بين النبي صلى الله عليه وسلم هديين من فعله وقوله يتعلق بهما وضوء المؤمن:
الهدي الأول: الاقتصاد في الوضوء، وعدم التبذير بالماء.
الهدي الثاني: غسل الكفين ثلاثاً عند الشروع في الوضوء، وهذا أمر إرشادي يتعلق بالنظافة والطهارة قد تتبين لنا حكمته وقد لا تتبين، فعلى المسلم السمع والطاعة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب: الإسراف في الوضوء.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا سعيد الجريري عن أبي نعامة : أن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال: أي بني! سل الله الجنة، وتعوذ به من النار؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء) ].
والاعتداء في الدعاء: أن يكون السؤال فيه تعنت، وسؤال ما لا يليق به أن يسأله، والسؤال بإثم أو قطيعة رحم، أو كأن يسأل منازل الأنبياء، هذا من الاعتداء، قال عز وجل:
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ
[الأعراف:55]، وهذا من الاعتداء، وكقوله: اللهم إني أسألك القصر الأبيض إذا دخلت الجنة، هذا أيضاً من الاعتداء؛ ولهذا أنكر عليه عبد الله بن مغفل رضي الله عنه، وقال: (سل الله الجنة، واستعذ به من النار)، وإذا دخلت الجنة حصلت على كل خير، فمن دخل الجنة فله الكرامة وله النعيم.
فلا ينبغي للإنسان أن يعتدي فيقول: أسألك كذا وكذا، أو أسألك منازل الأنبياء، هذا اعتداء وعدوان، أو يدعو بإثم أو قطيعة رحم، هذا من العدوان.
وكذلك الاعتداء في الطهور في الإسراف، ومجاوزة الثلاث في غسل الأعضاء، أو الإكثار من صب الماء.
قال في تخريجه: صحيح أخرجه ابن ماجة وأحمد وابن حبان في صحيحه.
وله شواهده من القرآن الكريم، كقوله تعالى:
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ
[الأعراف:55] .
فلا ينبغي للإنسان أن يعتدي، وإنما يسأل الله الجنة، ويستعيذ به من النار، ولا يتجاوز الحد، ولا يدع على غير من ظلمه، ولا يدع بإثم ولا بقطيعة رحم، ولا يسأل شيئاً لا يليق به أن يسأله.
[ باب في التسمية على الوضوء.
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا محمد بن موسى عن يعقوب بن سلمة عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) ].
وهذا الحديث ضعيف؛ لأن يعقوب بن سلمة هذا فيه كلام، ولم يسمع من أبيه، وكذلك أبوه لم يسمع من أبي هريرة ، وكذلك الأحاديث التي في التسمية في الوضوء كلها ضعيفة؛ ولهذا ذهب جمهور العلماء إلى أن التسمية مستحبة.
وذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى وجوب التسمية عند الوضوء، ورأى أن أحاديث التسمية وإن كانت ضعيفة إلا أنها يشد بعضها بعضاً، ويقوي بعضها بعضاً، فتكون من باب الحسن لغيره، وذهب إلى هذا الحافظ ابن كثير رحمه الله أيضاً في كتاب الإرشاد، وفي كتاب التفسير، وكذلك الحافظ ابن حجر وابن الصلاح قالوا: إن الأحاديث يقوي بعضها بعضاً، وقالوا: وإن كان كل فرد منها ضعيفاً إلا أنه يقوي بعضها بعضاً؛ ولهذا ذهب الإمام أحمد إلى أن التسمية واجبة مع الذكر، وإذا نسي فلا حرج، لكن مع التذكر يجب عليه أن يسمي.
والجمهور على أن التسمية مستحبة؛ لأن الأحاديث فيها ضعيفة، وهذا الحديث ضعيف؛ لأن يعقوب هذا فيه كلام، ولم يسمع من أبيه، وكذلك أبوه لم يسمع من أبي هريرة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح حدثنا ابن وهب عن الدراوردي قال: وذكر ربيعة : أن تفسير حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه): أنه الذي يتوضأ ويغتسل ولا ينوي وضوءاً للصلاة ولا غسلاً للجنابة ].
وتأويل ربيعة هذا ضعيف مخالف لظاهر الحديث، فقوله: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) فسره ربيعة بأن الذي لا ينوي الوضوء لا وضوء له، والذي لا ينوي الغسل لا غسل له، وهذا صحيح، لكن ليس هذا معنى الحديث، فتفسير التسمية بالنية من ربيعة هذا تفسير ضعيف مخالف لظاهر الحديث، فالحديث فيه التسمية؛ فإنه قال: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله) أي: لا وضوء لمن لم يسم.
أما تأويله التسمية بأنها من النية، وأن المعنى: لا وضوء لمن لم ينو الوضوء، ولا غسل لمن لم ينو الغسل، فليس بظاهر، وكونه إذا اغتسل ونوى التبرد ولم ينو الوضوء لا غسل له، وإذا غسل أعضاءه ولو كان مرتين وهو لم ينو الوضوء لا وضوء له، نعم هذا صحيح، ودليله قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، لكن تفسير التسمية بالنية في هذا الحديث ليس بظاهر.
و ربيعة المذكور هنا هو ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، المشهور بربيعة الرأي.
قال في تخريجه: هو ربيعة بن أبي عبد الرحمن فروخ المعروف بـربيعة الرأي ، وثقه العجلي وأبو حاتم والنسائي ، وقال يعقوب بن شيبة : ثقة ثبت، أحد مفتي المدينة.
وقال مصعب بن الزبير : أدرك بعض الصحابة والأكابر من التابعين، وكان صاحب الفتوى في المدينة، وكان يجلس إليه وجوه الناس في المدينة، وكان يحصى في مجلسه أربعون معتماً، قال مطرف : سمعت مالكاً يقول: ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة .
وقال عبد العزيز بن أبي سلمة : يا أهل العراق! تقولون: ربيعة الرأي ! والله! ما رأيت أحداً أحفظ للسنة منه.
مات سنة مائة وست وثلاثين في المدينة أو في الأنبار.
وهو الشيخ الإمام ابن مالك رحمه الله، لكن تأويله هذا ليس بوجيه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب في الرجل يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها.
حدثنا مسدد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي رزين بن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قام أحدكم من الليل فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات، فإنه لا يدري أين باتت يده) ].
وهذا رواه الإمام مسلم في صحيحه، وفيه النهي عن غسل اليد في الإناء من القائم من نوم الليل، والنهي للتنزيه عند الجمهور، وعند غيرهم للتحريم؛ لأن هذا هو الأصل، ولا يصرف عن التحريم إلا بدليل، أما الجمهور فإنهم حملوه على التنزيه، وهذا خاص بالقائم من نوم الليل؛ لقوله: (لا يدري أين باتت يده)؛ لأن البيتوتة إنما تكون في الليل.
أما من استيقظ من نوم النهار وكذلك غير النائم فلا ينهى عنه، لكن يستحب له أن يغسلها ثلاثاً قبل أن يدخلها في الإناء، كما جاء في حديث عمران وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه غسل يديه ثلاث مرات)، لكن من نوم الليل، فيجب عليه أن يغسلها ثلاثاً على الصحيح، ويحرم أن يدخلها في الإناء قبل غسلها ثلاثاً، وإن كان الجمهور يرون أنه للتنزيه، وأن الأمر للاستحباب.
وإذا غمس يده في الإناء فلا ينجس الماء على الصحيح، وقيل: ينجس.
والصواب: أنه لا ينجس، ولا ينجس إلا إذا تغير أحد أوصافه، فإذا كانت في يده نجاسة وتغير أحد أوصافه ينجس، وإلا فلا ينجس؛ لحديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الماء الطهور لا ينجسه شيء).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم -يعني: بهذا الحديث- قال: (مرتين أو ثلاثاً) ولم يذكر أبا رزين ].
يعني: يغسل يده مرتين أو ثلاثاً، والصواب: أنه يغسلها ثلاثاً.
قال في تخريجه: رواه أحمد، والبخاري في الوضوء باب الاستجمار وتراً، ومسلم في الطهارة، وابن ماجة والترمذي والنسائي .
وكونه يغسلها ثلاثاً ثم يتوضأ هذا يستحب في كل وضوء ثلاثاً، لكن يتأكد عند الاستيقاظ من نوم الليل.
فالغسل هذا مستحب، فقبل أن يتوضأ يغسلها ثلاثاً حتى ولو من غير نوم الليل، لكن في نوم الليل الأفضل أن يغسلها ثلاثاً، يعني: الغسل المطلوب، حتى لو لم يكن يريد أن يغسلهما؛ لأنه قد يحتمل أن يكون فيهما أذى، فلو لم يغسلهما وتوضأ وفيهما بعض الأذى فقد يكون فيهما نجاسة، وقد يكون أصابه دم من بعض الحشرات، قال بعضهم عن أهل الحجاز: إنهم يستجمرون والبلاد حارة، وربما أصابت يده دبره، المقصود: أنه يغسلها ثلاثاً حتى ولو لم يرد؛ لتنظيفها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح ومحمد بن سلمة المرادي قالا: حدثنا ابن وهب عن معاوية بن صالح عن أبي مريم قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده، أو أين كانت تطوف يده) ].
والبيتوتة إنما تكون في الليل.
قال في تخريجه: إسناده صحيح.