وهكذا رواه النسائي عن إسحاق بن راهويه ، وقد روياه أيضاً عن قتيبة عن مالك عن العلاء عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة عن أبي هريرة ، وفي هذا السياق: (فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل)، وهكذا رواه ابن إسحاق عن العلاء ، وقد رواه مسلم من حديث ابن جريج عن العلاء عن أبي السائب هكذا، ورواه أيضاً من حديث ابن أبي أويس عن العلاء عن أبيه وأبي السائب كلاهما عن أبي هريرة ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن، وسألت أبا زرعة عنه فقال: كلا الحديثين صحيح، من قال: عن العلاء عن أبيه وعن العلاء عن أبي السائب ، وقد روى هذا الحديث عبد الله ابن الإمام أحمد من حديث العلاء عن أبيه، عن أبي هريرة عن أبي بن كعب مطولاً.
وقال ابن جرير : حدثنا صالح بن مسمار المروزي حدثنا زيد بن الحباب حدثنا عنبسة بن سعيد عن مطرف بن طريف عن سعيد بن إسحاق عن كعب بن عجرة عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين وله ما سأل، فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] قال: حمدني عبدي، وإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] قال: أثنى علي عبدي، ثم قال: هذا لي وله ما بقي)، وهذا غريب من هذا الوجه ].
أحدها: أنه قد أطلق فيها لفظ الصلاة والمراد: القراءة، كقوله تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا [الإسراء:110] أي: بقراءتك كما جاء مصرحاً به في الصحيح عن ابن عباس ].
قلت: جاء في الصحيح أنها نزلت والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة، وكان إذا رفع صوته بالقراءة سب المشركون القرآن ومن أنزله، وإذا خفض صوته بالقراءة لم يسمعه أصحابه، فأنزل الله: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ يعني: بقراءتك؛ لئلا يسب المشركون الرب، وَلا تُخَافِتْ بِهَا ؛ لئلا تخفي ذلك عن أصحابك، وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا يعني: بين الجهر وبين الإخفاء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهكذا قال في هذا الحديث: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل)، ثم بين تفصيل هذه القسمة في قراءة الفاتحة، فدل على عظمة القراءة في الصلاة، وأنها من أكبر أركانها إذا أطلقت العبادة وأريد بها جزء واحد منها وهو القراءة، كما أطلق لفظ القراءة والمراد به الصلاة في قوله: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78] ].
والمراد بقوله تعالى: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ يعني: وقت صلاة الفجر، وسمى صلاة الفجر قرآناً؛ لأن أعظم أركانها القراءة، وكذا العكس نطلق الصلاة على القرآن، كما في حديث: (قسمت الصلاة) يعني: القراءة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والمراد صلاة الفجر كما جاء مصرحاً به في الصحيحين: (أنه يشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار) فدل ذلك كله على أنه لابد من القراءة في الصلاة، وهو اتفاق من العلماء، ولكن اختلفوا في مسألة نذكرها في الوجه الثاني؛ وذلك أنه هل يتعين للقراءة في الصلاة غير فاتحة الكتاب أم تجزئ هي أو غيرها؟ على قولين مشهورين: فعند أبي حنيفة ومن وافقه من أصحابه وغيرهم أنها لا تتعين، بل مهما قرأ به من القرآن أجزأه في الصلاة ].
وهذا القول ضعيف، والصواب أنه لابد من قراءة الفاتحة ولا يقوم غيرها مقامها، وأما ما زاد عليها فغير واجب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ واحتجوا بعموم قوله تعالى: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل:20]، وبما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة في قصة المسيء في صلاته، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) قالوا: فأمره بقراءة ما تيسر ولم يعين له الفاتحة ولا غيرها، فدل على ما قلنا. ].
قلت: هذا الاستدلال يجاب عنه: بأن قوله تعالى: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل:20] مجمل، وحديث المسيء في صلاته مجمل، وقد بينتهما الأحاديث الصحيحة: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والقول الثاني: أنه تتعين قراءة الفاتحة في الصلاة ولا تجزئ الصلاة بدونها، وهو قول بقية الأئمة: مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم وجمهور العلماء، واحتجوا على ذلك بهذا الحديث المذكور حيث قال صلوات الله وسلامه عليه: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج)، والخداج هو الناقص كما فسر به في الحديث: (غير تمام).
واحتجوا أيضاً بما ثبت في الصحيحين من حديث الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وفي صحيح ابن خزيمة وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن)، والأحاديث في هذا الباب كثيرة، ووجه المناظرة هاهنا يطول ذكره، وقد أشرنا إلى مأخذهم في ذلك رحمهم الله.
ثم إن مذهب الشافعي وجماعة من أهل العلم أنها تجب قراءتها في كل ركعة، وقال آخرون: إنما تجب قراءتها في معظم الركعات، وقال الحسن وأكثر البصريين: إنما تجب قراءتها في ركعة واحدة من الصلوات أخذاً بمطلق الحديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ].
قلت: الصواب أنها ركن في كل ركعة للإمام والمنفرد، فأما المأموم ففيه خلاف، لكن الإمام والمنفرد يجب عليه أن يقرأ الفاتحة في كل ركعة، ولا تصح الصلاة إلا بقراءتها في كل ركعة، فهذا هو الصواب الذي تدل عليه النصوص.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي : لا تتعين قراءتها، بل لو قرأ بغيرها أجزأه؛ لقوله تعالى: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل:20]، والله أعلم.
وقد روى ابن ماجة من حديث أبي سفيان السعدي عن أبي نضرة عن أبي سعيد مرفوعاً: (لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد وسورة في فريضة أو غيرها) وفي صحة هذا نظر، وموضع تحرير هذا كله في كتاب (الأحكام الكبير)، والله أعلم ].
كتاب (الأحكام الكبير) هو للمؤلف رحمه الله.
فحديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد وسورة في فريضة أو غيرها) هو كما قال المؤلف: في صحته نظر؛ لأنه لا يتعين إلا الفاتحة.
وأما بالنسبة للإمام والمنفرد فإنه يجب قراءة الفاتحة عليهما، وأما المأموم ففيه خلاف، وهناك عدة أقوال:
الأول: ذهب الجمهور إلى أن المأموم تسقط عنه، وأن قراءة الإمام قراءة له.
وقيل: إنها مستثناة، ويستدلون بقول الله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204]، قال الإمام ابن حجر : أجمع العلماء على أنها نازلة في الصلاة، وبما ثبت في صحيح مسلم : (وإذا قرأ فأنصتوا)، قالوا: فهذا يدل على أن المأموم لا يقرأ الفاتحة.
القول الثاني لأهل العلم: أن المأموم يقرؤها وأنها لا تسقط عنه، فإن كان للإمام سكتات قرأها في السكتات.
وأجابوا عن قوله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا [الأعراف:204] بأنها عامة، وأجابوا عن حديث: (إذا قرأ فأنصتوا) بأنه يستثنى منه الفاتحة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وهذا عام يشمل الإمام والمنفرد والمأموم، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: لا تفعلوا إلا بأم القرآن؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها).
فإن قيل: إذا جاء المأموم والإمام يقرأ في السورة التي بعد الفاتحة فهل يشرع له الاستفتاح؟
الجواب: لا؛ لأن الاستفتاح سنة، وقد فات محله، وإنما يقتصر على الواجب وهو الفاتحة، وإذا جاء والإمام راكع سقطت عنه لحديث أبي بكرة : (أنه لما جاء والنبي راكع ركع دون الصف، ثم دب حتى دخل في الصف، فلما سلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: زادك الله حرصاً ولا تعد) ولم يأمره بإعادة الركعة، فدل هذا على أن المأموم إذا جاء والإمام راكع تسقط عنه الفاتحة، وكذلك إذا لم يتمكن من قراءتها.
أما البخاري وجماعة فيرون أنها لا تسقط بكل حال، حتى لو جاء والإمام راكع فإنه يقضي هذه الركعة؛ لعموم حديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) وقد ألف البخاري جزءاً في هذا سماه (جزء القراءة).
كذلك إذا كان الإمام يطيل الاستفتاح فإنه يشرع للمأموم أن يقرأ الفاتحة أثناء ذلك، ولا يعد ذلك مسابقة؛ لأن المسابقة تكون في الركوع والسجود لا في القراءة.
أحدها: أنه تجب عليه قراءتها كما تجب على إمامه؛ لعموم الأحاديث المتقدمة.
والثاني: لا تجب على المأموم قراءة بالكلية لا الفاتحة ولا غيرها لا في صلاة الجهرية ولا في صلاة السرية؛ لما رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)، ولكن في إسناده ضعف، ورواه مالك عن وهب بن كيسان عن جابر من كلامه، وقد روي هذا الحديث من طرق ولا يصح شيء منها عن النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
والقول الثالث: أنه تجب القراءة على المأموم في السرية لما تقدم، ولا يجب ذلك في الجهرية؛ لما ثبت في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا..)، وذكر بقية الحديث، وهكذا رواه بقية أهل السنن: أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وإذا قرأ فأنصتوا)، وقد صححه مسلم بن الحجاج أيضاً، فدل هذان الحديثان على صحة هذا القول، وهو قول قديم للشافعي رحمه الله، والله أعلم، ورواية عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى.
والغرض من ذكر هذه المسائل هاهنا بيان اختصاص سورة الفاتحة بأحكام لا تتعلق بغيرها من السور ].
إذاً: هنا ثلاثة أقوال: تجب مطلقاً في السرية والجهرية، لا تجب مطلقاً في السرية والجهرية، تجب في السرية دون الجهرية، وأيضاً هناك قول رابع: وهو أنها تجب على من أدرك الإمام راكعاً، والصواب أنها واجبة مطلقاً في السرية والجهرية، وهي مستثناة من قوله: (وإذا قرأ فأنصتوا)، ومستثناة أيضاً من قوله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا [الأعراف:204]، كما سبق في الحديث قال: (يا
فـأبو هريرة رضي الله عنه اختار هذا القول، وهو أنها واجبة على المأموم مطلقاً في السرية والجهرية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا غسان بن عبيد عن أبي عمران الجوني عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وضعت جنبك على الفراش وقرأت فاتحة الكتاب وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] فقد أمنت من كل شيء إلا الموت) ].
وهذا في صحته نظر؛ لأن المعروف أن آية الكرسي هي التي تقرأ عند النوم وكذلك الذكر المعروف، وأما قراءة الفاتحة عند النوم ففي صحة ذلك نظر.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر