إسلام ويب

تفسير سورة طه [41-48]للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من حكمة الله وعدله أنه لا يعذب قوماً إلا بعد أن يرسل إليهم رسلاً؛ حتى تقام عليهم الحجة ولا يكون لهم عذر بعد ذلك، ومن ذلك أنه أرسل موسى وأخاه هارون إلى فرعون وقومه، وأمرهما بأن يلينا لفرعون لعله يتذكر ويستجيب لدعوة الله، فلما لم يستجب ولم يؤمن بآيات الله أنزل الله به بأسه وسطوته وانتقامه.
    قال الله تعالى: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي * اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:41-44].

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يقول تعالى مخاطباً لموسى عليه الصلاة والسلام: إنه لبث مقيماً في أهل مدين فاراً من فرعون وملئه يرعى على صهره ].

    أي: يرعى الغنم، وهذا حسب الاتفاق الذي كان بينه وبين صهره أنه يرعى الغنم ثماني سنين فيكون منه هذه المنفعة مهراً لزواجه.

    قوله: يرعى على صهره: الكلام مختصر، والمعنى: لأجل الاتفاق الذي حصل بينه وبينه.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حتى انتهت المدة، وانقضى الأجل، ثم جاء موافقا لقدر الله وإرادته من غير ميعاد، والأمر كله لله تبارك وتعالى، وهو المسير عباده وخلقه فيما يشاء، ولهذا قال: ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى [طه:40] ].

    في هذه الآية يقول الله تعالى: فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى [طه:40]، وهي دليل على إثبات القدر، وأن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأن كل ما يعمله العباد بقدر، جاء في الحديث: (كل شيء بقدر حتى العجز والكيس)، أي: حتى العجز والكسل الذي يصيب الإنسان والكيس والجد والنشاط كله بقدر، وكذلك كل شيء يعمله العباد، وكل شيء في هذا الوجود مما يعمله الناس، ومما يعمله الدواب والحيوانات والملائكة خلقهم وإيجادهم وذواتهم وصفاتهم وأفعالهم، وكل حركة وسكون في هذا الوجود وكل رطب ويابس هو مكتوب في اللوح المحفوظ.

    قال الله تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس:12]، والإمام المبين: هو اللوح المحفوظ، قال سبحانه: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ [الحج:70]، قال سبحانه: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22].

    ومن ذلك ما في هذه الآيات الكريمة من لبث موسى في مدين عشر سنين، ثم إرسال الله عز وجل له وإعطائه النبوة والرسالة، وإرساله إلى فرعون كل هذا بقدر؛ ولهذا قال سبحانه: فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى [طه:40]، ليس صدفة، ولا شيء مستحدث وجديد لم يكتب في الأجل، بل شيء مكتوب ومقدر.

    فالله تعالى علم أعمال العباد وأفعالهم وذواتهم وصفاتهم، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء).

    ولما سأل الصحابة رضوان الله عليهم: (قالوا: يا رسول الله! ما يعمله العباد أشيء فرغ منه؟ أم شيء يستقبلونه، فقال عليه الصلاة والسلام: لا بل فرغ منه، قالوا: يا رسول الله، ففيم العمل؟ - مادام مفروغ منه- قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فسييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فسييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10]) فهذا ميسر لليسرى وهذا ميسر للعسرى.

    وكل شيء من خير وشر.. من طاعات ومعاصي.. من حركة وسكون.. من ذوات وصفات.. كلها مقدرة ومكتوبة ولا يوجد شيء يخرج عن القدر.

    وهو قدر كوني وقدري، قال تعالى: فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى [طه:40]، فهو كوني لأن الله قدره، وهو شرعي لأن الله أرسل وقدر شرعاً، وأمرهم شرعاً بذلك.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ والأمر كله لله تبارك وتعالى، وهو المسير عباده وخلقه فيما يشاء، ولهذا قال: ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى [طه:40] ].

    كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [يونس:22]، هو المسير لعباده ومخيرهم، وقد يسأل بعض الناس ويقول: هل الإنسان مسير أو مخير؟ فنقول: الإنسان مسير ومخير جميعاً، قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [يونس:22]، وهذه كلمة مستحدثة ما كان الناس يعرفونها، لكن استحدثها بعض الناس وصاروا يسألون: هل الإنسان مسير أو مخير؟ فنقول: مسير ومخير، فهو مسير؛ لأن الله قدر كل شيء، ومخير؛ لأن العبد له قدرة واختيار ومشيئة، لكنها تابعة لمشيئة الله، كما قال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29].

    فالعبد له قدرة ومشيئة واختيار إلا أنها تابعة لمشيئة الله.

    فإن قيل: ما حكم إطلاق لفظ: صدفة عند اللقاء بغير ميعاد؟ قلنا: إذا كان مقصودك أنه بالنسبة لك فجائز، هذا بالنسبة بيني وبينك، وبين البشر بعضهم بعضاً. أما بالنسبة لله فلا يوجد شيء اسمه صدفة، بل كل شيء مقدر، فإذا قصد بالنسبة لله نقول: هذا باطل، أما بالنسبة للمخلوق أي: بيني وبينك تقول: صدفة، فجائز، لأني لا أعلم شيئاً، والمخلوق ضعيف ناقص، وأنت كذلك لا تعلم، وليس بيننا ميعاد، ولا اتفاق سابق فقابلتك صدفة.

    ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى [طه:40]؟

    أرسل الله موسى إلى فرعون على قدر بعدما لبث في مدين على قدر قدره الله قدراً وشرعاً.

