قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يقول تعالى مخاطباً لموسى عليه الصلاة والسلام: إنه لبث مقيماً في أهل مدين فاراً من فرعون وملئه يرعى على صهره ].
أي: يرعى الغنم، وهذا حسب الاتفاق الذي كان بينه وبين صهره أنه يرعى الغنم ثماني سنين فيكون منه هذه المنفعة مهراً لزواجه.
قوله: يرعى على صهره: الكلام مختصر، والمعنى: لأجل الاتفاق الذي حصل بينه وبينه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حتى انتهت المدة، وانقضى الأجل، ثم جاء موافقا لقدر الله وإرادته من غير ميعاد، والأمر كله لله تبارك وتعالى، وهو المسير عباده وخلقه فيما يشاء، ولهذا قال: ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى [طه:40] ].
في هذه الآية يقول الله تعالى: فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى [طه:40]، وهي دليل على إثبات القدر، وأن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأن كل ما يعمله العباد بقدر، جاء في الحديث: (كل شيء بقدر حتى العجز والكيس)، أي: حتى العجز والكسل الذي يصيب الإنسان والكيس والجد والنشاط كله بقدر، وكذلك كل شيء يعمله العباد، وكل شيء في هذا الوجود مما يعمله الناس، ومما يعمله الدواب والحيوانات والملائكة خلقهم وإيجادهم وذواتهم وصفاتهم وأفعالهم، وكل حركة وسكون في هذا الوجود وكل رطب ويابس هو مكتوب في اللوح المحفوظ.
قال الله تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس:12]، والإمام المبين: هو اللوح المحفوظ، قال سبحانه: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ [الحج:70]، قال سبحانه: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22].
ومن ذلك ما في هذه الآيات الكريمة من لبث موسى في مدين عشر سنين، ثم إرسال الله عز وجل له وإعطائه النبوة والرسالة، وإرساله إلى فرعون كل هذا بقدر؛ ولهذا قال سبحانه: فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى [طه:40]، ليس صدفة، ولا شيء مستحدث وجديد لم يكتب في الأجل، بل شيء مكتوب ومقدر.
فالله تعالى علم أعمال العباد وأفعالهم وذواتهم وصفاتهم، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء).
ولما سأل الصحابة رضوان الله عليهم: (قالوا: يا رسول الله! ما يعمله العباد أشيء فرغ منه؟ أم شيء يستقبلونه، فقال عليه الصلاة والسلام: لا بل فرغ منه، قالوا: يا رسول الله، ففيم العمل؟ - مادام مفروغ منه- قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فسييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فسييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10]) فهذا ميسر لليسرى وهذا ميسر للعسرى.
وكل شيء من خير وشر.. من طاعات ومعاصي.. من حركة وسكون.. من ذوات وصفات.. كلها مقدرة ومكتوبة ولا يوجد شيء يخرج عن القدر.
وهو قدر كوني وقدري، قال تعالى: فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى [طه:40]، فهو كوني لأن الله قدره، وهو شرعي لأن الله أرسل وقدر شرعاً، وأمرهم شرعاً بذلك.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ والأمر كله لله تبارك وتعالى، وهو المسير عباده وخلقه فيما يشاء، ولهذا قال: ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى [طه:40] ].
كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [يونس:22]، هو المسير لعباده ومخيرهم، وقد يسأل بعض الناس ويقول: هل الإنسان مسير أو مخير؟ فنقول: الإنسان مسير ومخير جميعاً، قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [يونس:22]، وهذه كلمة مستحدثة ما كان الناس يعرفونها، لكن استحدثها بعض الناس وصاروا يسألون: هل الإنسان مسير أو مخير؟ فنقول: مسير ومخير، فهو مسير؛ لأن الله قدر كل شيء، ومخير؛ لأن العبد له قدرة واختيار ومشيئة، لكنها تابعة لمشيئة الله، كما قال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29].
فالعبد له قدرة ومشيئة واختيار إلا أنها تابعة لمشيئة الله.
فإن قيل: ما حكم إطلاق لفظ: صدفة عند اللقاء بغير ميعاد؟ قلنا: إذا كان مقصودك أنه بالنسبة لك فجائز، هذا بالنسبة بيني وبينك، وبين البشر بعضهم بعضاً. أما بالنسبة لله فلا يوجد شيء اسمه صدفة، بل كل شيء مقدر، فإذا قصد بالنسبة لله نقول: هذا باطل، أما بالنسبة للمخلوق أي: بيني وبينك تقول: صدفة، فجائز، لأني لا أعلم شيئاً، والمخلوق ضعيف ناقص، وأنت كذلك لا تعلم، وليس بيننا ميعاد، ولا اتفاق سابق فقابلتك صدفة.
ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى [طه:40]؟
أرسل الله موسى إلى فرعون على قدر بعدما لبث في مدين على قدر قدره الله قدراً وشرعاً.
وموسى لا يعلم أنه سيعود، فبعد أن رعى الغنم عشر سنين وذهب بأهله في يوم بارد، وضل الطريق، فرأى ناراً عند جبل الطور وكان في يوم شات بارد وليلة مظلمة، ولا يجد من يدله على الطريق فقال لأهله: امكثوا في هذا المكان وسآتي هذه النار فإما أن أجد عندها أحداً يدلنا على الطريق، أو على الأقل نأخذ منها جذوة من النار نستدفئ بها من البرد، فلما جاء إلى الجبل نبأه الله وأرسله، وهو لا يعلم قبل ذلك، لكن الله أكرمه بالرسالة.
فقدر الله أن الله يرسله وينبئه في هذا الوقت.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه:41]، أي: اصطفيتك واجتبيتك رسولاً لنفسي، أي: كما أريد وأشاء، وقال البخاري عند تفسيرها: حدثنا الصلت بن محمد قال: حدثنا مهدي بن ميمون قال: حدثنا محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (التقى آدم وموسى فقال موسى: أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة، فقال آدم: وأنت الذي اصطفاك الله برسالته واصطفاك لنفسه وأنزل عليك التوراة؟ قال: نعم، قال: فوجدته قد كتب علي قبل أن يخلقني قال: نعم. فحج آدم موسى)، أخرجاه ].
أي: آدم حج موسى؛ لأن موسى إنما لام آدم على المصيبة التي لحقته وذريته بالإخراج من الجنة، فقال: أنت أشقيتنا وأشقيت نفسك وأخرجتنا من الجنة، فاحتج آدم بأن المصيبة مكتوبة عليه، قال: (أنت الذي اصطفاك الله برسالته)، وقوله: فوجدت ذلك أي: في التوراة مكتوب علي، وفي اللفظ الآخر: (قبل أن أخلق بأربعين سنة؟ قال: نعم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى).
وفي لفظ أنه كرر هذا اللفظ ثلاث مرات: (حج آدم موسى، حج آدم موسى ..) أي: غلبه وخصمه بالحجة؛ لأن الاحتجاج بالقدر على المصيبة جائز، وليس المراد أنه لامه على الذنب؛ لأنه تاب من الذنب والتائب لا يلام، وإنما لامه موسى على المصيبة التي لحقته وذريته فاحتج آدم بأن المصيبة مكتوبة عليه، والاحتجاج بالقدر على المصائب جائز.
ولا يجوز الاحتجاج بالقدر على الذنوب والمعاصي، فالقدر ليس بحجة للعصاة ولا للكفرة، ولو كان حجة لكان حجة لقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح الكفرة، والزاني لا يحتج على زناه بالقدر، ولما جاء السارق إلى عمر رضي الله عنه وقد سرق وأراد عمر أن يقطع يده احتج السارق بالقدر، وقال: مكتوب علي، أنا سرقت بقضاء الله وقدره، فقال: عمر رضي الله عنه: ونحن نقطع يدك بقضاء الله وقدره، فقطع يده.
وهذا معنى قول أهل العلم: يحتج بالقدر على المصائب لا على المعائب، المعائب هي: الذنوب والمعاصي، والمقصود أن آدم غلب موسى بالحجة؛ لأنه احتج عليه بأن المصيبة مكتوبة عليه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقوله: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي [طه:42]، أي: بحججي وبراهيني ومعجزاتي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي [طه:42]، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : لا تبطئا، وقال مجاهد عن ابن عباس : لا تضعفا، والمراد أنهما لا يفتران في ذكر الله بل يذكران الله في حال مواجهة فرعون ليكون ذكر الله عوناً لهما عليه، وقوة لهما وسلطاناً كاسراً له كما جاء في الحديث: (إن عبدي كل عبدي للذي يذكرني وهو مناجز قرنه) ].
