يمتن الله تعالى على عباده بإنعامه عليهم بجملة عظيمة من النعم، ومنها: إنزال الماء على الأرض فتخضر به إنباتاً وإزهاراً، وإمساك السماء عن الوقوع على الأرض لكيلا يهلك أهلها، وإجراء الفلك في البحر لتحصيل منافع العباد، وإحياؤهم من بعد الموت والعدم، وفي معرض ذلك يبين تعالى كفر الإنسان لنعم الله تعالى عليه، ومن كفره منازعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، ورده الدلائل القرآنية حين تتلى، وبسط يده بالسوء إلى أولياء الله.
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فتصبح الأرض مخضرة...)
وقد ثبت في الصحيحين أن بين كل شيئين أربعين يوماً، ومع هذا هو معقب بالفاء، وهكذا هاهنا قال: فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً[الحج:63]، أي: خضراء بعد يبسها ومحولها ].
أي: بعد أن كانت الأرض يابسة ممحلة تصبح مخضرة، وهذا دليل على إحياء الله الموتى، وكثيراً ما يدلل سبحانه وتعالى على إحياء الموتى بإحياء الأرض بالنبات بعد يبسها ومحولها، وذلك بأن ينزل الله عليها الماء فتنبت وتصير خضراء، فكذلك الأموات يحييهم الله بعد أن كانوا أمواتاً، فيعيد الحياة إليهم؛ لأنه سبحانه وتعالى قدير، وهو قادر على أن يعيدهم من الذرات التي تحولوا إليها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد ذكر عن بعض أهل الحجاز أنها تصبح عقب المطر خضراء، فالله أعلم ].
يعني أن تسخير الفلك في البحر هو جعلها تجري بالريح الطيبة، وتمخر عباب الماء، وتحمل البضائع والأمتعة والأشخاص إلى الأماكن البعيدة، ولا سيما في هذا الزمن الذي صارت فيه المراكب والباخرات العظيمة كأنها قرية أو بلدة، فيحصل الانتفاع والتبادل، فهذا من آيات الله العظيمة الدالة على قدرته ووحدانيته واستحقاقه للعبادة.
قوله تعالى: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ[غافر:11]، يعني: حصل لهم موتتان وحياتان: أما الموتة الأولى فحين كانوا عدماً في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم، ثم أحياهم الله فعاشوا في الدنيا، وأما الموتة الثانية فهي التي كتبها الله عليهم، ثم يحييهم في الآخرة، فهما موتتان وحياتان.
تفسير قوله تعالى: (لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه...)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يخبر تعالى أنه جعل لكل قوم منسكاً، قال ابن جرير : يعني: لكل أمة نبي منسكاً. قال: وأصل المنسك في كلام العرب: هو الموضع الذي يعتاده الإنسان ويتردد إليه إما لخير أو شر، قال: ولهذا سميت مناسك الحج بذلك؛ لترداد الناس إليها وعكوفهم عليها.
هذه الآية فيها إثبات مرتبتين من مراتب القدر لا بد من الإيمان بهما، ومن لم يؤمن بهما فليس بمؤمن:
المرتبة الأولى: العلم الشامل لكل شيء في هذا الوجود، وأن الله يعلم ما كان في الماضي، وما يكون في الحال، وفي المستقبل، وما لم يكن لو كان كيف يكون، كما قال سبحانه: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ[الأنعام:28]، يعني: يعلم حالهم لو ردوا، لكنهم لا يردون.
ولما أنكرت القدرية الأولى هاتين المرتبتين: العلم والكتابة، أخرجهم العلماء من الثنتين والسبعين فرقة، وقالوا: إنهم كفار؛ لأن من لم يؤمن بعلم الله فقد نسب الله إلى الجهل.
وأما عامة المتأخرين من القدرية فأثبتوا هاتين المرتبتين -العلم والكتابة- لكن أنكروا المرتبتين الأخريين، وهما: الإرادة والخلق، فلم يقولوا بعموم الإرادة وبعموم الخلق، بل قالوا: إن الله أراد كل شيء، وخلق كل شيء إلا أفعال العباد، فاستثنوها بسبب شبهة حصلت لهم، فصاروا مبتدعة.
بيان سعة علم الله تعالى
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا ابن بكير حدثني عطاء بن دينار حدثني سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس : خلق الله اللوح المحفوظ كمسيرة مائة عام، وقال للقلم قبل أن يخلق الخلق، وهو على العرش تبارك وتعالى: اكتب، فقال القلم: وما أكتب؟ قال: علمي في خلقي إلى يوم الساعة. فجرى القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة؟ فذلك قوله للنبي صلى الله عليه وسلم: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ[الحج:70]. وهذا من تمام علمه تعالى، أنه علم الأشياء قبل كونها وقدرها وكتبها أيضاً، فما العباد عاملون قد علمه تعالى قبل ذلك على الوجه الذي يفعلونه، فيعلم قبل الخلق أن هذا يطيع باختياره، وهذا يعصي باختياره، وكتب ذلك عنده، وأحاط بكل شيء علماً، وهو سهل عليه يسير لديه، ولهذا قال تعالى: إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ[الحج:70] ].
وهي حجة فرعون عندما قال لموسى: فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى[طه:51]، فاتباع السابقين في الباطل ليس بحجة، وإنما الواجب على الإنسان أن يتبع الدليل والحجة، أما أن يتبع غيره في الباطل فهذا لا يجوز، ولو كان أباه أو جده أو سلفه، ولكن إن كان الأسلاف على الحق فإنه يتبع الحق، ويقتدي بهم في أعمالهم الطيبة، وإن كانوا على الباطل ترك ما هم عليه، ولو كانوا آباء وأجداداً.
فلا عمل بالنسبة للعبادات إلا بدليل من الكتاب أو من السنة، وقد يكون الدليل قياساً؛ لأن القياس يرجع إلى أصل مأخوذ من دليل من الكتاب أو السنة، وكذلك الإجماع هو مستند إلى نص من الكتاب أو السنة، والقياس الصحيح يرجع إلى النصوص؛ لأنه مبني على النصوص.
أما المعاملات في البيوع والمأكولات فالأصل فيها الإباحة والحل، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا[البقرة:29]، فهذا دليل على أن الأصل في الأشياء الحل، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ[البقرة:172]، وهذا دليل على أن الأصل في المآكل والمشارب والملابس والبيوع الحل، أما الذبائح فالأصل فيها التحريم، فإذا أشكل عليك شيء في ذبيحة فإنك تتوقف حتى يأتيك الدليل، وكذلك الأبضاع أي: الفروج فالأصل فيها التحريم حتى يأتي الدليل.