إسلام ويب

تفسير سورة البقرة [72-74]للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • وجد قتيل في بني إسرائيل في زمن موسى عليه السلام، فاختصم القوم فيه، فأمرهم الله تعالى على لسان نبيه موسى عليه السلام بأن يذبحوا بقرة، ويضربوا بعضها به، فأحياه الله بعد موته وعلم القاتل، ثم وبخ الله اليهود بسبب قسوة قلوبهم، رغم ما شاهدوه من آيات الله وإحياء الموتى أمام أعينهم.
    قال الله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة:72-73].

    قال المصنف رحمه الله: [ قال البخاري : فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [البقرة:72] اختلفتم، وهكذا قال مجاهد: فيما رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن أبي حذيفة عن شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: في قوله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [البقرة:72]، اختلفتم، وقال عطاء الخرساني والضحاك اختصمتم فيها.

    وقال ابن جريج : وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [البقرة:72]، قال بعضهم: أنتم قتلتموه، وقال آخرون: بل أنتم قتلتموه، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم . وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:72]. قال مجاهد : ما تغيبون. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرة بن أسلم البصري حدثنا محمد بن الطفيل العبدي حدثنا صدقة بن رستم، سمعت المسيب بن رافع يقول: ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله، وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله، وتصديق ذلك في كلام الله وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [البقرة:72-73] هذا البعض أي شيء كان من أعضاء هذه البقرة ].

    وهذه القصة فيها بيان قدرة الله العظيمة، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وفيها دليل على البعث، كما قال سبحانه وتعالى: كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى [البقرة:73]، فكما أن إحياء الأرض بعد موتها دليل على البعث، فكذلك هذه القصة، وهي قصة من خمس قصص في سورة البقرة، ذكر الله فيهن الإحياء بعد الموت، وهذه القصص هي: هذه أحياهم الله تعالى بعد موتهم، هذه القصص هي: الأولى: هذه القصة التي هي قصة قتيل بني إسرائيل، فقد ضربوه ببضعة من البقرة التي أمروا بذبحها فأحياه الله. والثانية: إحياء بني إسرائيل لما قالوا لموسى: أرنا الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة فماتوا، ثم بعثهم الله. والثالثة: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة:243] والرابعة: قصة عزير والخامسة: طيور إبراهيم.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [البقرة:73]، هذا البعض أي شيء كان من أعضاء هذه البقرة، فالمعجزة حاصلة به، وخرق العادة به كائن، وقد كان معيناً في نفس الأمر، فلو كان في تعيينه لنا فائدة تعود علينا في أمر الدين أو الدنيا لبينه الله تعالى لنا، ولكنه أبهمه ولم يجيء من طريق صحيح عن معصوم بيانه، فنحن نبهمه كما أبهمه الله ].

    وهذا هو الصواب، فهذا البعض مبهم، ولو كان فيه فائدة لبينه الله لنا، فالله أعلم ما هي هذه القطعة، وهل هي من الرقبة أو من الفخذ أو من غيرهما؟ وإنما المهم أنهم أخذوا قطعة معينة، وضربوه ببعضها فأحياه الله، فقالوا له: من قتلك؟ فقال: قتلني فلان، ثم عاد ميتاً، وأما تعيين بعضهم لهذه البضعة بأنها من الرقبة أو من الفخذ، فكل هذا لا دليل عليه.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ولهذا قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عفان بن مسلم حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن أصحاب بقرة بني إسرائيل طلبوها أربعين سنة حتى وجدوها عند رجل في بقر له، وكانت بقرة تعجبه، قال: فجعلوا يعطونه بها فيأبى، حتى أعطوه ملء مسكها دنانير ].

    والمسك -بفتح الميم-: الجلد، وأما المسك -بكسر الميم- فهو الطيب. وهذا مما يختلف فيه المعنى باختلاف الشكل، فالحركة الواحدة تغير فيه المعنى.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال: فجعلوا يعطونه بها فيأبى، حتى أعطوه ملء مسكها دنانير، فذبحوها، فضربوه -يعني: القتيل- بعضو منها، فقام تشخب أوداجه دماً، فقالوا له: من قتلك؟ قال: قتلني فلان.

    وكذا قال الحسن وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أنه ضرب ببعضها. وفي رواية عن ابن عباس : أنه ضرب بالعظم الذي يلي الغضروف. وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر قال: قال أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة : ضربوا القتيل ببعض لحمها. قال معمر : قال قتادة : ضربوه بلحم فخذها فعاش فقال: قتلني فلان. وقال وكيع بن الجراح في تفسيره: حدثنا النضر بن عربي عن عكرمة : فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [البقرة:73] فضرب بفخذها، فقام فقال: قتلني فلان.

    قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد وقتادة وعكرمة نحو ذلك. وقال السدي : فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين فعاش، فسألوه فقال: قتلني ابن أخي. وقال أبو العالية : أمرهم موسى عليه السلام ].

    إذا مر اسم النبي صلى الله عليه وسلم، فالأفضل الصلاة عليه صلاة كاملة، لا أن نكتفي بالسلام فقط؛ وذلك للتبرك بالصلاة عليه.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال أبو العالية : أمرهم موسى عليه السلام، أن يأخذوا عظماً من عظامها فيضربوا به القتيل ففعلوا، فرجع إليه روحه فسمى لهم قاتله، ثم عاد ميتاً كما كان. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : فضربوه ببعض آرابها. وقيل: بلسانها. وقيل: بعجب ذنبها ].

    وكل هذا كما سبق ليس عليه دليل، إذ أنها كلها من أخبار بني إسرائيل، والله أعلم بصدقها أو كذبها.

    والمقصود: أنهم ضربوه بقطعة منها فأحياه الله، فأخبر بمن قتله، وانقطع النزاع الذي بينهم بعد أن عرفوا من قتله، ثم عاد ميتاً، وتعيين هذا البعض ليس عليه دليل، ولا فائدة فيه، ولو كان في علمه فائدة لعينه الله لنا.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقوله تعالى: كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى [البقرة:73] أي: فضربوه فحيي. ونبه تعالى على قدرته وإحيائه الموتى بما شاهدوه من أمر القتيل، جعل تبارك وتعالى ذلك الصنيع حجة لهم على المعاد، وفاصلاً ما كان بينهم من الخصومة والعناد ].

    قوله: فاصلاً، أي: ليفصل بينهم.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ والله تعالى قد ذكر في هذه السورة مما خلقه من إحياء الموتى في خمسة مواضع: ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ [البقرة:56]، وهذه القصة، وقصة: الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ [البقرة:243]، وقصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، وقصة إبراهيم عليه السلام والطيور الأربعة. ونبه تعالى بإحياء الأرض بعد موتها على إعادة الأجسام بعد صيرورتها رميماً، كما قال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة أخبرني يعلى بن عطاء قال: سمعت وكيع بن عدس يحدث عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه ].

    ووكيع بن عدس يقال له: وكيع بن حدس بالحاء، وفيه بعض الضعف.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ يحدث عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه، قال: (قلت: يا رسول الله! كيف يحيي الله الموتى؟ قال: أما مررت بواد ممحل ثم مررت به خضراً؟ قال: بلى، قال: كذلك النشور، أو قال: كذلك يحيي الله الموتى).

    وشاهد هذا قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس:34-35].

    مسألة: استدل لمذهب الإمام مالك في كون قول الجريح: فلان قتلني لوثاً بهذه القصة؛ لأن القتيل لما حيي سئل عمن قتله، فقال: فلان قتلني، فكان ذلك مقبولاً منه؛ لأنه لا يخبر حينئذ إلا بالحق، ولا يتهم والحالة هذه ورجحوا ذلك؛ لحديث أنس : (أن يهودياً قتل جارية على أوضاح لها فرضخ رأسها بين حجرين، فقيل: من فعل بك هذا أفلان؟ أفلان؟ حتى ذكروا اليهودي فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي فلم يزل به حتى اعترف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين).

    وعند مالك إذا كان لوثاً حلف أولياء القتيل قسامة، وخالف الجمهور في ذلك، ولم يجعلوا قول القتيل في ذلك لوثاً ].

    واللوث: هو البينة أو القرينة التي ترجح أن القتل فيهم، فإذا وجدت القرينة، كأن يوجد قتيل في حي من الأحياء، أو في بلد من البلدان، وكانت هناك قرينة ترجح أنهم قتلوه، كأن يكون بينه وبينهم عداوة، فيسمى هذا لوثاً، فيحلف أولياء القتيل خمسين يميناً على شخص معين، ثم يسعى إليه فيقتلونه قسامة، ويكون هذا قاطعاً للنزاع.

    ومما ورد في هذا: أن ابن سهل وجد قتيلاً في خيبر بين اليهود -واليهود أعداء معروفون بعدائهم- فجاءوا يشتكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن اليهود قتلوه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تحلفون خمسين يميناً؟ قالوا: كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟ قال: فتبرئكم يهود بخمسين يميناً، قالوا: يا رسول الله! كيف نقبل أيمان قوم كفار، فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من عنده مائة بعير) قطعاً للنزاع.

    فتكون القسامة إذا وجد قتيل بين جماعة أو في محلة ووجد لوث، فيحلفون خمسين يميناً على شخص صحيح، فإن أبوا ردت الأيمان على الخصم، فيحلفون خمسين يميناً ويبرءون.

    والصحابة اتهموا اليهود وتورعوا عن الحلف؛ لأنهم لم يروا ولم يشهدوا، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ترد الأيمان على اليهود، فقالوا: لا نقبل أيمان اليهود؛ لأنهم قوم كفار، فبين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذا هو الحكم الشرعي، وأن الأيمان ترد على الخصم، سواء كان مسلماً أو كافراً.

    وقوله: [ استدل لمذهب الإمام مالك في كون قول الجريح: فلان قتلني لوثاً بهذه القصة ]، أي: إذا قال الجريح مثلاً: فلان قتلني ثم مات، فهل يعتبر هذا تهمة وبينة أم لا؟ قال الإمام مالك : هو تهمة؛ لأن الجريح في هذه الحالة ميت ولا يتهم بغير الحق، فلم يقل فلان قتلني إلا عن علم.

    والأوضاح: الفضة، وهذا يدل على ما في اليهود من خبث ولؤم، فقد أخذ الأوضاح، ثم رض رأس الجارية بين حجرين.

    وقوله في الحديث: [ (فقيل من فعل بك هذا أفلان؟ أفلان؟ حتى ذكروا اليهودي، فأومأت برأسها فأخذ اليهودي)، أي: أنهم وجدوها في الرمق الأخير، فسألوها: من فعل بك هذا؟ هل هو فلان؟ فسكتت. فقالوا: هل هو فلان فسكتت، فلما ذكروا اليهودي أومأت برأسها: أن نعم. فأخذ اليهودي، واعتبرت هذه تهمة له، ولكنهم لم يقتصوا منه حتى اعترف، بدليل قوله في الحديث: (فلم يزل به حتى اعترف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين).

    فقال مالك : إن قول القتيل يعتبر لوثاً، فيحلف أولياء القتيل قسامة، وخالفه الجمهور في ذلك، ولم يجعلوا قول القتيل في ذلك لوثاً، ولم يقيسوا على هذه القصة، وقالوا: إن اللوث يحتاج إلى بينة أو تهمة غير قول القتيل.

    وفي حديث أنس لم يقتص من اليهودي إلا بعد أن اعترف.

    وإذا لم يعترف عند الجمهور فلا يقتص منه، وإنما يعزر.

    ولا يكون القصاص بمجرد اللوث، وإنما إذا ثبت أنه بينة أو إذا اعتبر بينة، فعندئذ توجه الأيمان إلى أولياء القتيل، ويقال لهم: احلفوا خمسين يميناً على شخص معين يدفع إليكم تقتلونه، فإن أبوا ردت الأيمان على الخصم، فيحلفون خمسين يميناً ويبرءون.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088547259

    عدد مرات الحفظ

    777254750