أي: وهو يقاتل عدوه، وقرنه: المقارن له، وقوله صلى الله عليه وسلم: (كل عبدي للذي يذكرني وهو مناجز قرنه)، أي: في الجهاد في سبيل الله، ويقاتل (قرنه)، أي: المكافئ له بالقوة والشجاعة، فالمجاهد في سبيل الله إذا كان يذكر الله ففضله عظيم، وهذا أفضل الأعمال، وأما ما جاء في الحديث: (ألا أخبركم بما هو أفضل من إنفاق الذهب والفضة ومن أن تلقوا عدوكم: تضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ ذكر الله)، قال العلماء: المراد: أفضل من الجهاد مع الغفلة، أما الجهاد مع الذكر كما في هذا الحديث: (إن عبدي كل عبدي للذي يذكرني وهو مناجز قرنه)، أي: العبد حقيقة الذي قام بمقام العبودية ووفاها حقها هو الذي يذكر الله وهو مناجز قرنه.
وهذا الحديث رواه الترمذي في السنن من حديث عمارة بن زعكرة رضي الله عنه. وقال الترمذي هذا حديث غريب ولا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بالقوي.
والحديث إسناده ضعيف، لكن معناه صحيح، فالذي يذكر الله وهو مناجز قرنه قد جمع بين عبادتين: الجهاد وذكر الله.
قال الله تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين، كما قال يزيد الرقاشي عند قوله: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا ،
يا من يتحبب إلى من يعاديه، فكيف بمن يتولاه ويناديه.
وقال وهب بن منبه : قولا له إني إلى العفو والمغفرة أقرب مني إلى الغضب والعقوبة. وعن عكرمة في قوله: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا [طه:44]، قال: لا إله إلا الله، وقال عمرو بن عبيد عن الحسن البصري : فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا [طه:44] اعذرا إليه، قولا له: إن لك رباً ولك معاداً، وإن بين يديك جنة وناراً.
وقال بقية عن علي بن هارون عن رجل عن الضحاك بن مزاحم عن النزال بن سبرة عن علي في قوله: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا [طه:44]، قال: كنّه، وكذا روي عن سفيان الثوري : كنّه بـأبي مرة ].
فهذه كنية فرعون على ما جاء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والحاصل من أقوالهم أن دعوتهما له تكون بكلام رقيق لين سهل رفيق، ليكون أوقع في النفوس وأبلغ وأنجع، كما قال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125].
وقوله: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]، أي: لعله يرجع عما هو فيه من الضلال والهلكة، أو يخشى أي: يوجد طاعة من خشية ربه كما قال تعالى: (لمن أراد أن يذكر أو يخشى) ، فالتذكر: الرجوع عن المحذور والخشية: تحصيل الطاعة، وقال الحسن البصري في قوله: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]، يقول: لا تقل -أنت يا موسى وأخوك هارون- أهلكه قبل أن أعذر إليه ].
أن أعذر إليه يعني: قبل أن يذهب عذرك فتقيم عليه الحجة ولا يكون له عذر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهاهنا نذكر شعر زيد بن عمرو بن نفيل ويروى لـأمية بن أبي الصلت فيما ذكره ابن إسحاق :
وأنت الذي من فضل منّ ورحمة بعثت إلى موسى رسولاً منادياً .
يخاطب الرب سبحانه وتعالى، والمقصود بقوله: بعثت إلى موسى أي: الوحي.
قال: [ فقلت له فاذهب وهارون فادعوا إلى الله فرعون الذي كان باغيا
فقولا له هل أنت سويت هذه بلا وتد حتى استقلت كما هيا ].
يعني: الأرض.
قال: [ وقولا له :أأنت رفعت هذه بلا عمد أرفق إذاً بك بانيا ].
يعني: السماء فذكر الأرض بلا وتد، والسماء بلا عمد.
قال: [ وقولا له: أأنت سويت وسطها منيراً إذا ما جنه الليل هاديا
وقولا له: من يخرج الشمس بكرة فيصبح ما مست من الأرض ضاحيا
وقولا له من ينبت الحب في الثرى فيصبح منه البقل يهتز رابيا
ويخرج منه حبة في رءوسه ففي ذاك آيات لمن كان واعيا ].
لمن كان واعيا، أي: لمن يتذكرو كان عنده وعي.
وقوله: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]، قيل: معنى (لعل) في هذا الموضع الاستفهام فكأنهم وجهوا معنى الكلام إلى: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا فانظرا هل يتذكر ويرجع أو يخشى الله فيرتدع عن طغيانه.
يقول تعالى إخباراً عن موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام: إنهما قالا متسجيرين بالله تعالى شاكيين إليه: إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى [طه:45] يعنيان: أن يبدر إليهما بعقوبة أو يعتدي عليهما فيعاقبهما وهما لا يستحقان منه ذلك.
قال عبد الرحمن بن زيد : أن يفرط: يعجل، وقال مجاهد : يبسط علينا، وقال الضحاك عن ابن عباس : أَوْ أَنْ يَطْغَى يعتدي.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أي: لا تخافا منه فإنني معكما أسمع كلامكما وكلامه، وأرى مكانكما ومكانه، لا يخفى علي من أمركم شيء، واعلما أن ناصيته بيدي فلا يتكلم ولا يتنفس ولا يبطش إلا بإذني وبعد أمري، وأنا معكما بحفظي ونصري وتأييدي ].
قوله: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، يعني: بنصره وتأييده، وهذه معية خاصة، وهو سبحانه بذاته فوق العرش، والعرش هو سقف المخلوقات وتنتهي المخلوقات إليه، والله فوق العرش بعد نهاية المخلوقات، وهو مع الناس والخلق جميعاً باطلاعه وإحاطته ونفوذ سمعه وبصره، ونفوذ قدرته ومشيئته، وهو مع أنبيائه ورسله ومع المؤمنين بنصره وعونه وتأييده.
إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، يعني: أكلؤكما وأحفظكما وأعينكما، وهذه خاصة بموسى وهارون.
وجاءت المعية العامة في قوله: إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ [الشعراء:15]، وهنا دخل في الخطاب فرعون معهم، يعني: أسمع كلامكم وأرى مكانكم، تنفذ فيكم قدرتي ومشيئتي، فالمعية العامة تأتي في سياق التخويف والجزاء والتهديد، والمعية الخاصة تأتي في سياق المدح والثناء.
والله تعالى في جميع الأزمان حي لا يموت.
أما القول أن الله في كل مكان فهذا باطل وهو كفر وضلال، وهذا قول الجهمية والاتحادية والملاحدة الحلولية الذين قالوا: إنه موجود في أجواف وبطون السباع والطيور -تعالى الله عما يقولون- وهذا كفر وضلال، فالله تعالى بذاته فوق العرش وعلمه في كل مكان وهو محيط بالخلق، تنفذ فيهم قدرته ومشيئته، ونواصيهم بيده، ولا يتحركون ولا يفعلون أي فعل إلا بقدرته ومشيئته وإرادته، وهو ليس موجوداً بذاته مع المخلوقين.
ومن قال إنه في كل مكان فهو كافر وهذا اعتقاد كفري، لكن الشخص لا يكفر إلا إذا قامت عليه الحجة، وليس له شبهة كما قال كثير من السلف، منهم أحمد والبخاري وغيرهما، فمن قال: إن الله في كل مكان فقد كفر، أما إذا كان له شبهة فيزال يبين له أن هذا كفر وضلال، فإن أصر بعد البيان فقد كفر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، قال حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله قال: لما بعث الله عز وجل موسى إلى فرعون قال: رب! أي شيء أقول؟ قال: قل هيا شراهيا ].
وهذا باللغة العبرية؛ قال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ [إبراهيم:4]، لكن أبو عبيدة ما سمع من عبد الله بن مسعود ، فيكون منقطعاً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال الأعمش : فسر ذلك: الحي قبل كل شيء والحي بعد كل شيء، إسناده جيد، وشيء غريب ].
والجيد معناه المنقطع.
وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود مشهور بكنيته، والأشهر أنه لا اسم له غير هذا، ويقال اسمه عامر وهو كوفي، ثقة، والراجح أنه لا يصح سماعه من أبيه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قد تقدم في حديث الفتون عن ابن عباس أنه قال: مكثا على بابه حيناً لا يؤذن لهما، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد.
وذكر محمد بن إسحاق بن يسار أن موسى وأخاه هارون خرجا فوقفا بباب فرعون يلتمسان الإذن عليه وهما يقولان: إنا رسولا رب العالمين ].
ويصح أن يقال: إنا رسل، فيطلق الجمع على المثنى، والأحسن أن يقال: إنا رسولا كما جاء في الآية: إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ [طه:47].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فآذنوا بنا هذا الرجل، فمكثا فيما بلغني سنتين يغدوان ويروحان لا يعلم بهما ولا يجترئ أحد على أن يخبره بشأنهما ].
وهذا منقطع؛ لأنه يقول: فيما بلغني. وهذا من أخبار بني إسرائيل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حتى دخل عليه بطال له يلاعبه ويضحكه، فقال له: أيها الملك! إن على بابك رجلاً يقول قولاً عجيباً، يزعم أن له إلها غيرك أرسله إليك، قال: ببابي؟ قال: نعم، قال: أدخلوه، فدخل ومعه أخوه هارون وفي يده عصاه، فلما وقف على فرعون، قال: إني رسول رب العالمين، فعرفه فرعون، وذكر السدي أنه لما قدم بلاد مصر ضاف أمه وأخاه وهما لا يعرفانه ].
ومعنى: ضاف أي: استضاف، وصارا ضيفان عنده.
قال المؤلف رحمه الله: [ وكان طعامهما ليلتئذ الطفيل وهو اللفت، ثم عرفاه وسلما عليه، فقال له موسى: يا هارون! إن ربي قد أمرني أن آتي هذا الرجل فرعون فأدعوه إلى الله وأمرك أن تعاونني ].
أي: أن هارون لازال في مصر عند أمه، وموسى هو الذي ذهب إلى مدين ونبأه الله وأرسله إلى فرعون، فجاء موسى فضاف أخاه هارون وأمه ثم نبأ الله هارون معه على هذا القول، والله أعلم فهذا من أخبار بني إسرائيل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال: افعل ما أمرك ربك، فذهبا وكان ذلك ليلاً، فضرب موسى باب القصر بعصاه فسمع فرعون فغضب، وقال: من يجتريء على هذا الصنيع؟ فأخبره السدنة والبوابون بأن هاهنا رجلاً مجنوناً يقول: إنه رسول الله، فقال: علي به، فلما وقفا بين يديه قالا، وقال لهما ما ذكر الله في كتابه.
وقوله: قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ [طه:47]، أي: بدلالة ومعجزة من ربك، وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى [طه:47]، أي: والسلام عليك إن اتبعت الهدى، ولهذا لما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم كتاباً كان أوله: (بسم الله الرحمن الرحمن من محمد رسول الله إلى
يقصد الرسالة والنبوة، ومعنى أشركت: أي صرت رسولاً مثلك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أما بعد: فإني قد أشركت في الأمر معك، فلك المدر ولي الوبر ].
والوبر هي بيوت الشعر، والمعنى: فلي بيوت الشعر أي: البوادي، ولك المدر أي: البيوت المصنوعة من الطين، ويقصد الحاضرة، فنقتسم الناس إلى قسمين، فلك أهل الحضر وأهل القرى المبنية من الطين، ولي أهل بيوت الوبر والشعر وهي الخيام، وأهلها هم البدو.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولكن قريشاً قوم يعتدون، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من محمد رسول الله إلى
فكتاب مسيلمة هذا فيه كتاب يغلب عليه صفة الغصب والاقتسام وطلب الدنيا.
والشاهد قوله: (سلام على من اتبع الهدى)، فالمسلم عندما يريد أن يرد التحية على الكافر يقول: السلام على من اتبع الهدى، وإذا كان مسلم يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فكتاب المشركين والكفرة واليهود والنصارى يذكر السلام على من اتبع الهدى ولا يسلم عليه، ولكتاب المسلمين: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وأهل الكتاب لا يبدءون بالسلام لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام)، لكن إذا سلموا يقال: وعليكم، فقد جاء في الحديث: (إذا سلم عليكم اليهود، فقولوا: وعليكم)، يعني: ترد تحيتهم بقولك وعليكم، فقد كان اليهود يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: وعليكم، وكانوا يقولون: السام عليك يعني: الموت، فيرد عليهم بقوله: وعليكم، وقد سمعت عائشة هذا يوماً فقالت: (وعليكم السام واللعنة، فقال النبي: يا
وإذا قال قائل: هل أرد على الرافضة وهم يعدون كفرة، فالجواب: إذا عرفت أنهم رافضة حقيقة وأنهم يكفرون الصحابة أو يفسقونهم أو يعبدون آل البيت فتقول: وعليكم. فهم منافقون وزنادقة، لكن من لم يظهر بدعته فالأصل أنه مسلم فترد عليه كما كان يفعل المسلمون مع عبد الله بن أبي وإذا اختلط عليك الأمر ولم تعرف أنه شيعي أو مسلم فالأصل أنهم مسلمون فبلدهم بلد إسلامي.
ولا يجوز السلام بالإشارة فهي من عادات اليهود والنصارى، لكن إذا كان المسلم بعيداً فتسلم وتشير إليه حتى ينتبه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولهذا قال موسى وهارون عليهما السلام لفرعون: وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه:47-48]، أي: قد أخبرنا الله فيما أوحاه إلينا من الوحي المعصوم أن العذاب متمحض لمن كذب بآيات الله وتولى عن طاعته، كما قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:37-39]، وقال تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل:14-16]، وقال تعالى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة:31-32]، أي: كذب بقلبه وتولى بفعله ].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر