لما ذكر تعالى حزب السعداء وهم الأنبياء عليهم السلام ومن اتبعهم من القائمين بحدود الله وأوامره، المؤدين فرائض الله التاركين لزواجره، ذكر أنه فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ[مريم:59] أي: قرون أخر، أَضَاعُوا الصَّلاةَ[مريم:59]، وإذا أضاعوها فهم لما سواها من الواجبات أضيع؛ لأنها عماد الدين وقوامه، وخير أعمال العباد، وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، فهؤلاء يَلْقَوْنَ غَيًّا[مريم:59] أي: خساراً يوم القيامة.
والصواب أنه يكفر، وهذا الذي عليه الأئمة كما ذكر المؤلف رحمه الله وهو إجماع الصحابة، كما نقل عبد الله بن شقيق العقيلي الصحابي الجليل إجماع الصحابة على كفر تارك الصلاة، ونقل ابن حزم وإسحاق بن راهويه الإجماع على كفر تارك الصلاة كسلاً أو تهاوناً.
ومن الأدلة على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري : (من ترك صلاة العصر حبط عمله) فمن ترك صلاة العصر بالكلية حتى خرج وقتها ولو فرضاً واحداً على القول الصحيح فقد حبط عمله، والذي يحبط عمله هو الكافر.
وقال آخرون من أهل العلم: لا يكفر إلا إذا ترك جميع الصلوات، أما إذا كان يصلي في بعض الأحيان ويترك في البعض الآخر، فهذا كفره كفر أصغر.
والصواب أنه يكفر بترك صلاة واحدة، إذا تركها متعمداً حتى خرج وقتها لا جاهلاً ولا ناسياً ولا متأولاً ولا نائماً نوماً يعذر فيه.
الأزقة هي: الأسواق، والمراد بقوله: عند قيام الساعة أي: عند قرب قيام الساعة، ويشير إلى ما ورد في الحديث أنه في آخر الزمان وفي قرب قيام الساعة تأتي ريح طيبة وباردة من جهة اليمن فتقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات، حتى لو كان المؤمن في كبد جبل لدخلت إليه حتى تقبضه، فلا يبقى على وجه الأرض إلا الكفرة، فيتناكحون في الأسواق وفي الشوارع مثل الحيوانات، فعليهم تقوم الساعة، فهؤلاء لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً ولا يعرفون التوحيد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله).
وهذا في آخر الزمان بعد علامات الساعة الكبرى، فيتمثل لهم الشيطان فيأمرهم بعبادة الأصنام والأوثان، وهم بذلك على أحسن حال في رزقهم وعيشهم فعليهم تقوم الساعة وهم يعملون، فلهم عقول لكن لا ينتفعون بها، ولهم آذان يسمعون بها في أمور دنياهم، ويبيعون ويشترون ويأكلون ويشربون ويغرسون، فتقوم الساعة وأحدهم يغرس الفسيلة قبل أن ينتهي من غرسها، وكذلك يرفع اللقمة فلا تصل إلى فمه حتى تقوم عليه الساعة، وتقوم الساعة والرجل يلوط الحوض لإبله، وتقوم الساعة والرجلان يتمادان في بيع القماش.
وفي قوله: (هذا حديث غريب) قال: ورواه الحاكم في المستدرك من طريق الحسن بن علي عن إبراهيم بن موسى به، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي بقوله: عبيد الله مختلف في توثيقه، ومالك لا أعرفه ثم هو منقطع ].
فهذا الحديث ضعيف لأنه منقطع، ومالك هذا يقول عنه الذهبي أنه لا يعرفه.
والحديث فيه نكارة وغرابة وهو أنها تبعث الصدقة لأهل الصفة، وتقول: لا تعطوا منه بربرياً ولا بربرية، لأن أهل الصفة ليس فيهم بربري ولا بربرية، ولو فرضنا أنهم فيهم فيكون مسلمين في المدينة، ولا يمكن أن يكونوا مع أهل الصفة وهم كفار.
ومن وجوه الغرابة فيه قصر إضاعة الصلاة على جنس بعينه، وليس في الكتاب ولا في السنة الصحيحة دليل على ذلك.
والعتمات جمع عتمة وهي صلاة العشاء، فكانوا يرقدون عنها، والغدوات جمع غداة وهي صلاة الفجر. فهؤلاء جمعوا شروراً كثيرة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال الحسن البصري : عطلوا المساجد ولزموا الضيعات ].
الضيعات هي الأموال والمزارع، فكانوا يشتغلون فيها ويضيعون الصلوات.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال أبو الأشهب العطاردي : أوحى الله تعالى إلى داود : يا داود! حذر وأنذر أصحابك أكل الشهوات، فإن القلوب المعلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة، وإن أهون ما أصنع بالعبد من عبيدي إذا آثر شهوة من شهواته عليَّ أن أحرمه طاعتي ].
هذا من أخبار بني إسرائيل، والراوي أبو أشهب العطاردي وبينه وبين داود عليه السلام دهور، وهذا الأثر قد يكون معناه صحيحاً.
أبو قبيل صدوق لكنه يهم قليلاً، من الثالثة، فلا بأس بسنده إن لم يكن فيه انقطاع.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللبن) كناية عن اتباع الشهوات في القرى، فيتوسعون في المزارع وغيرها، ويربون الإبل والبقر والغنم وينشغلون بذلك ويتركون الصلوات، والقرآن يتعلمه بعض الناس ويجادلون به المؤمنين.
هذا الحديث رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم منكر كما ذكر الحافظ رحمه الله تعالى، لكن قوله: إن قعرها خمسون خريفاً، فهذا موافق لما ثبت في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم سمع وجبة، يعني: صوتاً، فقال: (هذا حجر قذف به في جهنم منذ سبعين خريفاً أو أربعين خريفاً حتى بلغ قعرها) فالحديث السابق يحتاج إلى أن يراجع سنده لمعرفة رواته واتصال السند.
والغي هو الخسار والهلاك.
تفسير قوله تعالى: (إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً فأولئك يدخلون الجنة ...)
من فضل الله تعالى وإحسانه أن التوبة من جميع الذنوب والمعاصي تجب ما قبلها، إذا كانت توبة نصوحاً قبل بلوغ الروح الحلقوم وقبل طلوع الشمس من مغربها في آخر الزمان، بأن تكون توبة بإخلاص وصدق وإقلاع عن الذنب وندم وعزم صادق، ورد المظلمة إلى أهلها إن كانت بينه وبين الناس قبل الله توبته.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولهذا لا ينقص هؤلاء التائبون من أعمالهم التي عملوها شيئاً، ولا قوبلوا بما عملوه قبلها، فينقص لهم مما عملوه بعدها؛ لأن ذلك ذهب هدراً وترك نسياً وذهب مجاناً من كرم الكريم وحلم الحليم ].
قوله: لأن ذلك ذهب هدراً يعني: أن السيئة محيت ولا يقابل بشيء من الأعمال ولا يسقط شيء من الحسنات.