وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله بلغ عن الله رسالاته، ونصح له في برياته، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، فجزاه الله بأفضل ما جزى به نبيناً عن أمته، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله! فإن تدبر القرآن من أعظم البراهين وأجل القرائن عن البعد عن قسوة القلوب، قال الله تباركت أسماؤه وجل ثناؤه: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، ومن أراد الله به سعادة الحياتين والفوز في الدارين منّ عليه جل وعلا بأن يتدبر كتابه على الوجه الذي أراد جل وعلا، وعلى الوجه الذي بين رسولنا صلوات الله وسلامه عليه.
وفي هذا اللقاء المبارك في هذا الجامع المبارك نقف وإياكم مع بعض آيات الكتاب المبين، وهي وقفات علمية ووعظية ما أمكن إلى ذلك سبيلاً، مستصحبين أمراً عظيماً وهو أن التوفيق بيد الله جل وعلا وحده، فما كان لمتحدث أن يتحدث، ولا لمحاضر أن يحاضر، ولا لمتلق أن يعي ويسمع إلا إذا أذن الله، فمن أسلم قلبه لله، وعلم أن الفضل كله بيد الله كان قريباً من رحمة ربه؛ لحسن ظنه بمولاه وجل اعتماده ويقين توكله على خالقه سبحانه وتعالى.
ولا نشترط في الآيات التي نتدبرها ونتأملها الليلة أن تكون مرتبة وفق ترتيب المصحف، فقد يكون لترتيبها بعض الحكم التي قد تظهر أو قد تخفى.
قال الله جل وعلا وهو أصدق القائلين في سورة الجاثية: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:28-29]، الجثو في اللغة: هو البقاء على الركب، وإن لامست أطراف الأصابع الأربع فلا حرج، وهي من أعظم دلالات الخضوع.
وفي هذه الآية الكريمة يخبر جل وعلا عن حال الأمم يوم القيامة، فيقول مخاطباً نبيه: (وترى) أي بعين البصيرة؛ لأن ترى تأتي قلبية فتتعدى لمفعولين، وتأتي بصرية فتتعدى لمفعول واحد، قال الله جل وعلا هنا: (وترى) أي: يا نبينا! أيها المخاطب بالقرآن سائر الناس، (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً) أي: على ركبها.
ثم قال الله: (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا) قال بعض العلماء كما نقله الحافظ ابن كثير رحمة الله عليه: إن جهنم يومئذٍ تزفر زفرة فتجثو الأمم على ركبها، حتى إن خليل الله إبراهيم عليه السلام على رفيع درجته وعلو منزلته يقول: نفسي نفسي، لا أسألك اليوم إلا نفسي. بل ورد أن عيسى ابن مريم عليه السلام يومئذٍ يقول: نفسي نفسي لا أسألك مريم التي ولدتني، فإذا كان هذا حال أنبياء الله فما عسى أن يكون حال من دونهم، وكلنا دونهم، نسأل الله لنا ولكم العافية والستر.
قال الله جل وعلا يخاطب نبيه: (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ) والكلام ابتداء ولذلك رفعت، (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا) اختلف العلماء في معنى كتابها هنا: هل هو الكتاب الشرعي الذي أنزل على رسل تلك الأمم كالتوراة على موسى والإنجيل على عيسى، والقرآن على محمد عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام، أو هو الكتاب الذي دوَّن فيه الملكان ما عمله بنو آدم؟ بكل قال العلماء، ويرجح الأول الإفراد في الآية، فقول الله جل وعلا: (هَذَا كِتَابُنَا)، والإضافة هنا إلى رب العزة، لأنه هو الذي أمر الملائكة أن يكتبوه.
