إسلام ويب

تفسير سورة الحج [63-72]للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يمتن الله تعالى على عباده بإنعامه عليهم بجملة عظيمة من النعم، ومنها: إنزال الماء على الأرض فتخضر به إنباتاً وإزهاراً، وإمساك السماء عن الوقوع على الأرض لكيلا يهلك أهلها، وإجراء الفلك في البحر لتحصيل منافع العباد، وإحياؤهم من بعد الموت والعدم، وفي معرض ذلك يبين تعالى كفر الإنسان لنعم الله تعالى عليه، ومن كفره منازعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، ورده الدلائل القرآنية حين تتلى، وبسط يده بالسوء إلى أولياء الله.
    قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ [الحج:63-66].

    بيان قدرة الله سبحانه وتعالى

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهذا -أيضاً- من الدلالة على قدرته وعظيم سلطانه، وأنه يرسل الرياح فتثير سحاباً، فتمطر على الأرض الجرز التي لا نبات فيها وهي هامدة يابسة سوداء ممحلة، فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [الحج:5]، وقوله جل وعلا: فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [الحج:63] الفاء هاهنا للتعقيب، وتعقيب كل شيء بحسبه، كما قال تعالى: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً [المؤمنون:14]، الآية.

    وقد ثبت في الصحيحين أن بين كل شيئين أربعين يوماً، ومع هذا هو معقب بالفاء، وهكذا هاهنا قال: فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً [الحج:63]، أي: خضراء بعد يبسها ومحولها ].

    أي: بعد أن كانت الأرض يابسة ممحلة تصبح مخضرة، وهذا دليل على إحياء الله الموتى، وكثيراً ما يدلل سبحانه وتعالى على إحياء الموتى بإحياء الأرض بالنبات بعد يبسها ومحولها، وذلك بأن ينزل الله عليها الماء فتنبت وتصير خضراء، فكذلك الأموات يحييهم الله بعد أن كانوا أمواتاً، فيعيد الحياة إليهم؛ لأنه سبحانه وتعالى قدير، وهو قادر على أن يعيدهم من الذرات التي تحولوا إليها.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد ذكر عن بعض أهل الحجاز أنها تصبح عقب المطر خضراء، فالله أعلم ].

    فالفاء للتعقيب في قوله تعالى: (فتصبح)، يعني: إذا نزل الماء فإنه يعقبه اخضرار الأرض، وهذا التعقيب قد يطول وقد يقصر، مثل قوله تعالى: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا [المؤمنون:14] فبين كل طور وطور أربعون يوماً، فالنطفة تكون أربعين يوماً، ثم تكون العلقة أربعين يوماً، ثم تكون المضغة أربعين يوماً، واخضرار الأرض قد يكون في أقل من هذه المدة.

    بيان معنى قوله تعالى: (إن الله لطيف خبير)

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [الحج:63] أي: عليم بما في أرجاء الأرض وأقطارها وأجزائها من الحب وإن صغر، لا يخفى عليه خافية، فيوصل إلى كل منه قسطه من الماء فينبته به، كما قال لقمان : يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان:16]، وقال: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النمل:25]، وقال تعالى: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59].

    وقال: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس:61]، ولهذا قال أمية بن أبي الصلت أو زيد بن عمرو بن نفيل في قصيدته:

    وقولا له من ينبت الحب في الثرى فيصبح منه البقل يهتز رابيا

    ويخرج منه حبه في رءوسه ففي ذاك آيات لمن كان واعيا ].

    إثبات ملك الله لجميع الأشياء وغناه عما سواه

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [الحج:64]، أي: ملكه جميع الأشياء، وهو غني عما سواه، وكل شيء فقير إليه عبد لديه ].

    فكل شيء يأتي عبداً يوم القيامة، كما قال تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:93]، فكل شيء يأتي عبداً يوم القيامة مقهوراً ذليلاً خاضعاً، تنفذ فيه قدرة الله ومشيئته، لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً.

    امتنان الله تعالى على خلقه بتسخير ما في السماوات والأرض لهم

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله جل وعلا: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ [الحج:65]، أي: من حيوان وجماد وزروع وثمار، كما قال: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13]، أي: من إحسانه وفضله وامتنانه، وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ [الحج:65]، أي: بتسخيره وتسييره، أي: في البحر العجاج وتلاطم الأمواج تجري الفلك بأهلها بريح طيبة ورفق وتؤدة، فيحملون فيها ما شاءوا من تجائر وبضائع ومنافع من بلد إلى بلد وقطر إلى قطر، ويأتون بما عند أولئك إلى هؤلاء كما ذهبوا بما عند هؤلاء إلى أولئك، مما يحتاجون إليه ويطلبونه ويريدونه ].

    يعني أن تسخير الفلك في البحر هو جعلها تجري بالريح الطيبة، وتمخر عباب الماء، وتحمل البضائع والأمتعة والأشخاص إلى الأماكن البعيدة، ولا سيما في هذا الزمن الذي صارت فيه المراكب والباخرات العظيمة كأنها قرية أو بلدة، فيحصل الانتفاع والتبادل، فهذا من آيات الله العظيمة الدالة على قدرته ووحدانيته واستحقاقه للعبادة.

    بيان لطف الله عز وجل ورحمته بعباده

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الحج:65]، أي: لو شاء لأذن للسماء فسقطت على الأرض فهلك من فيها، ولكن من لطفه ورحمته وقدرته يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، ولهذا قال: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحج:65]، أي: مع ظلمهم، كما قال في الآية الأخرى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ [الرعد:6]، وقوله: وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ [الحج:66]، كقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:28]، وقوله: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [الجاثية:26]، وقوله: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [غافر:11]، ومعنى الكلام: كيف تجعلون لله أنداداً وتعبدون معه غيره، وهو المستقل بالخلق والرزق والتصرف؟!

    وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ [الحج:66]، أي: خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئًا يذكر، فأوجدكم، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [الحج:66]، أي: يوم القيامة، إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ [الحج:66]، أي: جحود ].

    قوله تعالى: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [غافر:11]، يعني: حصل لهم موتتان وحياتان: أما الموتة الأولى فحين كانوا عدماً في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم، ثم أحياهم الله فعاشوا في الدنيا، وأما الموتة الثانية فهي التي كتبها الله عليهم، ثم يحييهم في الآخرة، فهما موتتان وحياتان.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088525761

    عدد مرات الحفظ

    777130300