قال المؤلف رحمه الله تعالى: يقول تعالى: الجنات التي يدخلها التائبون من ذنوبهم هي جنات عدن، أي: جنات الإقامة التي وعد الرحمن عباده بظهر الغيب. أي هي من الغيب الذي يؤمنون به وما رأوه، وذلك لشدة إيقانهم وقوة إيمانهم.
استثناء منقطع؛ لأنه مستثنى من غير مستثنى منه، ويمثل النحاة لهذا مثل قولهم: قام القوم إلا حماراً، وقام الرجال إلا حماراً، هذا يسمى استثناءً منقطعاً، لأن المستثنى من غير جنس المستثنى منه.
قال: [ وقوله: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا[مريم:62] أي: في مثل وقت البكرات ووقت العشيات، لا أن هناك ليلاً ونهاراً، ولكنهم في أوقات تتعاقب يعرفون مضيها بأضواء وأنوار ].
قوله: يعني وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا[مريم:62] يعني: بمقدار وقت البكرة وبمقدار وقت العشي؛ لأن الجنة ليس فيها ليل ولا نهار، بل نهار مطرد، ولكن يعرفون مقدار البكرة والعشي بأنوار تظهر لهم تحت العرش تكون بمقدار وقت البكرة ومقدار وقت العشي. فقوله: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا[مريم:62] يعني: بمقدار وقت أول النهار وآخر النهار، يعرفون ذلك بأنوار تحت العرش، وإلا فليس في الجنة ليل بل نهار مطرد.
نسأل الله أن يجعلنا منهم، هؤلاء أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، أي: ليلة أربع عشرة أو خمس عشرة، لا يبولون ولا يتمخطون ولا يتغوطون ولا يموتون ولا يمرضون ولا يسقمون وليس عندهم هموم ولا أحزان، صحة دائمة وشباب دائم، وطهارة دائمة، وسعة صدر دائم، نزع الغل من نفوسهم بعدما اقتص بعضهم من بعض قبل دخول الجنة، قال الله تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ[الحجر:47].
لكل واحد منهم زوجتان، يعني: هذا عام لكل واحد، وليس في الجنة أعزب، ولكل واحد منهم زوجتان، يعني: سوى زوجته في الدنيا، فقد يكون الإنسان له زوجات كثيرة، لكن هذا بالنسبة للعموم كل واحد مهما كانت درجته له زوجتان، يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الصفاء، ويرى وجهه في صدرها كالمرآة، ويرى مخ ساقها من وراء الثياب.
نسأل الله الكريم من فضله، يسبحون الله بكرة وعشياً، يعني: بمقدار البكرة والعشي، وهذا التسبيح ليس تكليفاً وإنما هو نعيم يتنعمون به، يلهمون التسبيح والحمد كما يلهمون النفس، وكما أن الإنسان يتنفس ويتلذذ بالتنفس وهو راحة له، فكذلك أهل الجنة نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس، قال تعالى: دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ[يونس:10] فالجنة ليس فيها تكليف، لكن هذا نعيم يتنعمون به.
فالمؤمن إذا مات بقيت روحه في الجنة تتنعم، وروح الكافر تنقل وتقذف في النار، والجسد جرى له ما قدر له، والروح لها صلة بالجسد، فالشهداء تتنعم أرواحهم في الجنة بواسطة طير خضر؛ لأنهم بذلوا أجسادهم لله وأبلوها في سبيله، فعوضهم الله أجساداً أخرى تتنعم بواسطتها وهي حواصل طير خضر.
فيه منصور بن عمار ، قال في الجرح والتعديل: ليس بالقوي صاحب هوى.
وفيه نكارة من جهة المتن، كل غدوة تزف إلى الإنسان زوجة من الحور العين، والغدوات كثيرة إلى ما لا نهاية، وإن كان فضل الله واسعاً، لكن هذا يحتاج إلى ثبوت بالدليل الصحيح.
وغُدوة بالضم كالُبكرة أي: ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس، والغداة: تجمع على غدوات وغديات وغدايا وعشي، أي: لا يقال: غدايا إلا مع عشايا، وغدا عليه غدواً وغُدوة بالضم.
وهذه الآية كالتي في الضحى، وكذلك قال الضحاك بن مزاحم وقتادة والسدي وغير واحد أنها نزلت في احتباس جبرائيل.
وقال الحكم بن أبان عن عكرمة قال: أبطأ جبرائيل النزول على النبي صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً، ثم نزل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما نزلت حتى اشتقت إليك. فقال له جبريل: بل أنا كنت إليك أشوق ولكني مأمور، فأوحى الله إلى جبرائيل أن قل له: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ[مريم:64] رواه ابن أبي حاتم رحمه الله وهو غريب.
والبراجم: مفاصل الأصابع، وهي من الفطرة؛ لأنه جاء في الحديث (عشر من الفطرة) وذكر منها غسل البراجم، أي: مفاصل الأصابع. وتنقون يعني: تنظفون البراجم؛ لأن تنظيفها من الفطرة: (غسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وقص الشارب، وقص الأظفار) كل هذه من الفطرة.
إذاً لابد من النظافة لمقابلة الملائكة، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على الرائحة الطيبة ويكره الرائحة الكريهة، وفي بعض المرات امتنع من أكل بعض الخضروات التي لها رائحة كالكراث وغيره فامتنع أحد الصحابة فقال: (كل، فإني أناجي من لا تناجي)، يعني: أنا أناجي جبرائيل والملائكة، وهم يتأذون بالرائحة الكريهة كما يتأذى ابن آدم، ولهذا قال العلماء: إنه لا يدخل المسجد من أكل ما له رائحة كريهة ولو لم يكن فيه آدمي واحد لتأذي الملائكة بذلك، ولهذا قال له: (كل فإني أناجي من لا تناجي) فلا يأكل الشيء الذي فيه رائحة كريهة.
فإن له أمر الدنيا والآخرة سبحانه وتعالى، وهو مالك الدنيا والآخرة.
إذاً مالك الدنيا والآخرة هو الله سبحانه وتعالى، ومن هنا يتبين أن البوصيري في قصيدته التي غلا فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال:
فإن من جودك الدنيا وضرتها
فقد وقع في أمر عظيم وهو يخاطب النبي، والمعنى: من جودك يا محمد الدنيا والآخرة، فجعل الرسول يملك الدنيا والآخرة، ولم يبق لله شيئاً، والله تعالى يقول: لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا[مريم:64] فالله مالك الدنيا والآخرة، والرسول عليه الصلاة والسلام نبي كريم، وهذا غلو من البوصيري .
أما الصفات فإنها تثبت لله تفصيلاً، وهذه طريقة أهل السنة والجماعة، يثبتون الأسماء والصفات إثباتاً مفصلاً وينفون النقائص والعيوب عن الله نفياً مجملاً كما في هذه الآية: هََلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا[مريم:65].
بخلاف أهل البدع فإنهم يعكسون، فينفون النقائص نفياً مفصلاً ويثبتون إثباتاً مجملاً، فيقولون: إن الله ليس كذا وليس كذا وليس كذا وليس كذا فيعددون، فوقعوا في التنقص.
وأحياناً تأتي الآيات للرد على المشركين، مثل نفي الولد عن الله للرد على المشركين الذين نسبوا الولد لله، وإذا جاء تفصيل فإن الرد على المشركين في هذه النقيصة التي أثبتوها لله.