    وموسى لا يعلم أنه سيعود، فبعد أن رعى الغنم عشر سنين وذهب بأهله في يوم بارد، وضل الطريق، فرأى ناراً عند جبل الطور وكان في يوم شات بارد وليلة مظلمة، ولا يجد من يدله على الطريق فقال لأهله: امكثوا في هذا المكان وسآتي هذه النار فإما أن أجد عندها أحداً يدلنا على الطريق، أو على الأقل نأخذ منها جذوة من النار نستدفئ بها من البرد، فلما جاء إلى الجبل نبأه الله وأرسله، وهو لا يعلم قبل ذلك، لكن الله أكرمه بالرسالة.

    ذكر احتجاج آدم وموسى

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ولهذا قال: ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى [طه:40]، قال مجاهد : أي على موعد، وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى [طه:40]، قال: على قدر الرسالة والنبوة ].

    فقدر الله أن الله يرسله وينبئه في هذا الوقت.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه:41]، أي: اصطفيتك واجتبيتك رسولاً لنفسي، أي: كما أريد وأشاء، وقال البخاري عند تفسيرها: حدثنا الصلت بن محمد قال: حدثنا مهدي بن ميمون قال: حدثنا محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (التقى آدم وموسى فقال موسى: أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة، فقال آدم: وأنت الذي اصطفاك الله برسالته واصطفاك لنفسه وأنزل عليك التوراة؟ قال: نعم، قال: فوجدته قد كتب علي قبل أن يخلقني قال: نعم. فحج آدم موسى)، أخرجاه ].

    أي: آدم حج موسى؛ لأن موسى إنما لام آدم على المصيبة التي لحقته وذريته بالإخراج من الجنة، فقال: أنت أشقيتنا وأشقيت نفسك وأخرجتنا من الجنة، فاحتج آدم بأن المصيبة مكتوبة عليه، قال: (أنت الذي اصطفاك الله برسالته)، وقوله: فوجدت ذلك أي: في التوراة مكتوب علي، وفي اللفظ الآخر: (قبل أن أخلق بأربعين سنة؟ قال: نعم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى).

    وفي لفظ أنه كرر هذا اللفظ ثلاث مرات: (حج آدم موسى، حج آدم موسى ..) أي: غلبه وخصمه بالحجة؛ لأن الاحتجاج بالقدر على المصيبة جائز، وليس المراد أنه لامه على الذنب؛ لأنه تاب من الذنب والتائب لا يلام، وإنما لامه موسى على المصيبة التي لحقته وذريته فاحتج آدم بأن المصيبة مكتوبة عليه، والاحتجاج بالقدر على المصائب جائز.

    ولا يجوز الاحتجاج بالقدر على الذنوب والمعاصي، فالقدر ليس بحجة للعصاة ولا للكفرة، ولو كان حجة لكان حجة لقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح الكفرة، والزاني لا يحتج على زناه بالقدر، ولما جاء السارق إلى عمر رضي الله عنه وقد سرق وأراد عمر أن يقطع يده احتج السارق بالقدر، وقال: مكتوب علي، أنا سرقت بقضاء الله وقدره، فقال: عمر رضي الله عنه: ونحن نقطع يدك بقضاء الله وقدره، فقطع يده.

    وهذا معنى قول أهل العلم: يحتج بالقدر على المصائب لا على المعائب، المعائب هي: الذنوب والمعاصي، والمقصود أن آدم غلب موسى بالحجة؛ لأنه احتج عليه بأن المصيبة مكتوبة عليه.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقوله: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي [طه:42]، أي: بحججي وبراهيني ومعجزاتي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي [طه:42]، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : لا تبطئا، وقال مجاهد عن ابن عباس : لا تضعفا، والمراد أنهما لا يفتران في ذكر الله بل يذكران الله في حال مواجهة فرعون ليكون ذكر الله عوناً لهما عليه، وقوة لهما وسلطاناً كاسراً له كما جاء في الحديث: (إن عبدي كل عبدي للذي يذكرني وهو مناجز قرنه) ].

    أي: وهو يقاتل عدوه، وقرنه: المقارن له، وقوله صلى الله عليه وسلم: (كل عبدي للذي يذكرني وهو مناجز قرنه)، أي: في الجهاد في سبيل الله، ويقاتل (قرنه)، أي: المكافئ له بالقوة والشجاعة، فالمجاهد في سبيل الله إذا كان يذكر الله ففضله عظيم، وهذا أفضل الأعمال، وأما ما جاء في الحديث: (ألا أخبركم بما هو أفضل من إنفاق الذهب والفضة ومن أن تلقوا عدوكم: تضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ ذكر الله)، قال العلماء: المراد: أفضل من الجهاد مع الغفلة، أما الجهاد مع الذكر كما في هذا الحديث: (إن عبدي كل عبدي للذي يذكرني وهو مناجز قرنه)، أي: العبد حقيقة الذي قام بمقام العبودية ووفاها حقها هو الذي يذكر الله وهو مناجز قرنه.

    وهذا الحديث رواه الترمذي في السنن من حديث عمارة بن زعكرة رضي الله عنه. وقال الترمذي هذا حديث غريب ولا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بالقوي.

    والحديث إسناده ضعيف، لكن معناه صحيح، فالذي يذكر الله وهو مناجز قرنه قد جمع بين عبادتين: الجهاد وذكر الله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088466055

    عدد مرات الحفظ

    776890059