وإذا قلنا: هو كل أحد بعينه فيؤيده ما بعده، فإن الله قال بعدها: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29]، فكلا القولين متوجه، ولو رجحنا أحدهما فإنه لا يلغي الآخر، بمعنى أن كلا الأمرين ثابت بآيات أخر، وإنما الخلاف بين العلماء لأيهما تشهد هذه الآية، مع الاتفاق على أن الأمم تسأل عن كتبها، قال الله جل وعلا عن كتابه العظيم: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف:44]، مع الاتفاق أن كل أحد يعرض عليه كتابه، ويسأل عن عمله، كما قال الله جل وعلا: وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ... [الكهف:47-49] إلخ الآيات هذه وغيرها الدالة على أن الإنسان تعرض عليه صحائف عمله.
قال الله جل وعلا: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:28-29]، وبراهين اللغة تقول: إن الاستنساخ معناه النقل عن الأصل، ولهذا اختلف العلماء رحمة الله عليهم في معنى هذه الآية:
فمنهم من قال: إن الأصل هو اللوح المحفوظ، فيصبح معنى الآية أن الملائكة الذين في السماء يكتبون عن اللوح المحفوظ أعمال بني آدم، والملائكة الموكلون ببني آدم يكتبون أعمالهم ثم يطابقون هذا على هذا، وهذا وإن كانت اللغة تعضده إلا أنني -والعلم عند الله- أراه بعيداً، فنبقي على أصل اللغة وهو أن الاستنساخ أخذ من الأصل، فيصبح المعنى أن الاستنساخ هنا بمعنى أن الملائكة تكتب عن الواقع الحق البين وهو عمل بني آدم، فالملك الذي على اليمين أو الملك الذي على الشمال كلاهما يكتبون واقعاً مشهوداً وحاضراً مشاهداً يدوناه، فهذا يمكن اعتبار أنه أخذ عن الأصل.
وهذه الآيات برمتها تبين لكل أحد يتدبر القرآن أنه مسئول كل المسئولية عن عمله، قال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ * كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:6-12]، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في حق عثمان : (ألا أستحي من رجل تستحيي منه الملائكة)، فالملائكة رأت في عثمان رضي الله عنه وأرضاه حياء جماً، فهو في السر كما هو في العلانية، يستحي من الله في الملأ ويستحي من الله في الخلاء، ويعلم رضي الله عنه وأرضاه أن معه ملكين يدونان ما يكتب، فنستغفر الله مما يكتب الملكان من الخطايا.
لكن الإنسان إذا رزق قلباً موقناً بلقاء الله، مستحياً من ربه جل وعلا، يعظم الله ويعظم أمره ونهيه استحيى من -باب حيائه من الله- من الملائكة الذين معه، فكان حاله في السراء كحاله في العلانية، وتلك منزلة عظيمة جليلة.
ومن أقسى ما قاله المفسرون، أن قال بعضهم في قول الله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النحل:90] قالوا في العدل: أن تستوي السرية والعلانية، وقال بعضهم: والإحسان أن تكون سرية الإنسان أفضل من علانيته، وهذه كما قلنا منزلة عالية قد لا يدركها إلا ثلة قليلة من الخلق، سلك الله بي وبكم سبيلهم.
ثم تأمل أيها المبارك قول الله: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) فهذا أحد أسماء يوم القيامة، وسمي بهذا لأن الله جل وعلا يحكم فيه بين خلقه ويفصل بين عباده.
(مِيقَاتُهُمْ) والميقات اثنان: ميقات زماني لا يعلمه إلا الله، وميقات مكاني على أرض بيضاء نقيه لم يعص الله جل وعلا فيها طرفة عين.
والأصل أنه ميقات لكل مؤمن وكافر ، وبر وفاجر، وإنس وجني، بل هو ميقات للخلائق أجمعين، لكن الله جل وعلا أضاف الميقات إلى أهل الكفر لأنهم المخاطبون الأولون بالوعيد، فقال جل وعلا: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [الدخان:40]، وكلمة (أجمعين) هنا وردت للتوكيد، وهي توكيد معنوي، وليس خافٍ عليك أن التوكيد ينقسم إلى قسمين: توكيد معنوي وتوكيد لفظي، ولفظ (أجمعين) في هذه الآية من ألفاظ التوكيد المعنوي، وهو يؤتى به للتأكيد، لكن قد يتكرر بعض ألفاظ التوكيد المعنوي فلا ينتقل إلى كونه توكيداً لفظياً، بل يبقى على حاله توكيداً معنوياً، لكن له أغراضاً بلاغية.
قال الله جل وعلا مثلاً في سورة (ص): فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [ص:73] فواحدة منها تكفي: فسجد الملائكة كلهم، أو يقول الله: فسجد الملائكة أجمعون، لكن تكرار ...، والتوكيد هنا أراد الله به أنه لم يبق منهم أحد لم يسجد، وأراد الله بقوله: (أَجْمَعُونَ) أي: أنهم في وقت واحد، فيصبر تكرار التوكيد هنا أفاد فائدة زائدة، وهي أن الملائكة سجدوا جميعاً من غير استثناء، وسجدوا جميعاً في وقت واحد.
قال الله جل وعلا هنا: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [الدخان:40]، ثم قال جل وعلا: يَوْمَ لا يُغْنِي [الدخان:41] أي: لا ينفع ولا يفيد، مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا [الدخان:41] وكلمة (مولى) كلمة فضفاضة في اللغة، لكن معناها هنا: الحليف القريب الناصر المحب، أي: من يحب أن يؤازرك، قال الله جل وعلا: يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا [الدخان:41]، وكلمة شيئاً في القرآن إذا نكرت تدل على القلة، قال الله جل وعلا: وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ [سبأ:16].
يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا [الدخان:41] من غنى، ثم قال الله: وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [الدخان:41]، والنصرة أعظم الغنى.
ثم قال الله جل وعلا: إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ [الدخان:42] و(إلا) هنا هل هي استثناء متصل أو استثناء منقطع؟ وفق قواعد اللغة والنحو تحتمل الآية الأمرين، فإن قلنا: إن الاستثناء متصل يصبح المعنى: يوم لا يغني مولىً عن مولىً شيئاً إلا من رحم الله، بمعنى: إلا من رحم الله من الموالي، فأولئك ينفع أحدهم أخاه، وتكون صورة ذلك بأن يأذن الله للشافع ويرضى عن المشفوع له، فيكون هذا استثناء من الآية، هذا على القول أن الاستثناء متصل.
وإذا قلنا: إن الاستثناء منقطع فيصبح معنى الآية: يوم لا يغني مولىً عن مولىً شيئاً ولا هم ينصرون إلا من رحم الله، فتصبح (إلا) بمعنى لكن، فيكون المعنى: يوم لا يغني مولىً عن مولىً شيئاً لكن من رحم الله لا يحتاج إلى نصرة؛ لأن الله جل وعلا رحمه وآواه.
وإذا تدبر المؤمن هذه الآيات أغفل ما قاله النحاة وتكلم عنهم البلاغيون؛ لأن هذا ليس مقصوداً في الأصل، إنما المقصود في الأصل أن يتدبر الإنسان القرآن فينظر ما هي أسباب رحمة الله، فالناس والعوام منهم على وجه الخصوص ليسوا في حاجة إلى أن يبين لهم الاستثناء المنقطع من الاستثناء المتصل، لكنا جميعاً بحاجة إلى أن يفقه الإنسان ما أسباب رحمة الله، لعل الله جل وعلا أن يرحمه، يقول الله: إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الدخان:42].
فالاستغفار من أعظم موجبات رحمة الله؛ لأن فيه قرائن وبراهين على انكسار القلب بين يدي رب العالمين جل جلاله.
وشرع الإسلام لنا أن نؤدب زوجاتنا إن لم ينفع معهن الوعظ ولا هجر المضاجع، فقال الله: وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34]، واتفقت كلمة الفقهاء على أنه ضرب غير مبرح، ولا يمكن أن يصيب الوجه أبداً، وأولئك الذين يبحثون عن قوام الشخصية في ضرب نسائهم خاصة أولئك الذي يضرب أحدهم زوجته أمام أبنائها وبناتها، فيريد أن يقيم بيتاً وهو في الحقيقة إنما يزرع في قلوب أبنائه وبناته غلاً وحقداً.
