إسلام ويب

آثار الذنوب والمعاصيللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من رحمة الله بخلقه أنه أرشدهم إلى الطريق القويم، وجعل لهم التقوى جنة ووقاية من لهيب جهنم، ولهول الذنب وقبحه كانت له علىصاحبه آثار مفصلة في هذا الموضوع، فكن ممن يستمعون ويعون ويحذرون؛ لعل الله أن يقيك من شر تلك الآثار ويرزقك خير الطاعة ويهديك الصراط المستقيم.
    الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، الحمد لله فاطر السماوت والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، يزيد في الخلق ما يشاء، إن الله على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، هدى به الله الإنسانية، وأنار به أفكار البشرية، وزعزع به كيان الوثنية، وعلى آله والتابعين لهم بإحسان.

    ولما جلسنا مجلساً طله الندى     جميلاً وبستاناً من الروض ناديا

    أثار لنا طيب المكان وحسنه      مُنىً فتمنينا فكنت الأماني

    أمانينا في الحياة الدنيا أن نجلس مع الصالحين، فسلام الله على الصالحين ورحمته وبركاته، وأشكر أصحاب الفضيلة العلماء الذين هم أمامي الآن، والإخوة السامعين، وأشكر القائمين على هذا المؤتمر، أسأل الله أن يجري الحق على ألسنتنا، وأن يجعل ما نقول في ميزان الحسنات ولا يجعل في كلامنا ولا في مقاصدنا ولا في أعمارنا بغيره سبباً ولا نسباً، ولا يجعل لنا طريقاً إلى الرياء والسمعة.

    أيها الإخوة الكرام! أيها المسلمون! كما سمعتم عنوان المحاضرة (آثار الذنوب والمعاصي) وما تهدمت الشعوب، ولا فسدت القلوب، ولا خربت الأسر، ولا تشتت الآراء، ولا تمزقت الأفكار إلا من الذنوب والمعاصي، وما بخست الأرزاق ولا قست القلوب ولا جفت العيون إلا من الذنوب والمعاصي، وما غضب الجبار ولا انتهت المغفرة من الغفار وما نزلت الحدود إلا للذنوب والمعاصي، وما أقيمت النار وما نصب الصراط وما أتى هناك محاسبة إلا مع الذنوب والمعاصي.

    أيها الإخوة الكرام! آثار الذنوب كثيرة أوصلها بعض علماء الإسلام إلى ثلاثين أثراً أو عقوبة، ومن أحسن من تكلم في ذلك فيما أعلم الإمام الفذ ابن القيم رحمه الله تعالى ورفع درجته في الجنة في كتابه الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، وأتحف شيخ الإسلام ابن تيمية، وتعرض لآثارها في المجلد العاشر من فتاويه، وتكلم في ذلك كثير من العلماء.

    وأنا أجمل آثارها بثمانية آثار:

    أولها: الضيق والهم.

    ثانيها: حرمان الرزق.

    ثالثها: نسيان العلم.

    رابعها: البغض في قلوب الخلق.

    خامسها: الوحشة بين العبد وربه.

    سادسها: قسوة القلب أو موته.

    سابعها: ضياع العمر.

    ثامنها: عواقبها في الآخرة يوم يأتي الإنسان بلا توبة مفلساً من الخير.

    أيها الإخوة! لقد كرر القرآن قضية كبرى أخذت مساحة شاسعة منه هي تقوى الله، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    تعريف التقوى

    وأهل السنة يعرفون التقوى بتعاريف باختلاف الأسباب وباختلاف الاتجاهات والمشارب.

    فمما نحفظ عن ابن تيمية أنه يقول: التقوى هي العمل بالمأمور وترك المحذور.

    وبعضهم يقول: التقوى هي: أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية.

    ونسب بعض العلماء كلمة للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه قالها في تعريف التقوى قال: [[هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنـزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل]].

    وقال ابن رجب: قال بعض العلماء: التقوى ترك الذنوب كبيرها وصغيرها.

    وقال بعضهم: التقوى أن يكون الله نصب عينيك وهي درجة الإحسان في حديث جبريل {وأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك}.

    والتقوى فسرها رسول الهدى عليه الصلاة والسلام بحياته، وفسرها بسلوكه، وفسرها بعمله، فكان يقول للصحابة: {إن أعلمكم بالله وأتقاكم أنا} ولذلك بوب البخاري في ذلك باب المعرفة معرفة القلب، وأن أتقى الناس محمد عليه الصلاة والسلام، أو كما قال في كتاب العلم.

    وأتى الصحابة فكانوا نموذجاً خالداً لتفسير التقوى في الحياة، لم تكن تقواهم إرجاءً ولا كلمات جافة ولا أفكاراً غريبة ولا قضية أمانٍ أو عواطف، إنما كان تحقيقاً في الواقع.

    وعند الإمام مالك في الموطأ موقوفاً عن الحسن [[ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل]].

    تأتي التقوى لهؤلاء من أمور:

    أولاً: مراقبة الواحد الديان على نور من الكتاب والسنة.

    ثانياً: قصر الأمل.

    ثالثاً: غلبة العقل على الهوى.

    أمثلة على التقوى

    أبو بكر الصديق: يقول الإمام أحمد في كتاب الزهد بسند جيد: [[دخل أبو بكر مزرعة رجل من الأنصار فرأى طائراً يطير من شجرة إلى شجرة فبكى وجلس، فقال له الصحابة: مالك يا خليفة رسول الله؟ قال: طوبى لهذا الطائر! يشرب الماء ويأكل من الثمر ثم يموت ولا حساب ولا عذاب، يا ليتني كنت طائراً]] إنها المحاسبة الدقيقة، إنه زيادة الإيمان في القلب.

    أبو بكر الذي قال الرسول عليه الصلاة والسلام عنه كما في صحيح البخاري في كتاب الجهاد {إن للجنة أبواباً ثمانية فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد.. - إلى آخر تلك الأبواب- فيقول أبو بكر: يا رسول الله! هل يدعى أحد من أبواب الجنة الثمانية؟} لا يسأل إلا أبو بكر ولا يتقدم بالمسألة إلا أبو بكر، فيعلق ابن القيم على هذا السؤال ويقول:

    من لي بمثل سيرك المدلل     تمشي رويداً وتجي في الأول

    أي: دائماً تحب المركز الأول، دائماً في أول المصلين، وفي أول الصائمين، وفي أول الذاكرين، وفي أول المجاهدين، فيقول عليه الصلاة والسلام: {نعم -أي: يدعى بعض الناس من الأبواب الثمانية- وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر} ولكن ما جعله ذلك يركن إلى هذه الوعود وهذه الأخبار الصادقة من الرسول عليه الصلاة والسلام، في أنه من أهل الجنة كما صح ذلك في الأحاديث التي بلغت درجة التواتر، بل زاده خوفاً من الله، وتقوى لله، ومحاسبة لنفسه أمام الله.

    يقول ابن القيم في روضة المحبين وهو يتحدث عن أبي بكر يقول: لما تولى أبو بكر الخلافة كان يخرج بعد صلاة الفجر كل يوم، فكان عمر يلحظه وينظر أين يذهب، فإذا هو يذهب إلى خيمة امرأة من المسلمين، فذهب عمر وراءه يوماً من الأيام، وخرج أبو بكر من الخيمة فدخل عمر وراءه من حيث لا يراه أبو بكر، فقال عمر وقد رأى عجوزاً عمياء حسيرة كسيرة داخل الخيمة: يا أمة الله! من أنت؟ قالت: عجوز حسيرة كسيرة عمياء، قال: ومن هذا الشيخ الذي يأتيكم؟ قالت: لا أعرفه، قال: ولم يأتي؟ قالت: يأتينا فيصنع طعامنا، ويكنس بيتنا، ويحلب شياهنا، فجلس عمر يبكي ويقول: [[أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر]].

    إنها -والله- التقوى، ولا يمكن أن تكون إلا في قراءة سير أولئك القوم الذين رفع الله منـزلتهم.

    أولئك آبائي فجئني بمثلهم     إذا جمعتنا يا جرير المجامع

    وعند مسلم في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: {هل أصبح منكم اليوم أحد صائم؟ قال أبو بكر: أنا، قال: هل شيع أحدٌ منكم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، قال: هل تصدق أحد منكم اليوم بصدقة؟ قال أبو بكر: أنا، قال: هل عاد أحد منكم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا، قال: ما اجتمعت هذه الأمور في أحد في يوم واحد إلا دخل الجنة} وتقواه رضي الله عنه تأتي من هذا التعريف العملي للتقوى ليس الشفهي الإنشائي النظري الذي بدأنا به وأرعدنا ونشكو أحوالنا إلى الله، لكن أقول لنفسي وللمقصرين من أمثالي كما قال أحد التابعين -وأظنه ابن إدريس- لـسفيان الثوري: [[يا أبا عبد الله! ذهب القوم -يعني: الصحابة- على خيول جادة ونحن على حمير قال: والله لتصلن بالقوم إذا سلكت ما سلكوا ولو كنا على الحمير]] مادام أننا على الخط وعلى الطريق التي هم عليها فسوف نصل.

    وعند البخاري باب "الرجل يحب القوم" قال أنس :{كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث الناس فقام أعرابي وقال: متى الساعة؟ قال: ماذا أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المرء يحشر مع من أحب} والشافعي يقول:

    أحب الصالحين ولست منهم     لعلي أن أنال بهم شفاعة

    وأكره من تجارته المعاصي     ولو كنا سواءً في البضاعة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088522538

    عدد مرات الحفظ

    777111630