأنهارك، وإلى ثمارك وبساتينك، وإلى ما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. هذا في الآخرة.
عليك بالدين، والدين يرتب لك جميع أنواع السعادة في الدنيا والآخرة، ولو تصورت -بوحي من الشيطان- أنه يحرمك من الأغاني.. يحرمك من الأغاني لكن أبدلك الله بالقرآن الكريم، يحرمك من النظر إلى النساء، لكن الله أبدلك بالنظر إلى زوجتك الحلال.
وفي الدنيا إذا غضضت بصرك فإن الله يفتح بصيرتك، والبصيرة نورٌ يقذفه الله عز وجل في قلب من شاء من عباده: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40] والذين لا ينظرون بنور الله، ولا يبصرون طريق الله، فالله أعمى بصيرتهم لما أطلقوا أبصارهم فيما حرم الله، كيف يفتح الله بصيرته وهو ينظر في الحرام؟ لكن غُض بصرك ليفتح الله بصيرتك، وقد جاء في الحديث، يقول عليه الصلاة والسلام: (من غض بصره احتساباً لوجه الله أبدله الله بإيمانٍ يجد حلاوته إلى يوم يلقاه) فهذا معنى البصيرة: أن تعرف مصلحتك، وما فيه خيرك وسعادتك في الدنيا والآخرة، فتسير في الطريق الصحيح؛ لكنك إذا أطلقت بصرك في الحرام طمس الله بصيرتك، وحصل لك عمى، حصل لك عدم معرفة لمصالحك، ولا حتى تعرف مصلحة نفسك.
الذين يدورون بفلك الشيطان، ويسيرون في ركاب الشيطان، والشيطان يركب عليهم ويستعملهم في طرق الضلال، هؤلاء يقول الله فيهم: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:19] نسي الله فأنساه الله مصلحة نفسه، فدمرها وأهلكها، وعرَّضها للعذاب في الدنيا والآخرة، ولو ذكر الله لذكره الله بمصالح نفسه، ولعرف مصالحها في الدنيا والآخرة: ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30] من غض بصره فتح الله بصيرته. هذا أولاً.
ثانياً: أوجد الله عز وجل في قلبه محبة لزوجته إذا كان متزوجاً، وإذا كان غير متزوج فحتى يتزوج، فإذا حفظت بصرك وعندك زوجة فإنك تراها من أعظم النساء، لماذا؟ لأنك لا ترى غيرها، ولذا جاء في الحديث: (إذا رأى الرجل منكم ما يعجبه في امرأة فليأتِ أهله، فإن معها الذي معها).
فأنت حين تغض بصرك عن الحرام تدخل بيتك فترى زوجتك ملكة جمال، لكن لما تنظر في الأسواق وترى الموديلات والأشكال والألوان، والطول والعرض والجمال، وتدخل على امرأتك: هل تتصور أن تكون زوجتك فيها جميع جوانب الجمال الذي في السوق؟ فعندما تراها تنظر في عيونها وإذا عيونها ليست مثل عيون تلك، وإذا طولها ليس مثل طول تلك التي كأنها غصن، وإذا بعرضها ليس بمثل عرض تلك التي هي رشيقة الجمال فتكرهها، فإذا كرهتها كرهتك، وإذا كرهتك بحثت عن غيرك كما بحثت عن غيرها، وتسوء العشرة، ويتحطم كيان الأسرة، ويتشرد الأولاد، وتفسد الحياة، وتصبح الحياة حياة بهيمية بأسباب عدم غض البصر.
لكن يوم أن تغض بصرك تدخل عليها فتتلفت فيها وتقول: ما هذا الجمال؟! ما هذه العظمة! لأنك لا ترى غيرها، تظن أن ليس في الدنيا إلا هذه المرأة، ووجود العشرة والرابطة بين الزوج والزوجة هدف وغرض من أغراض الدين؛ لأنه إذا تفاهمت الأسرة وعاشت في وئامٍ وانسجامٍ وحبٍ وتفاهمٍ انعكست الآثار على الأفراد، وانعكست بالتالي على المجتمع والدولة كلها، وأصبحت الأمة كلها كأصابع الكف متماسكة قوية.. لكن يوم أن تتحطم الأسرة يتحطم المجتمع، وإذا تحطم المجتمع تحطمت البلاد، وساءت الأخلاق، وتحللت الروابط، وانقسمت القلوب، وحصل الفساد والطرد والغضب واللعنة من الله تبارك وتعالى.
كيف تستطيع أن تحب زوجتك إذا لم تغض بصرك؟ يقول الناظم:
إن الرجال الناظرين إلى النسا مثل الكلاب تطوف باللحمانِ |
إن لم تصن تلك اللحوم أسودها أكلت بلا عوضٍ ولا أثمانِ |
لا تتركن أحداً بأهلك خالياً لو كان بالنساك مثل بنان |
المصلحة الأولى: أطلق الله بصيرتك وفتح قلبك، ثانياً: أوجد الحب والألفة بينك وبين وزوجتك.
وأنت إذا أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظرُ |
رأيت الذي لا كله أنت قادرٌ عليه ولا عن بعضه أنت صابرُ |
ترى أشكالاً كثيرة.. من الذي بينك وبين عرضه، لا تقدر عليها كلها، ولا تصبر عنها كلها.. ولهذا يقول الشاعر:
وأنا الذي جلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتلُ |
الذي جلب الموت لي في قلبي وطعنني وضربني ضربة في قلبي هي: عيني.
وأنا الذي جلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتلُ |
يا رامياً بلحاظ السهم مجتهداً أنت المصاب فلا ترمِ بما تصبِ |
وكثير من الناس يخرج من بيته ليس في قلبه هم ولا غم، فإذا رأى امرأة غانية متبرجة -والعياذ بالله- ورأى جمالها وأشارت إليه أو أشار إليها، وتابعها ثم ركبت سيارتها وذهبت.. ورجع هو إلى البيت رجع وهو مريض، يدخل البيت عند أهله يقدمون له العشاء فيقول: لا أريد عشاء، وهو يزفر.. الزفرة تقض صدره، ولا يأتيه النوم، ما الذي حصل؟ حريق في قلبه، من الذي أحرقه؟ عينه، طعن نفسه بعينه، لكنه لو غض بصره لأرضى ربه، ولأراح قلبه.
كنت سائراً في طريق من المسجد إلى منزلي ومعي شابٌ مؤمن -ولا أزكي على الله أحداً- وفي الطريق قابلنا اثنتين من الفتيات وكن متبرجات، عليهما عباءات قصيرة وكعوب عالية وثياب مشقوقة، المهم من النظرة الأولى غضيت، وهو معي ولم أقل له شيئاً، جلست أرقبه، وإذا به يغض، وفي الطريق وبعدما تجاوزناهن، نظرت إليه وقلت: ما رأيك: النظر أحسن أم الغض أحسن؟
قال: والله الغض أحسن.
قلت: لماذا؟
قال: لو أني نظرت لكنت الآن مريضاً، لكن صبرت قليلاً، وانتهيت وليس في قلبي شيء، وهكذا -أيها المسلم- تريح قلبك، والله يقول: ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30].
والله يعلم مصلحتك ويعلم مضرتك، فهذا أزكى لك .. أفضل لك .. أرفع لك .. أعف لك .. أهنأ لك .. أكسب لك في الدنيا والآخرة أن تغض بصرك، فهل حكّمت أمر الله في هذا؟
غض بصرك.. ستشعر بمعاناةٍ وتعبٍ وقوة خارجة عن قوتك وعن إرادتك وتصرفك، إنها قوة الشيطان؛ لأن الشيطان لا يصطاد الناس من طريقٍ أعظم من طريق العين، يقول لك: انظر فقط، وبعد هذه تتكرر النظرة، ثم خطرة، ثم سلام، ثم كلام، ثم مواعيد، ثم لقاءات، ثم جرائم وزنا، ثم جهنم، بدأت بالنظر وانتهت بالنار.
لكن لو أنك أغلقتها من أول مرة لاسترحت، كما في المثل: "نافذة يأتيك منها ريح أغلقها واستريح" هذه عينك نافذة على الحرام، يأتيك منها ريح الزنا والحرام، أغلقها واسترح، وافتحها على كتاب الله، افتحها على النظر في ملكوت الله، افتحها بالتأمل في مخلوقات الله، والله يقول في هذا: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ [ق:6] ليس نظراً كما تنظر الدابة والبهيمة إلى ما تأكل عند قدميها فقط.
بعض الناس لا يرفع يوماً من الأيام بصره إلى السماء، يمكن يدخل الشهر وينتهي، بل السنة وتنتهي، وهو لم يرفع بصره ليقول: لا إله إلا الله سبحانك يا رب ما أعظمك! بل عيونه دائماً في المعارض والدكاكين والنوافذ والمجلات، لا يرفع بصره؛ فهذا مسكين مربوط إلى الأرض، مربوط هابط متلطخ بالقاذورات، قال الله: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [ق:6-8] انظر.. الله يقول: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ [العنكبوت:20]... قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس:101].
ويقول عز وجل: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:124-126] نسيتها وتعاميت عنها، وكذلك اليوم تنسى وتعمى وتؤمر بالسير على الصراط وأنت أعمى، وتدخل النار أعمى، قال الله عز وجل: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً [الإسراء:97].
بالله الذي لا إله إلا هو.. أسألك بالله يا أخي، يا مؤمناً! هل بقي لك مبرر أن تنظر في الحرام، وتشاهد الأفلام، وتخرج إلى الأسواق والمعارض وتنظر أعراض المسلمين، تحرق قلبك .. تذهب إيمانك .. تغضب ربك .. تطمس بصيرتك؟ كلما نوَّر الله قلبك بقليل صلاة ذهبت لتطمسها بعشر ساعات في الحرام، ولهذا يقول كثير من الناس: ما بالنا نصلي ونصوم ولا نتعظ، وقلوبنا قاسية؟!
لا تنفعك صلاة عشر دقائق، وأنت جالس خمس ساعات أمام الفيلم والمسلسل، ترى النساء، وترى الحرام، ماذا تنفعك لحظات تقضيها مع الله تهدمها وتمسخها بساعات تقضيها في الأسواق تنظر إلى الحرام بعينك؟ ما هذا؟
لا بد من حماية مع البناء، تبني صلاة وصياماً وتقوى وأيضاً تحمي من الهدم، تحمي من المعاصي، هذه العين فقط: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] احكم بما أنزل الله في عينك وعلى هذا قس.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
فيا عباد الله: حكموا القرآن، حكموا سنة النبي سيد ولد عدنان صلوات الله وسلامه عليه، حكموه في كل شيء، حكموه في أبصاركم، حكموه في أسماعكم.
هذه الأذن مسئولة عما سمعت، وهذه الأذن مصبٌ وقناةٌ تحمل الخير أو الشر إلى القلب، كما أن العين قناةٌ يمكن أن ترسل عن طريقها الخيرات والتأملات والآيات، ويمكن أن يرسل عن طريقها الآهات والحسرات والعذاب والعياذ بالله.
وهذه الأذن كذلك يمكن أن تكون قناة لإحياء قلبك أيها المؤمن! عن طريق سماع كلام الله، إذا سمعت خطاب الله الذي أنزل لك القرآن: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29].. أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [العنكبوت:51].. قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ [المائدة:15].. وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى:54-53] إنه كتاب كريم لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42] هذا القرآن العظيم خاطبك الله به من أجل أن تسمعه أولاً، ثم تفهمه، ثم ترتله، ثم تطبقه وتعمل به وتدور معه في فلكه، هذا كتاب الله، لكن يوم أن عاشت الأمة في غير ميادينها ضيعت القرآن، فكثير من بيوت المسلمين يدخل اليوم وينتهي ما قُرئت فيه آية، وإن قُرئت فعلى سبيل الصدفة، وإن قرئت في بعض المحلات تبركاً لمدة دقيقتين، ثم يضع الشريط على المنكرات والأغاني والعياذ بالله.
فلما عاشت الأمة في غير ميدانها الطبيعي هجرت كتاب الله واستبدلته، وسمعت شيئاً لا يرضي الله، وهذه الأذن مسئولة يوم القيامة.
إن النبي صلى الله عليه وسلم والحديث صحيح في السنن: (كان يسير يوماً من الأيام مع
لكن إذا جيء بعازف العود أو البيانو أو الكمنجة وقالوا له: اعزف طرفاً من أغنية، ثم لمن هذه الأغنية؟ ومن واضع كلماتها؟ ومن ملحنها؟ ومن أداها؟ ارتفعت الأصابع حتى تشق السماء كلها، كل واحد يقول: أنا .. أنا .. أنا .. وماذا رأيت وماذا عرفت؟ ثقافة ضحلة، ما عرفت كتاب الله، إذا سئلوا عن آية أو حديث أو حكم شرعي لا يعرفون، وإذا سئلوا عن هذا الهراء ارتفعت الأصابع، لماذا؟
يعيش أكثر الناس مع الغناء عند النوم، لا ينام إلا على أغنية، يظل يدير الراديو من مكان إلى مكان حتى يجد سهرة الليلة، يسهر مع الشياطين، يسهر مع غضب الله، لا يريد أن يسهر مع الله، لا يريد أن يختم حياته ويومه بذكر الله، ما يدريه لعله أن ينام ولا يستيقظ منها إلا إلى جهنم والعياذ بالله.
شابٌ وقع له حادثٌ مروري وقطع بطنه (الدركسون) ووجدوه والسيارة منكوسة، ورأسه مدلى إلى أسفل، ولا يزال في الرمق الأخير لم يمت، ولكن كبده قد انتهى وهو لا زال حياً وإذا بهم يمسكونه وهو مع الشريط يغني ويقول:
هل رأى الحب سكارى مثلنا؟!! |
لا والله ما رأى الحب أفشل ولا أسكر منك، نعم. لا يوجد أسكر منك، يغلق الحب مع أهل الحب والفن.
يا أخي في الله! إن هذه الأذن أمانة في رأسك، وهي نعمة من نعم الله عليك، هب أنك -عافاك الله- فقدت هذه الحاسة، وجلست في المجالس مثل الكرتون، يتكلم الناس ويتضاحكون، وتقول أنت: ماذا تقولون؟ قالوا: نحن نتكلم، قال: علموني ماذا تقولون، جاءوا إليه فأخبروه ولكنه قال: لا أدري ماذا تقولون، اكتبوا لي، فأذنك هذه حساسة تسمع كل شيء وهي نعمة من نعم الله عليك.. عليك أن تتقي الله فيها.
والله أنت المسكين! والله أنت الضائع. حتى أن بعض الناس يقول: أنا والله لا أريد أن يصبح ولدي متديناً، لماذا؟ قال: أريد أن يصبح متديناً مثلي، وما هو دينك أنت؟ ألك دين عند الله؟ دينك ودينه من عند الله على كتاب الله وسنة رسول الله، وما هو دينك؟ قال: ديني أنا سهل، أنا أصلي في البيت، صحيح أننا نحب الحرام؛ لكن والله قلوبنا طاهرة، نسمع الأغاني التي ليس فيها شيء يا شيخ! ولو سمعناها والله ما كأنها شيء، وننظر إلى النساء ونجلس سوياً، لكن قلوبنا طاهرة، وأيضاً الله غفور رحيم، يريد واحد متفلت من دين الله عز وجل بحجج شيطانية، وبأمانٍ باطلة، وبغرور ومكر من قبل الشيطان والعياذ بالله.
يا أخي! كن متميزاً بإيمانك، احفظ لسانك فلا تطلقه إلا فيما يحبه الله تبارك وتعالى ويرضاه، واحذر فإن الرجل كما جاء في حديث بلال بن الحارث عند مسلم : (أن رجلاً جاء إلى أخٍ له ينصحه -الرجل هذا صالح وأخوه فاسد- فوجده على معصية، وجاءه مرة أخرى فوجده على معصية فنصحه، ثم جاءه الثالثة فوجده على المعصية فنصحه -لكن رغم أن البواعث حسنة، وأن المقاصد طيبة، وأنه يريد أن يغير منكراً لكن تجاوز الحد- فقال: كل يوم آتيك وأنت على المعاصي، والله لا يغفر الله لك -حلف أن الله لا يغفر لأخيه العاصي، وهذا نوعٌ من التجاوز والتدخل في صلاحيات الله- قال الله عز وجل: من هذا الذي يتألى علي؟ قد غفرت له وأحبطت عملك) إذا كان هذا الرجل الصالح تجاوز الحد رغم أن نيته طيبة وقصده حسن فهذا لا يشفع له، فكيف بمن يتجاوز الحد في حرمات الله، وفي أعراض المسلمين ونيته فاسدة وعمله فاسد؟! يأكل لحوم الناس.
كثير من كبار السن الآن أراحهم الله في هذه الحياة، ما عاد معه قليب ولا بئر ولا زبير ولا غنم ولا مزرعة، وإنما يأتيه راتب التقاعد عند سن معين، يقولون: شكر الله لك، خدمت الدولة وقمت بالواجب، وأديت الدور، فالآن خذ راتبك واقعد، تفرغ لعبادة خالقك ومولاك، واقطف آخر ثمرات حياتك فيما يرضي الله، لكن من الناس من يتفرغ للمعاصي، تجده يؤذي أهل بيته، يقعد مثل (الرادار) على امرأته وأطفاله، كلما انكسر فنجان أو انفتح باب، أو أضيئت لمبة، أو انفك صنبور، قام يضارب، لطم المرأة، وضرب الولد، وصاح، قالوا: الله أكبر عليك، يوم كنت في الوظيفة كنا لا نراك إلا ضيفاً، أما الآن نكدت علينا، فمن يوم تقاعدت ما عاد معك أوامر إلا علينا؛ لأنه يمكن كان آمراً أو مسئولاً أو ضابطاً أو غيره، وكان يأمر وينهى، الآن لا يأمر وينهى إلا المرأة والأولاد.
وبعضهم تخصص في الغيبة، يجلس باستمرار من بيت فلان إلى فلان، ويفعل له متكأً على بابه: وتعال يا فلان! نجلس قليلاً، وجلس هو وإياه، ماذا قال فلان؟ وماذا فعل فلان؟ فلان طويل .. وفلان عريض .. وفلان متين .. وفلان سخيف .. وفلان مسواك .. وفلان شبرين .. وفلان أبو أرجل طويلة .. وفلان الأعور .. وجلس يأكل ويشرح ويقطع ويحضر من لحوم المسلمين.
وبعضهم يغتاب وينم ويكذب -والعياذ بالله- وقال لي شخص: إن رجلاً بلغ من العمر ستين سنة، وأحيل قبل عشر سنوات ولكنه الآن متخصص، يقول: والله ما معه عمل منذ أن يخرج من غرفته إلا على الفيديو والدخان، حتى -والعياذ بالله- ساءت صحته من كثرة التدخين، وحتى نشفت عيونه، يقول ولده: والله إني أقوم أصلي صلاة الفجر، وإني أمر عليه في غرفته وهو لا يزال ساهراً على الأفلام، وأرجع من الصلاة وقد حط رأسه لينام إلى المغرب، وهكذا ... لا إله إلا الله!
فيا عبد الله: اتقِ الله في لسانك وحكم شريعة الله فيه، لا تتكلم بكلمة إلا بعد أن تزنها بميزان الشرع، فإن كانت ترضي الله فقلها، وإن كانت تغضب الله فردها، وماذا عليك؟ لماذا تُخرج شيئاً يضرك، أما تعلم أن المرء مخبوءٌ تحت لسانه (لسانك حصانك إن صنته صانك وإن أهنته أهانك) يقول:
احذر لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبانُ |
كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهاب لقاءه الأقرانُ |
وفي الحديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت).
وجاء في الأثر: (إن الزاني يوقف بين يدي الله يوم القيامة فيقول الله له: أزنيت؟ قال: لا يا ربِّ ..) -وينكر يظن أنه عند الهيئة أو عند القاضي، ما علم أنه عند ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، عند من لا تخفى عليه خافية- فيقول الله: (ألا يرضيك أن نقيم عليك عشرة شهود: قال: بلى يا رب! رضيت، فيختم الله على لسانه وتبدأ الجوارح تشهد، فيقول اللسان: أنا للحرام نطقت، والعين تقول: وأنا نظرت، والأذن تقول: وأنا سمعت، واليد تقول: وأنا بطشت، والرجل يقول: وأنا سعيت، والفخذ يقول: وأنا حضرت، والفرج يقول: وأنا عملت، والأرض تقول: وأنا حملت، والملائكة تقول: وأنا اطلعت، والله عز وجل يقول: وأنا سترت) سترناك لعلك تتوب، وأمهلناك لكن لا زال كثير من الناس يتمادى.
قد توج نفسه بغضب الله ولعنته وسخطه في الدنيا الآخرة، الزنا موبقة، الزنا مهلكة -والعياذ بالله- اتق الله يا عبد الله! اتق الله في فرجك، فلا تزن به، ولا تمارس به جريمة أخرى أعظم من الزنا وهي جريمة اللواط التي يقول الله فيها: مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ [الأعراف:80] لا يوجد أحد يعملها حتى الحمير والكلاب والقردة والخنازير لا تفعلها، ما رأينا في حياتنا كلباً يركب كلباً، ولا حماراً يركب حماراً، ولا قرداً يركب قرداً، إنما تمارس هذه الأشياء في الذكور والإناث..
أما الحيوانات البشرية إذا تمردت على الله، وتحكم فيها الشيطان رأينا من يفعل هذا -والعياذ بالله- ولهذا عاقب الله أمة عملت هذا العمل بأن أرسل عليهم الملائكة، فغرس جبريل جناحه حتى بلغت تخوم الأرض، ثم قلب الأرض كلها، أربع مدن، وكل مدينة فيها (مائة ألف نسمة) بجبالهم وأشجارهم وبيوتهم ودوابهم حتى سمعت الملائكة في السماء عواء كلابهم ومواء قططهم، قال الله: فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [الحجر:74].. وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:82-83].
كذلك شهوة الفرج يقحمك الشيطان في جريمة أخرى وهي جريمة العادة السرية المسماة عند الناس بهذا الاسم، واسمها في الشرع باسم: نكاح اليد، ونكاح اليد محرم؛ لأن الله عز وجل يقول: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [المؤمنون:5-6] أي: الأمة المملوكة فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [المؤمنون:6-7] وفي الحديث في الصحيحين يقول عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للطرف وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء) ولم يقل: فعليه بيده، يقول بعض أهل العلم: إن نكاح اليد والعادة السرية أشد حرمة من الزنا واللواط؛ لأن الزنا واللواط قد لا يتيسر للإنسان، أما يده التي يعمل بها فإنها معه في كل وقت، وبعض الناس ما شغلته إلا يده والعياذ بالله، فيعطل حياته ويغضب ربه، خلقك الله إنساناً سوياً فأصبحت كالحيوان البهيمي.
شهوة الفرج شهوة عارمة طاغية، وعليك أن تتقي الله، وأن تعتصم بالله، لا تنظر إلى الحرام، لا تسمع الحرام، لا تقرأ القصص الغرامية، لا تعاكس في الهاتف، لا تجر على نفسك شيئاً يشعل فيك هذه الشهوة، بل اقرأ كلام الله وسنة رسول الله، قم في الليل وصل، اذكر الله، اعتصم بالله: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101].
فيا عبد الله: اقنع بالحلال، والله لدرهم حلال أعظم من مليون حرام؛ لأن: (كل جسمٍ نبت من سحت فالنار أولى به) والشيطان إذا رأى الشاب يتعبد قال لأعوانه وزبانيته من الجن: انظروا مطعمه ومشربه، فإن كان مطعم سوء أو مشرب سوء فدعوه فقد كفاكم شر نفسه، يقول: دعوه يصلي ويصوم ما دام يأكل حراماً، والحديث -كما تعرفون- في الصحيح، يقول عليه الصلاة والسلام: (رب رجل أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء وهو في سفر: يا رب! يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يُستجاب له؟!) كيف يستجيب الله لك ورصيدك مرتفع في البنوك الربوية؟
كيف يستجيب الله لك وأنت تأكل راتبك حراماً؛ لأنك لا تعمل، لا تأتي الدوام إلا الساعة التاسعة، وتخرج الساعة واحدة، وجالس على الطاولة في مكالمات وقراءة الصحف والشاي والفطور والحكايات، وأعمال العباد متراكمة على طاولتك، ومصالح المسلمين عندك، وكلما جاء مراجع، قال: تعال لي غداً، (غداً) عندك سهلة لكنها عند المراجع كأنها سنة، خاصة عندما يأتي والمكان بعيد.
فيا أخي! اتق الله وكُلْ حلالاً، يجب أن تكون محافظاً على الدوام، ولا تتأخر إلا بعذر شرعي، وبإذنٍ من ولي أمرك، من المسئول عنك، رئيس قسمك، أو مديرك أو رئيس وحدتك، أو قائدك، يجب أن تلتزم حتى يكون لمالك طعماً تأكله ويكون فيه بركة، اتق الله في هذه الأمور، وحكِّمْ شريعة الله في هذه الأمور: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44].
ألا وصلوا على خير خلق الله محمد بن عبد الله، فقد أمركم بذلك مولاكم فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، ودمر اليهود والكفرة والملحدين وأعداء الدين، اللهم أنزل عليهم بأسك الشديد، وعذابك الأكيد، فإنهم لا يعجزونك، اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم احفظ علينا أمننا ونعمتنا وطمأنينتنا واستقرارنا، اللهم من أرادنا في هذه الديار، أو في غيرها من ديار المسلمين بسوءٍ أو شرٍ أو كيدٍ أو مكرٍ فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره، وأنزل عليه بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، اللهم نوَّر على أهل القبور قبورهم، اللهم اغفر للأحياء ويسر لهم أمورهم، اللهم فرج هم المكروبين، اللهم اشف مرضى المسلمين، واقض الدين عن المدينين، وعاف جميع المسلمين وسهل عودة المغتربين والغائبين برحمتك يا أرحم الراحمين!
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعضكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر