إسلام ويب

تفسير سورة البقرة [183-185]للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • شرع الله تعالى لعباده صوم رمضان تحصيلاً منهم للخير والتقوى، وابتلاء منه تعالى لهم بالتكليف، وأوجب تعالى صيامه على المقيم القادر، ورخص للمريض والمسافر ومن في حكم المريض في الفطر مع القضاء، كما رخص للشيخ الفاني والمريض المزمن في الفطر مع الإطعام تيسيراً على العباد ورفعاً للحرج عنهم، ولذا كان الواجب عليهم شكر هذه النعمة والهداية، مظهرين ذلك بصوم هذا الشهر وقراءة القرآن فيه مع أداء سائر العبادات، ثم تكبيرهم الله تعالى في يوم فطرهم.
    قال الله تعالى: [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:183-184].

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يقول تعالى مخاطباً للمؤمنين من هذه الأمة وآمراً لهم بالصيام، وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع بنية خالصة لله عز وجل؛ لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة، وذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم، فلهم فيه أسوة، وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك، كما قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ... [المائدة:48] الآية، ولهذا قال هاهنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]؛ لأن الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان، ولهذا ثبت في الصحيحين: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء) ].

    في هذه الحديث جملة مهمة، فقوله: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) هذه الجملة فيها بيان حكمة مبادرة الشباب والشابات إلى الزواج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج.

    والصيام له حكم وأسرار عظيمة لا تعد ولا تحصى، فهو يضيق مجاري الشيطان؛ لأن فيه تضييق مجاري الطعام والشراب، والصيام يذكر الأغنياء بالأكباد الجائعة، وفيه صحة للبدن وتزكية للنفوس، ومن أعظم الحكم الحكمة التي أشار إليها الرب سبحانه وتعالى في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، وليست (لعل) للترجي هنا، وإنما هي للتعليل، والمعنى: لكي تتقوا، أي: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لكي تتقوا، ولأجل أن تتقوا، وهذه الحكمة من أعظم الحكم، فالصيام سبب عظيم في تقوى الله عز وجل، وتقوى الله هي جماع الدين، فمن اتقى الله فقد وحد الله وأخلص له العبادة؛ لأن أصل التقوى توحيد الله وإخلاص الدين له.

    فهذه حكمة خاصة في الصيام، وهناك حكمة عامة في التشريع، وهي ابتلاء العباد واختبارهم؛ ليبلوهم سبحانه وتعالى أيهم أحسن عملاً، وليتبين المطيع من العاصي، والصادق من الكاذب، والمؤمن من الكافر، قال سبحانه: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:2]، وقال سبحانه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود:7] يعني: ليختبركم، فالتكليف اختبار للعباد، ليظهر ظهور عيان من يطيع ممن يعصي، وإلا فالله سبحانه وتعالى يعلم أحوال عباده لا يخفى عليه منهم شيء، لكن ليعلم علم ظهور، فيظهر في الواقع من يطيع ممن يعصي، ويظهر الصادق من الكاذب، والمؤمن من الكافر، ولذا قال: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:2]، ولم يقل: ليبلوكم أيكم أكثر عملاً فليست العبرة بالكثرة، وإنما العبرة بالإحسان والإتقان، ولهذا جاء في الأثر أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه ما فاق غيره بكثرة الصوم ولا بكثرة الصلاة، ولكن بما وقر في قلبه من الإيمان والتقوى والخشية والصدق، ولهذا جاء في الحديث: (لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان الأمة لرجح إيمان أبي بكر)، وهذا فيه الرد على المرجئة الذين يقولون: إن الناس يتساوون في الإيمان، وإن إيمان أهل السماء وأهل الأرض سواء، فأفجر الناس وأتقى الناس سواء عند المرجئة! وهذا من أبطل الباطل، بل الناس يتفاوتون في الإيمان تفاوتاً عظيماً.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم بين مقدار الصوم وأنه ليس في كل يوم؛ لئلا يشق على النفوس فتضعف عن حمله وأدائه، بل في أيام معدودات، وقد كان هذا في ابتداء الإسلام، يصومون من كل شهر ثلاثة أيام، ثم نسخ ذلك بصوم شهر رمضان، كما سيأتي بيانه، وقد روي أن الصيام كان أولاً كما كان عليه الأمم قبلنا من كل شهر ثلاثة أيام عن معاذ وابن مسعود وابن عباس وعطاء وقتادة والضحاك بن مزاحم ، وزاد: لم يزل هذا مشروعاً من زمان نوح إلى أن نسخ الله ذلك بصيام شهر رمضان.

    وقال عباد بن منصور عن الحسن البصري : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:183-184] فقال: نعم، والله لقد كُتب الصيام على كل أمة قد خلت كما كتبه علينا شهراً كاملاً وأياماً معدودات عدداً معلوماً.

    وروي عن السدي نحوه، وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي عبد الرحمن المقرئ : حدثني سعيد بن أبي أيوب حدثني عبد الله بن الوليد عن أبي الربيع -رجل من أهل المدينة- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم) في حديث طويل اختصر منه ذلك.

    وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عمن حدثه عن ابن عمر قال: أنزلت كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، كتب عليهم إذا صلى أحدهم العتمة ونام حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى مثلها ].

    هذا الأثر ضعيف؛ لأنه قال: (عمن حدثه)، ولا يعرف من حدثه ولا ما حاله، والقول بأن الصيام في الزمن السابق كان الواجب عليهم فيه صيام ثلاثة أيام من كل شهر ليس هناك ما يدل على أنه مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا يحتاج إلى دليل، والقول بأنه في أول الإسلام كان الواجب صيام ثلاثة أيام من كل شهر ثم نسخ الله ذلك بصيام شهر رمضان يحتاج إلى دليل، وهكذا القول بأن هذه الثلاثة الأيام هي الأيام المعدودات، والأصل أن الأيام المعدودات هي أيام الشهر، وهذا ظاهر الآية.

    فقوله: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ظاهر الآية أنها هي الشهر، والقول بأنها ثلاثة أيام من كل شهر يحتاج إلى دليل وهذه الأقوال الأقرب فيها أنها أخذت عن بني إسرائيل.

    قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): وأما قوله (كما) فاختلف في التشبيه الذي دلت عليه الكاف هل هو على الحقيقة فيكون صيام رمضان قد كُتب على الذين من قبلنا، أو المراد مطلق الصيام دون وقته وقدره، فيه قولان، وورد في أول حديث مرفوع عن ابن عمر أورده ابن أبي حاتم بإسناد فيه مجهول ولفظه: (صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم)، وبهذا قال الحسن البصري والسدي ، وله شاهد آخر أخرجه الترمذي من طريق معقل النسابة ، وهو من المخضرمين، ولم تثبت له صحبة، ونحوه عن الشعبي وقتادة .

    والقول الثاني أن التشبيه واقع على نفس الصوم، وهو قول الجمهور، وأسنده ابن أبي حاتم والطبري عن معاذ وابن مسعود وغيرهما من الصحابة والتابعين، وزاد الضحاك : (ولم يزل الصوم مشروعاً من زمن نوح) ا.ه.

    ظاهر الآية أن التشبيه في جنس الصيام، أما الحديث ففيه مجهول، لكن له شاهد.

    فينظر في الشاهد، والمجهول.

    فالمسألة فيها قولان للأئمة: الأول: التشبيه، وهو أن الأمم التي قبلنا فرض عليهم صيام شهر كشهر رمضان.

    والثاني: أن المراد جنس الصيام، وهذا هو قول الجمهور، وهو الأقرب.

    وأما حديث ابن أبي حاتم ففيه مجهول، وعلى هذا فهو ضعيف.

    وله شاهد آخر عند الترمذي من طريق معقل النسابة ، وهو من المخضرمين ولم تثبت له صحبة، وعلى هذا فهو تابعي، فيكون السند منقطعاً، فهو ضعيف.

    فالظاهر -والله أعلم- أن المراد التشبيه في جنس الصيام لا في كونه شهراً كاملاً، فجنس الصيام كتب على من قبلنا، أما العدد وكونه شهر رمضان فالظاهر أنه خاص بهذه الأمة، وأما الأمم السابقة فقد كتب الله عليهم الصيام، ولكن الله أعلم بعدده.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عمن حدثه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أنزلت كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كتب عليهم إذا صلى أحدهم العتمة ونام حرُم عليه الطعام والشراب والنساء إلى مثلها، قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عباس وأبي العالية وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومجاهد وسعيد بن جبير ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس وعطاء الخرساني نحو ذلك.

    وقال عطاء الخرساني عن ابن عباس : كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني بذلك أهل الكتاب، وروي عن الشعبي والسدي وعطاء الخرساني مثله ].

    بيان معنى قوله تعالى: (فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر)

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم بيّن حكم الصيام على ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام فقال: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184] ، أي: المريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسفر؛ لما في ذلك من المشقة عليهما، بل يفطران ويقضيان بعد ذلك من أيام أخر.

    وأما الصحيح المقيم الذي يطيق الصيام فقد كان مخيراً بين الصيام وبين الإطعام، إن شاء صام وإن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكيناً، فإن أطعم أكثر من مسكين عن كل يوم فهو خير، وإن صام فهو أفضل من الإطعام، قاله ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وطاوس ومقاتل بن حيان وغيرهم من السلف، ولهذا قال تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:184] ].

    هذا هو الطور الأول من أطوار مشروعية الصيام، ففي أول الإسلام كان الإنسان مخيراً بين الصيام وبين الإطعام، فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكيناً، والصوم أفضل، كما قال سبحانه: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ، ثم جاء الطور الثاني فأوجب الله الصوم على الصحيح المقيم القادر بقوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ، ولكن إذا صلى العشاء ونام فإنه يحرم عليه الطعام والشراب إلى الليلة القابلة.

    وشق ذلك على المسلمين مشقة عظيمة، وخوّن بعض الصحابة نفسه، وحصل لـصرمة قصة، وهي أنه كان يعمل في بستان له طيلة يومه وهو صائم، ثم لما غربت الشمس جاء إلى أهله فقال: هل عندكم طعام؟ فقالوا: لا، ثم ذهبت امرأته لتأتي له بطعام، فنام، فلما نام حرُم عليه الطعام، ثم استيقظ وصام اليوم الثاني، فلما كان في نصف النهار غشي عليه، فأنزل الله الرخصة: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ وفي آخرها: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]، فخفف الله ورخص الفطر من غروب الشمس إلى طلوع الفجر سواء أنام أم الإنسان لم ينم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088791445

    عدد مرات الحفظ

    779068237