إن ابناً رأى منظراً كهذا من أبيه قد يصعب عليه -إلا من رحم الله- أن يترحم على أبيه بعد مماته، لكن المؤمن العاقل الذي يعرف عناية الإسلام بجانب الرحمة يعرف أنه لا يمكن أن يقع منه أن يهين أحداً أمام من له في أعينهم نظر ومكانة، وإنما إذا ابتليت بشخص بين من يحبونه ويجلونه فأجله وأحبه، لا يكن في قلبه أن تتشفى بمسلم وأن تريد أن تذله وتهينه على مرأى من الناس.
نعود فنقول: إن من أعظم أسباب موجبات رحمة الله رحمتنا بمن حولنا: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).
فهذه نتف من أسباب رحمة الله جل وعلا التي قال الله جل وعلا عنها جملة: إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ [الدخان:42]، على أن أهل العلم من المفسرين يقولون: إن السبب إلى وقوع رحمة الله ناجم عن مرضات الله جل وعلا عن العبد، ولا يمكن أن ينال الإنسان نوالاً ولا يعطى شيئاً أعظم من حصوله على رضوان رب العزة والجلال جل جلاله.
قال الله بعدها: إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الدخان:42] في عرف أهل التفسير: (إنه هو العزيز الرحيم) تسمى فاصلة، والفاصلة لها أربعة أغراض: فإما أن تأتي للتمكين، فيكون ما قبلها من الآيات ممهداً لها، قال الله جل وعلا: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [الأحزاب:25]، فقول الله جل وعلا: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ [الأحزاب:25] كل ذلك ممهد، فجاءت آية أو فاصلة وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [الأحزاب:25]، قال أهل البلاغة هنا: يراد بها التمكين.
وقد تأتي أحياناً فتسمى التصدير، وتكون مستقاة من نفس الآية، قال جل وعلا على لسان نوح: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا [نوح:10]، وقد تأتي بالمعنى لا باللفظ كما نحن فيه: إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الدخان:42] بعد قول الله جل وعلا: إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ [الدخان:42]، وخاتمتها تأتي للإيغال وهي الزيادة في المعنى، فتحقق الفاصلة معنىً زائداً لم يتحقق بصدر الأولى، قال الله تبارك وتعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء:88] إلى هنا انتهى معنى الآية، فجاء قول الله جل وعلا: وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]، ويسمى في عرف المعنيين بعلم التفسير يسمى إيغالاً، أي أن الفاصلة زادت معنىً لم لكن موجوداً في أصل الآية.
صدر الله الآيات بالنهي عن الشرك، فقال الله يخاطب نبيه: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا [الإسراء:22]، والقعود شعور بالعجز، قال الله: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ [النور:60]، وقال: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ [النساء:95]، فعبر عمن قعد عن الجهاد بأنهم قاعدون، وكلها تشعر بالعجز، فالله يقول لنبيه: إن الشرك من أعظم أسباب الخسران في الدنيا والآخرة، لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا [الإسراء:22].
ولما نهى العلي الكبير نبيه عن الشرك أمره بالتوحيد فقال: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] أي: حكم ديناً وشرعاً وتعبداً لعباده، وهذا من أعظم مطالب الله جل وعلا من خلقه، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
وقوله: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أسلوب حصر، فإن العبادة لا يجوز في حال أبداً صرفها لغير الله تبارك وتعالى.
إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا [الإسراء:23] فيختار المرء أطيب العبارات وأحسن الألفاظ وهو يخاطب والديه.
وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء:23-24]، فالطائر إذا أراد أن يقع ويتخلى قليلاً عن كبرياء الطيران خفض جناحيه، وكذلك حال الولد البار ذكراً كان أو أنثى أمام أمه وأبيه.
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24] قال العلماء: كل من أسدى إليك تربية تحقق عليك أن تبره من حيث الإجمال، فالوالدان الأصل أن لهما حق البر بمجرد أنهما والدان، ويزداد حقهما تعظيماً إذا قدر لهما -وهو الأصل- أن يتوليا تربيتك، فإن تولى تربيتك أحد غيرهما أو كان لأحد غيرهما شيء من التربية عليك توجهت وتقوت مسألة برك له قليلاً كان أو كثيراً، قال الله جل وعلا: وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24].
لكن الإنسان ضعيف، فأحياناً يكون للوالد أو للوالدة مطالب تعلم أنت أنك لو حققتها لهما لكان ذلك سبباً في الضرر بهما، فيبقى في نفسك أمور وأمور تتداول، فتبقى على المنعطف الصحيح وتغلب عقلك على عاطفتك، كالأم مثلاً قد تصاب بالوسوسة فتظن أن بها مساً، وقد تحقق عندك أنه لا مس بها، لكنها تجبرك ما بين الحين والآخر على أن تذهب بها إلى من يقرأ عليها، وقد غلب على ظنك أنك لو ذهبت بها إلى زيد وعمرو من القراء لازدادت تعباً وعظمت الوساوس في قلبها، واشتد الأمر عليها، فتأنف وترفض أن تذهب بها وأنت بهذا تخالف أمرها، لكنك لا تريد إلا الخير لها.
وفي دعاء إبراهيم: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:87-89].
من هذا السياق القرآني يتبين للمرء أنه ما سعى في شأن أعظم من إصلاح قلبه، وصلاح القلوب له طرائق عدة: أعظمه تدبر القرآن، وهو ما نحن فيه، مع تلاوة القرآن، والتأمل في هدي نبينا صلى الله عليه وسلم، والبعد عن حسد الناس وحمل الحقد والبغضاء لهم، والإكثار من ذكر الله جل وعلا فإن ذكر الله حياة الضمائر وأنس السرائر، وغيرها مما لا يخفى، والمقصود الإشارة من حيث الجملة، وبصلاح القلوب يفوز الإنسان برضوان ربه ورحمته، ويكون قريباً من دخول جنته.
وقال الله جل وعلا في سورة أخرى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [الرعد:38]، وكون أنبياء الله ورسله من نفس جنس الناس هذا يجعلهم أدعى لأن يقبل منهم، وأنبياء الله ورسله ما كانوا يعيشون في منأى بعيد عن الناس، وإنما كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، وهذا مما اعترضت به الأمم عليهم.
وإبراهيم عليه الصلاة والسلام المشهور عند المؤرخين أنه لم يرزق بنات، وإنما رزق ذكوراً، ولوط عليه الصلاة والسلام المشهور عند العلماء أنه لم يرزق ذكوراً وإنما رزق إناثاً، والمشهور المحفوظ أن عيسى عليه السلام لم يتزوج، وأن نبينا صلى الله عليه وسلم رزقه الله ذكراناً وإناثاً: ستة من خديجة ، وإبراهيم من مارية ، وهؤلاء السبعة كلهم ماتوا في حياته صلى الله عليه وسلم إلا فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، فمات القاسم وعبد الله وزينب ورقية وأم كلثوم وإبراهيم جميعاً في حياته صلوات الله وسلامه عليه، وماتت ابنته فاطمة رضوان الله تعالى عليها بعد وفاته صلى الله عليه وسلم بستة أشهر، وكانت قد دخلت عليه في يوم وفاته فقال لها: (إنك سيدة نساء أهل الجنة، وإنك أول أهلي لحوقاً بي)، وكانت عظيمة القدر عنده صلى الله عليه وسلم، فقال صلوات الله وسلامه عليه: (إنما
وحكى الله عن إسماعيل أنه كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة، وكان صادق الوعد، فأخبر الله عن سلوكه مع ربه وسلوكه مع الخلق، فلما حافظ على الصلاة سهل عليه بعد ذلك أن يحافظ على وعوده مع الخلق.
وذكر الله أيوب وأخبر أنه ابتلاه، وأنه بقي يحسن الظن بربه، وكان يلجأ إلى مولاه حتى أنبع الله تحت قدميه عيناً ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [ص:42].
وحكى الله جل وعلا عن لوط أن قومه تآمروا عليه فقال عَجِلاً: أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود:80]، ولقد كان يأوي إلى ركن شديد عليه الصلاة والسلام، فطمأنته الملائكة: إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ [هود:81].
وحكى الله عن داود أنه كان يقوم الليل، ويكثر من الصيام كما أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم.
فتنوع هديهم، وتغير حالهم والأعراف التي نشئوا عليها، فاستعصموا واستمسكوا جميعاً بتوحيد الله، فيعبدوا رباً واحداً لا إله إلا هو، قال الله عنهم بعد أن ذكرهم جملة: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]، ثم ختم الله النبوات وأتم الرسالات برسالة صفوة الخلق محمد صلوات الله وسلامه عليه.
(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ) أي: بالقرآن، زيادة لك في الخير، (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا)، قال العلماء: إن من أنجع الطرائق لتحقيق الغايات والوصول إلى الأماني أن يقوم الإنسان بين يدي ربه يتهجد بين يديه، ويسأل الله جل وعلا ويستعين به ويرجوه؛ لأن الله جل وعلا قال: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ)، والبعث يطلق على الحياة بعد الموت، فكأن تلك المنزلة التي وعدك الله بها أيها النبي الكريم لن تنالها بما لديك من مزايا، وإنما هي هبة ربانية، ومنحة إلهية لك، وكان أعظم سبب هيأه الله لك كي تنالها أن منّ عليك بأنك تحسن القيام بين يديه. تقول أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها عائشة أنها فقدت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فوجدته في المسجد قد انتصبت قدماه، ويقول في سجوده: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك).
قال الله جل وعلا عن نبيه صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، فهذا وصف عام لخلق نبينا صلى الله عليه وسلم، وأنه عليه الصلاة والسلام جبل على الرأفة والرحمة بالخلق أجمعين، ولهذا نعته ربه بقوله: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).
وقوله جل وعلا: (مِنْ أَنفُسِكُمْ) يشعر الناس بقرب هذا النبي حساً ومعنىً منهم، وهذا النبي الخاتم صلوات الله وسلامه عليه ترك هدياً عظيماً كما بينا آنفاً، والعبرة كل العبرة في قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فانتهوا).
والتكاليف الشرعية أيه المبارك تنقسم إلى قسمين: أوامر ونواهٍ، فالحظ من الأوامر والنيل منها إنما يكون بقدر الاستطاعة، فلا واجب مع العجز، وأما ما حرمه الله أو حرمه رسوله صلى الله عليه وسلم فليس لنا إلا الكف والانتهاء عنه أمراً واحداً، ولا يدخل حيز المراتب كما تدخله حيز الأوامر اللهم إلا في مسائل الضرورات، فهذه قد بينها أهل الفقه ولها أحكامها، لكن ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم به فقد يقدر عليه زيد ولا يقدر عليه عمرو، فيندرج تحت قول الله جل وعلا: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وأما ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه فيكف الإنسان وينتهي عنه قولاً واحداً إلا -كما قلت- في حال الضرورات.
كما أن الإنسان وهو يبني نفسه لابد أن يكون هناك باعث في النفس، ومن هنا يعلم المرء أن المسئولية مسئولية فردية يوم القيامة، وأنه:
ما حك جلدك مثل ظفرك فتول أنت جميع أمرك
ويذكرون أن الإمام ابن حزم رحمة الله تعالى عليه دخل المسجد قبل أن يطلب العلم، دخل المسجد ليصلي على جنازة فجلس حتى تحضر الجنازة، فقال له أحد الحاضرين مؤنباً: ما لك تجلس! قم فصل ركعتين تحية المسجد، فقام فصلى، ثم إنه علم أن هناك جنازة في صلاة المغرب فتوجه إلى المسجد في وقت النهي، فدخل وصلى، فرآه أحد الناس فنهاه عن الصلاة في هذا الوقت، فلما وجد التأنيب من رجلين هذا يأمره وهذا ينهاه وجد أنه مضطر لطلب العلم، كي يرفع الجهل عن نفسه، فطلب العلم حتى عد إماماً عظيماً من أئمة الإسلام، قال العز بن عبد السلام رحمة الله عليه: كتابان من حواهما وقرأهما وكان على منزلة عظيمة في الذكاء حق له أن يفتي: المغني لـابن قدامة ، والمحلى لـابن حزم ، قال الإمام الذهبي رحمة الله عليه في الأعلام وهو يزيد عليهما قال: وأنا أقول: فإذا جمع الإنسان معهما التمهيد لـابن عبد البر والسنن الكبرى للبيهقي رحمة الله على الجميع، وكان الرجل ذكياً، وأدمن -هذا لفظه- المطالعة في هذه الكتب الأربعة أضحى عالماً فذاً من علماء المسلمين.
موضوع الشاهد: أن الإنسان ينظر في الآمال التي يبتغيها، والمنازل التي يريد أن يصل إليها، فيحسن الظن بربه، فيصدق في توكله على خالقه ومولاه، ثم مع ذلك يأخذ بالأسباب، فهذا هو الهدي الأقوم والطريق الأمثل الذي بينه صلى الله عليه وسلم لأمته، ويندرج في قول الله جل وعلا: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].
فإذا قدر للإنسان أن يبتلى بحساد يحاولون أن يمنعوه من الوصول إلى غايته، أو مثبطون لا يريدون له خيراً، أو ضعفاء شخصية يخافون الخوض في اللجج فهؤلاء يجب أن يتنهى الإنسان على أن يسمع لهم:
إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم
ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر.
ومن أعظم ما تنافس فيه الناس وبلغوا فيه أعظم الغايات الوصول إلى أرفع الدرجات في العلم؛ لأن الله جل وعلا جعل العلماء شهوداً على أعظم مشهود، قال الله جل وعلا: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18].
في غمرة هذا وبحث الإنسان عن الشرف والمجد -كما يكون هناك فئة تثبطك أو تحسدك أو تهون عزيمتك- قد تأتي فئة تحاول أن تسلك بك طريقاً آخر، فتقول لك: إن طرائق المجد في أن تشهر السيف على المسلمين، أو أن تخرج على ولاة أمرك، أو أن تتبنى طرائق التكفير، أو أضراب ذلك من دلائل الباطل وبراهين الضلالة التي لا يشك مؤمن حصيف متدبر للقرآن فيها، ودين الله بين الغالي فيه والمجافي عنه، ومن أراد الوصول إلى غاية شرعية فلابد أن تكون المطية للوصول مطية شرعية، فأي غاية شرعية تكون صادقاً مع ربك في الوصول إليها لابد أن تكون المطية مطية شرعية وإلا فلا، فلا يمكن الوصول إلى غايات إلا بما أراد الله وأرد رسوله صلى الله عليه وسلم.
وإن من أعظم دلائل الحق: أن يطبق الإنسان كلام ربه، وأن يستقي العلم الحق من القرآن لا من الأناشيد، وأن يؤخذ الدين من هدي محمد صلى الله عليه وسلم لا من طرائق غيره، وهذه منزلة تحتاج إلى إنسان أسلم قلبه حقاً لله، ولم يضرره الهوى، ولم تضلله الأماني، ولم يسمع لكل ناعق، فمن وطن نفسه على السمع والطاعة لما أمر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم ألبس ثوب الهداية، وهدي إلى صراط مستقيم، وكان يرى بنور الله، كما في الحديث القدسي عن أولياء الله جل وعلا: (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره التي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها).
فيرزق التوفيق أولياء الله، وهم المتشبثون بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا أطلت الفتن وظهرت هنا وهناك لجئوا إلى كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وتمسكوا بما عليه جماعة المسلمين كما أمر نبينا صلى الله عليه وسلم.
فقد أحاطت بالمؤمنين في المدينة الدوائر، وحاصرهم جيش مسلم بن عقبة المري ، وأرادوا بهم خزياً وعاراً، فجمع الصحابي الجليل عبد الله بن عمر الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وسمع القرآن وهو ينزل عليه، واغترف من هديه وأخذ من مشكاته، جمع بنيه وقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من خرج عن الإمام قيد شبر مات ميتة جاهلية)، فنقل إلى أبنائه وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ودين الله جل وعلا أجل وأعظم من أن يطبق في أمور ويترك في أمور، ومن أن نجعله هوىً نقبله حيناً ونتركه أحياناً، لكن المؤمن الحق الذي يريد ما عند الله يعلم أنه لا مطية توصل إلى دخول الجنة إلا ما أمر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله جل وعلا: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، وقال صلوات الله وسلامه عليه: (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)، وقال وهو الصادق المصدوق المبلغ عن ربه: (واسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبد)، إلى غير ذلك من النصوص التي لا يمكن إزالتها عن مواطنها، ولا أن تخرج عن موضعها، ولا أن يقبل بشيء يصادمها، فإذا جاء سيل الله بطل سيل معقل، كما هو مقرر في الكتاب والسنة، وما أجمع عليه سلف الأمة من قبل.
بقي أيها المؤمنون! أن نأخذ آية نختم بها هذا اللقاء المبارك، نعظ بها أنفسنا قبل غيرنا، قال الله جل وعلا: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار:13-19].
قيل: إن أبا حازم سأله أحد خلفاء بني أمية عن حاله، فقال: يا أمير المؤمنين! اعرض نفسك على القرآن، قال: وأين أجد هذا؟ قال: في قول الله: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14].
ويقول عمر : الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت. ويقول: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، فاليوم عمل بلا حساب، وغداً حساب ولا عمل.
هذه أيها المؤمنون! شذرات من تأملات، ومتفرقات من مواعظ، قلتها على عجل، والله وحده المسئول أن ينفع بها.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، إن ربي لسميع الدعاء، وصلى الله على محمد وعلى آله.
الجواب: مسألة أنه من الرياء أرجو الله ألا يكون رياء، وأنت أبصر بنفسك، لكن لا تستدم اختياراً معيناً، وحاول أن تنهج منهج النبي صلى الله علهي وسلم، فالقرآن كله ذو مواعظ ورقائق، فلا بأس أن تجمع بين هذا وهذا، لكن حاول أن تأتي على القرآن كله، والموفق الله.
الجواب: ما ذكر باطل من كل وجه، فما ذكروه من أنه بعث أحد أمراء جنوده وحصل ما حصل مع زوجته، هذا ينزه عنه آحاد الناس فكيف يرمى به أنبياء الله! فداود عليه السلام منزه عن هذا صلى الله عليه وسلم، فالخبر مكذوب، وما ذكره بعض المفسرين مجازفة منهم رحمة الله تعالى عليهم.
الجواب: يقسم الليل من غروب الشمس إلى طلوع أذان الفجر ثلاثة أثلاث، وهذا يختلف صيفاً وشتاء، فيكون الثالث الأخير منها أمر واضح بعد ذلك، فلو فرضنا أن المغرب يؤذن الساعة السادسة، والفجر يؤذن الساعة السادسة فهذه اثنا عشر ساعة، فتكون الأربع ساعات الأخيرة من الليل هي ثلث الليل الآخر.
لكن لا يحسن جعلها -أي: الصلاة- إلى السحر جداً، أي: لا تكون متصلة بصلاة الفجر، فمن حيث الجواز يجوز، لكن الأفضل أن يكون هناك انفكاك وانفصال ما بين الوتر وما بين أذان صلاة الفجر، ولو كانت هناك ضجعة أو نومة فهذا أفضل، لقوله صلى الله عليه وسلم عن نبي الله داود: (كان ينام نصفه -أي الليل- ويقوم ثلثه، وينام سدسه).
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر