إسلام ويب

أكبر لغز في الحياةللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • السعادة هي لغز أعجز الأذكياء، وكبت الفلاسفة، وأعيا الشعراء والأدباء، والباحث عنها لا يجدها إلا في هذا الدين، وسورة التكاثر لها علاقة كبيرة في التذكير بالنعيم الحقيقي، وبيان أن ما سواه مسئول عنه يوم القيامة، وفي هذا الدرس نحلق حول هذه المعاني.
    إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

    في هذه الروضة نجلس هذه الليلة مع ميراث محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، مع القرآن العظيم ومع الهداية المطلقة للبشرية الحائرة، في ظلال آيات بينات نعيش معها هذه الليلة، علّ الله أن يرحمنا ويفتح علينا بهذا القرآن.

    يا منزل الآيات والقرآن      بيني وبينك حرمة القرآن

    يا من سترت معايبي ومثـالبي     وحلمت عن سقطي وعن طغياني

    والله لو علموا قبيـح سريرتي      لأبى السلام عليّ من يلقاني

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:1-8].

    هذه السورة محزنة ومبكية، وفيها من اللوعة، والحرقة ما الله به عليم.

    كان يقرؤها عليه الصلاة والسلام متأثراً، ويقرؤها داعية، ومربياً، ويقرؤها عليه الصلاة والسلام عالماً عاملاً بها هو وأصحابه.

    هذه السورة لها أهداف جليلة ومقاصد نبيلة، هذه السورة مطلقة الأحاسيس، قوية البنيان، تهز القلب المسلم هزاً عنيفاً.

    هذه السورة لها وقائع في قلوب الموحدين، ولها صدى في أنفس العابدين، ولها رجةٌ في أذهان المتوجهين إلى الله..

    هذه السورة تحدد مسار العبد، وتفصل بين المسلم والكافر، وتوجه العبد توجيهاً تربوياً ربانياً.

    هذه السورة تعيش بك بين جو الدنيا الآسن المتخلف العفن، وبين جو الآخرة المشرق الباهر، الرائع البديع، هذه السورة تحددأيامك ولياليك وعمرك وساعاتك وثوانيك.

    التكاثر بالعلم

    فاستمع إلى قضاياها الكبرى يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر:1] هكذا تبدأ السورة -كما يقول بعض التربويين- بهجوم أدبي.. هجوم أدبي على القلوب اللاهية السادرة المخمورة بخمار الدنيا، إن الدنيا تسكر العبد، وتسكر الروح كما تسكر الخمر العقول، فالله (عز وجل) بدأ بالسورة هكذا ضرباً عنيفاً، وكأنه يوقظ الغافلين؛ انتبهوا، فكروا.. تدبروا.. حاسبوا..، وراءكم عقاب، وراءكم حساب، وراءكم ثواب، وراءكم جنة ونار ففكروا وتدبروا.

    ألهاكم التكاثر.. فما هو التكاثر؟

    ألهاكم: شغلكم وأبعدكم وخلف بكم عن الركب والمسير، فمالكم متخلفين؟

    ألهاكم التكاثر، وما هو التكاثر؟ التكاثر في منظوره التجريبي الاستقرائي على أقسام عدة عند أهل العلم منها التكاثر بالعلم، والعلم إذا لم يرزقك خشية وإنابة، فهو ضلال، أرأيت إلى الضلال.. إذا لم يقربك العلم من الله عز وجل، فليتك ثم ليتك ما علمت.

    إذا ما لم يفدك العلـم شيئـاً     فليتك ثم ليتك ما علمتا

    وإن ألقاك فكرك فـي مهـاوٍ     فليتك ثم ليتك ما فهمتا

    فنادِ إذا اتجهت لـه اعتـرافاً      بما ناداه ذو النون بن متى

    وأكثر ذكره في الأرض دأبـاً     لتذكر في السماء إذا ذكرتا

    العلم -وهو علم- إذا لم ينفعك ولم يفتح بصيرتك، ولم يجعلك تحضر الصلوات الخمس متوضئاً طاهراً، وتغض بصرك عن المحارم، أو تسمع أذنك حراماً، فلا تجلس الليالي الحمراء مع أعداء الله الفجرة؛ إذا لم ينفعك العلم هذا النفع، فليتك ثم ليتك ما علمت.

    كالحمار يحمل أسفارا

    إذا لم يوجهك العلم توجيهاً صحيحاً، ووجه بيتك وأبناءك وزوجتك وأختك وأمك، فهذه فائدة العلم.

    لأن الأجانب يعلمون، لكن يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون. علم الأكل.. علم القدور والبطون.. علم الفروج.. علم الفجور؛ يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ [النمل:66].أمّا الدنيا فأذكياء، صنعوا الطائرة والصاروخ، وقدموا المصنع والثلاجة والبرادة والسخانة؛ لكن رسبوا في عالم الآخرة، إذا أتيت به في الآخرة فحمار، رياء وسمعة في الدنيا، وأن يكون للمواجهات فحسب، فإذا أصبح العلم في هذا المستوى فقل على صاحبه السلام، عفا عليه الدهر، إذا كان العلم علم شهادة لا يصل إلى القلوب، لا يرزق صاحبه الإخبات والاتجاه إلى الله، والاستقامة في السلوك والأدب؛ فليس بعلم بل هو كثرة، ولذلك نعى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى على المتكثرين بالعلم يقول سبحانه وتعالى عن بني إسرائيل: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارا [الجمعة:5].

    سبحان الله:

    لقد ذهب الحمار بـأم عمرو     فلا رجعت ولا رجع الحمار

    حمار عليه أسفار ومجلدات لكن حمار. أينفع الحديث للحمار؟!

    هل ينفع التفكير للحمار؟!

    هل ينفع الفقه للحمار؟!.. لا. ولذلك ذكر صاحب " كليلة ودمنة " أن الأسد جمع الحيوانات في الغابة، فحدثهم بفكاهة فكلهم ضحكوا إلاّ الحمار ما ضحك، وفي اليوم الثاني ضحك الحمار. قال له الأسد: ما لك تضحك اليوم؟

    قال: اليوم فهمت الفكاهة من أمس وأنا أتذكر وأتحفظ إلى اليوم، فالله (عز وجل) وصف بني إسرائيل بالحمار، ووصفهم بالكلب فقال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوُينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:175-176].

    العلم والشهادة العلمية

    التكاثر بالعلم أن تجد البراويز محملة بالشهادات في البيت؛ لكن تنظر إلى الوجه فلا تجد عليه أثر علم، ما عليه نور ولا سفرة ولا وضوح، تنظر إلى الصلاة فإذا هي مهزوزة، المجلة الخليعة في البيت، مكان المصحف الأغنية الماجنة تدوي في البيت، والموسيقى مكان القرآن، التبرج والسفور، النظرة المسئولة وغير المسئولة التي تطلق على محارم الناس، تهتك أعراض الناس، الملبس من ربا.. السيارة من ربا.. الفلة من ربا.. أكل الأطفال من ربا.. التخلف عن الجماعات؛ وهذه الشهادة المعلقة لا تشفع له يوم القيامة.

    نحن لم نفتح الدنيا بالشهادات لقد كان ابن مسعود من علماء الدنيا، كان رحباً كأنه الميدان الواسع إذا عبئ نسيماً، أو كأنه الوادي المتسع إذا ملئ ماءً، ما كان عنده شهادة، لكنه ظل في الدنيا كالنجم من قمر محمد صلى الله عليه وسلم.

    من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم     مثل النجوم التي يسري بها الساري

    ابن عباس أخذ علمه من مناجاته لله في الليل، كان يسجد ويبكي ويقول: [[يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني]] فأصبح حبر الأمة، وترجمان القرآن ولم يحمل شهادة، قال الخطيب البغدادي في كتاب اقتضاء العلم العمل: العلم كالكنز لا ينفعك إلا ما أنفقت منه، فإذا لم ينفعك العلم، فما هي الفائدة إذاً.

    يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن بني إسرائيل جهلة العملاء الظلام: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِه [المائدة:13].

    والرسول عليه الصلاة والسلام نعى على الذين لا يفهمون ولا يفقهون ولا يعملون بعلمهم نسأل الله العافية والسلامة، صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال كما في سنن أبي داود: {من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من أعراض الدنيا، لم يجد عرف الجنة، وإن عرفها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً} أو كما قال عليه الصلاة والسلام {من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة}. وفي لفظ: {ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً}.

    إنسان أتى يتعلم قال الله وقال رسوله للوظيفة،للشهرة، للسمعة، ثم لم يظهر عليه أثر العلم؛ حرام عليه أن يجد عرف الجنة، وهذا الحديث يبكي والله، نسأل الله أن يتوب علينا وعليكم، وأن يمن علينا برحمته وفضله وعطفه وكرمه.

    وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من تعلم العلم ليجاري به العلماء، وليماري به السفهاء، فليتبوأ مقعده من النار} من تعلم العلم ليجاري به العلماء، أي ليدخل في حلبة العلماء وفي صراع مع العلماء، ومشاجرةٍ، ومناظرةٍ ساخنة، ومباحثة ليكون محسوباً على العلماء.

    أو ليماري به السفهاء أي: يستهتر به في المجالس، ويماري به كل سفيه؛ فليتبوأ مقعده من النار.

    وصح عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يسهر الليلة الكاملة من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر وهو يبكي ويردد قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً [النساء:123]

    التكاثر بالأموال

    والتكاثر قد يكون في الأموال، وهذا الذي تشير إليه الآية أصلاً؛ والتكاثر في الأموال هو أن يكون الإنسان تخصصه وعمله في الحياة تزويداً لدراهمه ودنانيره، لكن تضيع حسناته، تضيع قيمته عند الله ثم عند الناس، ولا يشعر بذلك؛ فلا دين ولا استقامة ولا رصيد من العمل الصالح.

    فلو أنا إذا متنا تركنـا     لكان الموت غاية كل حي

    ولكنا إذا متنا بعثنـا     ويسأل ربنا عن كل شي

    الزاد هو العمل الصالح فهذا ثابت البناني أحد الصالحين من التابعين ذهب إلى خراسان جنوب إيران في نزهة يريد مهمة هناك، فمر بالحدائق الغناء، والبساتين الفيحاء، والأنهار المتدفقة والتلال المترعة؛ فكأنه ما رآها، فلما عاد إلى البصرة سأله أهل البصرة: كيف رأيت جمال الطبيعة؟

    قال: والله ما كأني رأيت شيئاً، وما أعجبني في سفري هذا إلا أنني رأيت عجوزاً تصلي ركعتي الضحى. هذا ثابت البناني الذي يقول عنه الذهبي: كان يبكي من خشية الله حتى تكاد أضلاعه أن تختلف، في سفرته كلها ما رأى جميلاً من الأشياء إلاّ رأى عجوزاً تصلي ركعتين.

    وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس}.

    فأين أهل القناطير المقنطرة من الذهب والفضة؟

    أين أهل البنوك؟

    أين أهل الشيكات الذين ظنوا أن المستقبل لهذا الرصيد؟

    لا والله لا رصيد إلا لمن له رصيد عند الله عز وجل.

    إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى     ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

    ندمت على ألا تكون كمثله     وأنك لم ترصد لما كان أرصدا

    والتكاثر بالمال فلسفة، يعبر عنها بعض الناس بقوله: يترك كل شيء إلا المال، يسبح بحمد المال، وبعض الناس يعبد المال من دون الله، يسجد للريال، ويركع للريال، ويسبح ويحمد الريال، لو سألت بعض الناس عن اسمه ربما يغلط فيقول: الريال. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام وهو يتحدث عن هؤلاء: {تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة} هؤلاء عبيد. لماذا؟

    لأن أكبر معنى عندهم في الدنيا هذا المال، فحديثهم في المجالس في المال، وكلامهم في المال، أخذهم وعطاؤهم ومحبتهم وبغضهم على المال.

    وهذه عبودية من دون الله عز وجل. قال ابن تيمية: " أإله غير الله يعبدون" أو " لا بد لهم من معبود غير الله يعبدوه " لا بد، لأن الإنسان كما في الحديث الصحيح: همامٌ حارث؛ قلبه همام، وأعضاؤه حارثة فاعلة تتحرك وتزاول، فلا بد له من مقصود، ولذلك اسم الله لفظ الجلالة قيل معناه: أنه تأله له القلوب، فلا تسكن إلا إلى الله، ولا تطمئن إلا إلى الله، ولا تصمد إلا إلى الله، ولا ترتاح إلا إلى الله، قال تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]

    فإذا عرف هذا، فليعلم العبد أن من التكاثر، التكاثر في المال، وحدُّ المال الكثرة أن يشغلك عن طاعة الله، فإذا أشغلك عن طاعة الله، فاعلم أنه عارٌ ودمارٌ، وشنارٌ ونارٌ في الدنيا والآخرة.

    التكاثر بالأولاد

    ومن أنواع التكاثر عند المفسرين وأهل العلم: التكاثر بالأولاد، وبعض الناس لقلة فهمهم يتصور إذا رزق نفراً كثيراً من الأبناء؛ أن ذلك لحسنه ولمكانته عند الله، وكذلك المال والعلم، وهذه كلها ابتلاءات من الله، قال تعالى: فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ [الفجر:15]

    وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ سبأ:37].

    مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16] من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها أي: نعطيهم منها كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً [الإسراء:20-21].

    والأولاد قد يكونون فتنةً، ولعنةً، وسخطاً، وغضباً، وشقاءً، قد يدخلون عليك البؤس والحسرة واللوعة والحرقة والفتنة، وفي بعض الآثار التي لا تصح مرفوعةً إلى المعصوم بل هو من كلام أحد الحكماء "في آخر الزمان لأن يربي أحدكم كلباً أوجرواً خير من أن يربي ولداً " هذا في بعض الأماكن يوم يرفع القرآن من البيت، يوم تنزك سنة الرسول صلى الله عليه وسلم من البيت، تتربى الأسرة على غير لا إله إلا الله، على الأغنية الماجنة، على الصورة الخليعة، وعلى السهرة الآثمة، ولذلك ينشأ النشء معوجاً غير مستقيم، الابن ضال مضل، والبنت فاتنة مفتونة؛ لأن غرساً لا يربى على نهر محمد عليه الصلاة والسلام غرس ميت.

    ونحن بالخصوص في هذه البلاد بلاد تعيش على ثلاثة أمور: إيمان وطموح وحب، بلاد هواها نشأ على لا إله إلا الله، وهواها سار على لا إله إلا الله، وتدفق ماؤها على لا إله إلا الله، وعلى الإيمان بالله وبرسول الله، كتب اسمها وقدرها -هذه الجزيرة - على لا إله إلا الله، فقدرها الإسلام وهي قدر الإسلام، ولا نزري بغيرنا من البلاد، فأولياء الله عندهم ربما يكونون أكثر من عندنا؛ لكنْ القبلتان، والعقبتان، والبيعتان، والهجرتان هي من هذه الأرض:

    بنفسي تلك الأرض ما أحسن الربى     وما أحسن المصطاف والمتربعا

    فيوم يأتي بيت من البيوت، أو جيل من الأجال في هذه البلاد ليخرج القرآن من البيت، ويحل مكان القرآن الأغنية، أو يخرج المصحف ويحل المجلة الخليعة، أو يخرج حلقات السيرة والسمر مع هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم ليجعل لعب الورقة مكانها؛ معناه يقضي على لا إله إلا الله ويشطب على لا إله إلا الله من مسيرته.

    لا حياة للأمة إلا بالإيمان يقول إقبال:

    إذا الإيمان ضاع فلا أمانٌ     ولا دنيا لمن لم يحي دينا

    ومن رضي الحياة بغير دينٍ     فقد جعل الفناء له قرينا

    أمة بلا إيمان معناها قطيع من البهائم، جيش بلا إيمان هَوْشرة وهوش، فصل بلا إيمان شلة من المشاغبين، بيت بلا إيمان خراب؛ فيه غربان وبوم وعقارب، قلب بلا إيمان قطعة لحم متمزقة، كتاب بلا إيمان صحف ممزقة، قصيدة بلا إيمان أبيات مقفاة، كلمة بلا إيمان وخطبة بلا إيمان حروف مجمعة، والحب تعيش عليه الأمة، وإذا لم تعش على الحب فلا مصدر لها، وهو إكسير الحياة يحول المعدن إلى معدن آخر.

    وإذا دخل الحب لغير الله ورسوله القلب فقد فسد، وظن الفنانون والفنانات، والمغنون والمغنيات، والماجنون والماجنات الأحياء منهم والأموات أن الحب عندهم.

    ونحن الدعاة أو نحن أهل الدعوة وأهل قال الله وقال رسوله؛ إن كنا من أهل ذلك ما عندنا حب، بل الحب كل الحب والأصالة كل الأصالة في المصحف والسنة، أما حبهم فحب الضياع، حب العشق، حب الهيام، حب الانهزامية والفشل والبعد عن الله عز وجل، هذا أمر لا بد أن يتذكر وأن يفهم.

    ثم قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر:1-2] حتى زرتم المقابر، قبل أن أنفذ إلى الآية التي تلي هذه؛ أقول: التكاثر بالأولاد تكلم الله عز وجل عن هذا في القرآن كثيراً، وذكر قصة محزنة عن رجل، ضال مضل، عميل، كفر بلا إله إلا الله، هذا الرجل هو الوليد بن المغيرة كان له عشرة أبناء، من أبنائه خالد بن الوليد سيف الله المسلول، خالد الذي قال عنه العلماء وقال هو عن نفسه أنه حضر أكثر من مائة معركة في سبيل الله وفي غير سبيل الله قبل الإسلام، ما فيه موضع شبر إلا أصابه إما طعنة برمح أو ضربة بسيف أو رمية بسهم.

    نعم:-

    تسعون معركة مرت محجلةً     من بعد عشرٍ بنان الفتح يُحصيها

    وخالد في سبيل الله مشعلها     وخالد في سبيل الله مذكيها

    ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم     ولا رمى الروم إلا طاش راميها

    أبوه كافر بالله العظيم، وخرج من صلبه هذا المؤمن العظيم، سبحان الله الذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي.

    الوليد بن المغيرة كان يحضر أندية قريش، ويدخل الحرم وعن يمينه خمسة أبناء وعن يساره خمسة، فقد كانوا عشرة، كان يلبسهم الحرير، وأسورة الذهب، وتيجان اللؤلؤ، كان تاجراً، ذهبه يكسر بالفئوس في مكة، فدعاه صلى الله عليه وسلم إلى لا إله إلا الله؛ فكفر بلا إله إلا الله، قرأ عليه القرآن حتى بلغ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [فصلت:13] فقام ووضع كفه على فم المصطفى عليه الصلاة والسلام وقال: أسألك بالله وبالرحم -لأنه قطع قلبه- لا تواصل في القرآن، يعلم أنه حق، يعلم أنه مبدأ، يعلم أنه صدق، فرجع إلى قريش وأراد ان يسلم قالوا: لا نتركك. يا أبا المغيرة حتى تقول، حتى تقول كلاماً، فقال: هذا القرآن سحر، فتنزل له الله بآيات وقال: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً [المدثر:11].

    أتى وحده، وقع أعمى، أصم، أبكم، جائع، ظمآن على الأرض، والآن يتفلسف في القرآن، يحارب لا إله إلا الله.ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً [المدثر:11-13]. يشهدون معه الحفلات والمراسيم وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً [المدثر:13-14] أي: مهدت له أموره، أهذا هو الجزاء؟! وهذا رد المعروف؟! وهذا حفظ الجميل؟! تكبر علينا اليوم، اليوم يعرف شخصيته.

    وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً [المدثر:14-16] وجزاؤه سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً [المدثر:17] صعود: جبل في جهنم يصعد فيه سبعين سنة إذا انتهى إلى أعلاه سقط على آخره وهكذا سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً [المدثر:17] لماذا؟ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ [المدثر:18] تفلسف في القرآن، ما عرف لا إله إلا الله، قلبه آثم مجرم، دماغه ما فهم، ما عنده انفتاح ولا ذكاء ولا فهم إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [المدثر:18-26] أي: جهنم وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ [المدثر:27-28] نعوذ بالله من النار، نعوذ بالله من سقر، نعوذ بالله من الفجور، نعوذ بالله من عدم الفهم لآيات الله عز وجل، هذا في التكاثر بالأولاد.

    التكاثر بالمناصب والزينة

    ومن الناس من يتكثر في الظهور والمناصب والزينة، ويتكثر بالشهرة، وهي أمور مغروسة في الفطر، محببة إلى النفس لا يوجهها إلا الإسلام.

    أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر:1] أيها الناس! ألهاكم التكاثر، أيها التجار! ألهاكم التكاثر، أيها النائمون! إلى متى والموت قد حضر؟!

    حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر:2] لأهل العلم مسلكان في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أورد ذلك ابن كثير وابن جرير منهم من قال: سبب نزول هذه الآية والسورة: أن قريشاً عددوا الأسر على كثرتهم: أسرة بني سهم، وأسرة كذا، وأسرة كذا؛ فلما عددوا الأسر قالت هذه الأسرة: نحن أكثر عدداً من تلك الأسرة، حتى قالوا: نعد أمواتنا وأمواتكم، فخرجوا يعدون الأموات في القبور، فيقول تعالى:: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر:2].

    والمسلك الثاني: قال المفسرون: معنى قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر:1] أي تكثرتم بالأموال والأولاد والزينة والشهرة والعلم حتى جاءكم الموت فأشغلكم وهذا هو الراجح والظاهر إن شاء الله.

    ليس في الزيارة المعروفة الشرعية للمقابر، أو الزيارة العادية الذي يفعلها بعض الناس، لا. إنها زيارة غير الزيارات، زيارة اضطرار.

    كفى بك داءً أن ترى الموت شافيـا     وحسب المنايا أن يكن أمانيا

    زيارة لابد أن ينتقل ويفعلها ويزاولها كل إنسان، الملك والمملوك، الغني والفقير، الكبير والصغير، الأنثى والذكر.

    حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر:2]: زرتم ولكنها على منوالها وعلى ظاهرها، زيارة ولكنها ليست بزيارة، وهي الموت؛ زيارة على النعوش، زيارة في الأكفان، زيارة ونحن جثث نحمل على أكتاف الرجال.

    وهذا تلطفٌ في الأسلوب وعجبٌ في الكلام.

    حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر:2]: وعلى ذكر الزيارة لا نستطرد في أحكامها؛ فلها باب آخر، إن هذه الزيارة ليست الزيارة المعروفة التي تزور فيها الأموات ثم تعود إلى بيتك، إنك إذا فعلت هذه الزيارة فلن تعود إلى بيتك مرةً ثانية، إن الله عز وجل كما في الحديث القدسي يقول: {إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون} زيارة تفقد فيها أحبابك، وأصحابك، وأترابك، وإخوانك، وأخدانك، زيارة لن تعود إلا إلى جنة أو إلى نار، زيارة لن ترى فيها بيتك مرةً ثانية، ولا طفلك الوليد الحبيب، ولا طفلتك الوديعة الهادئة، ولا زوجتك الحبيبة، ولا بيتك ولا فراشك، زيارة تنقطع فيها عن أسباب الحياة وعن معالم الحياة.

    تنبهــوا يا رقود     إلى متى ذا الجمود

    فهـذه الدار تبلى     وما عليها يبيد

    الخير فيهـا قليـلٌ     والشرُ فيها عتيد

    والبر ينقص فيها     والسيئات تزيد

    فاستكثر الزاد فيها     إن الطريق بعيد

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088546445

    عدد مرات الحفظ

    777247093