إسلام ويب

الرجاء والدعاءللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • عبادة الله لابد أن تكون بالخوف والرجاء، والشيخ قد ساق في درسه هذا أحاديث في باب الرجاء، واستنبط منها فوائد جليلة، وذكر أموراً جليلة وقصصاً يتبين منها عظم أثر الدعاء، به نجا الغريق، وبه أصبحت النار برداً وسلاماً، وبه ينصر المسلمون، وبه تهطل الأمطار، وبه ينزل ملكاً من السماء لينقذ رجلاً...إلخ.
    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أمَّا بَعْد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، معنا في هذا الدرس حديث عظيم، هو قاعدة من قواعد الإسلام، وأصل من أصول الدين، رواه الإمام الترمذي في كتابه السنن يقول: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تبارك وتعالى: يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عِنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم! لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً للقيتك بقرابها مغفرة) هذا الحديث رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وهو حديث قدسي؛ أي: أن لفظه من الرسول صلى الله عليه وسلم ومعناه من الله الواحد القهار، وهو حديث تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله.

    والترمذي هو صاحب السنن التي قدمها هدية للأمة الإسلامية، وهي من الكتب الأصيلة، فهي من الكتب الستة التي عليها بعد القرآن ومدار رحى الإسلام، والتي نواجه بها أعداء الدين، والتي نفتخر ونتشرف أن تكون من ميراثنا ومن تراثنا، ومن حكمة الله عز وجل أن الله حفظ لنا الوحي الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة بهذه الكتب.

    لما قدم التتار -المغول- مع جنكيز خان من صحراء سيبيريا واجتاحوا العالم الإسلامي وذلك حين ضعفت لا إله إلا الله في قلوب المسلمين؛ وتركوا المساجد؛ وتلفتوا إلى المغنين والمغنيات والخمارات، فابتلاهم الله عز وجل بأمة لا تعرف الرحمة، ولذلك في الأثر: (من لم يتعرف إليَّ سلَّطُّت عليه من لا يعرفني) فهؤلاء التتار المغول ما عرفوا الله عز وجل، وهم برابرة القلوب؛ فيهم قسوة لا يعلمها إلا الله، لا يعرفون الرحمة، إنما يعيشون على الدم، وهم أول شعب امتاز بسفك الدم في العالم، فاجتاحوا العالم الإسلامي، ودمروا المساجد، وحولوا بيوت الله عز وجل إلى إسطبلات للخيول، وكان أحدهم يصعد على المنبر ويشرب كأس الخمر والناس جلوس، وكانوا يقفلون باب المسجد، وكلما دخلت جماعة داخل المسجد يدخل أحدهم بالسيف فيقتل من في المسجد جميعاً.

    وبلغ من الذلة والقلة والهوان لما هانت الأمة في عين الله عز وجل أن يأتي التتري ويقول للمسلمين وهم جماعات: ابقوا هنا حتى أذهب إلى البيت فآخذ سيفاً وأقتلكم به، فلا يتحركون خوفاً حتى يأتي، ويقول للمسلم -يوم كان الإسلام اسماً-: ضع رأسك على الصخرة حتى آتي، فيضع رأسه فيأتي التتري يذبحه بالسيف، ولكن ما كان الله ليعطل رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما كان الله لينهي لا إله إلا الله في الأرض؛ لأنه دينٌ عالمي، يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله في تفسير قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [القلم:52] قال: يا ألله! إنها دعوة تعلن عالميتها من اليوم الأول.

    الرسول صلى الله عليه وسلم وحيد، معه ثلاثة زيد بن حارثة وأبو بكر وعلي، وقريش بالسيوف وبالموت من كل جانب، ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى من السماء: وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [القلم:52]؛ وبالفعل سرت الدعوة العالمية حتى سجد لله أهل السند الذين ما عرفوا الله، وأهل أسبانيا الذين ما عرفوا لا إله إلا الله، فلما أراد الله أن يعيد للأمة قوتها، هل تعود قوتها بالطائرات والدبابات وبالتدريب؟ لا. إنما تعود قوتها إذا عادت إلى الله عز وجل؛ لأن هذه الأمة مختارة اختارها الله للخلافة في الأرض، واختارها لأداء الرسالة، فإذا تعرَّفت على الله عرف الله الناس قدر هذه الأمة وعظمتها وسموها.

    قطز ينادي واإسلاماه

    فأتى قطز السلطان المملوكي الذي كان يباع ويشترى في السوق فأعتقه كثير من أهل العلم، ثم تولى بقوته وشجاعته الحكم، فعاد إلى الله عز وجل وجمع الأمة الإسلامية، فصعد على المنبر يوم الجمعة في القاهرة، فقطع قلبه بالبكاء، والعالم الإسلامي أصبح ممزقاً، التتار من كل مكان، والناس إذا سمعوا صوتاً أو رجفةً ظنوها تترياً فيكاد أحدهم يسقط، حتى إذا دعت المرأة على ابنها كما يقول المؤرخون تقول: لاقى الله بينك وبين مغوليٍ أو تتري.

    فصعد هذا يوم الجمعة، واختطب خطبة شجاعة إيمانية وقطعها بالبكاء، ثم نادى: واإسلاماه، فتحرك الإسلام في القلوب، وتحركت لا إله إلا الله في النفوس، وعادت القلوب إلى بارئها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الذي يكسب القوة، واجتمع المسلمون من كل حدب وصوب في مصر، حتى إن الذهب والفضة أصبح صُبَر -أي: أكواماً- وكانت المرأة تلقي خاتمها وخرصها ولا تبقي عليها من الذهب شيئاً؛ لأن الله عز وجل يقول: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ [الأنفال:60] فلا تكفي القوة الروحية؛ لأنها رهبنة، لكن مع القوة الروحية قوة جسمية وفكرية وعلمية وعسكرية؛ فكان قطز يستعرض مع العلماء بعد كل صلاة من القاهرة إلى القناطر يستعرض الجيش الإسلامي؛ فكانوا يتدربون، وكانوا يبارون السهام، وكانوا يتناضلون حتى الغروب، ثم يبدءون من الغروب في صلاة واستغفار حتى الفجر.

    وكان يصلي بهم الحاكم قطز، فيدعو ويبكي، ويقول: اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض؛ معنى ذلك: أن الجيش الذي اجتمع في مصر إذا سحق فعلى لا إله إلا الله السلام، سوف تنتهي الدعوة الخالدة والمسلمون من الأرض، واجتمع معه العلماء وأمروه أن يحرم الربا، ويمنع الخمور، وينهى عن المعاصي والفحش فمنعها؛ لأن الأمة كلما عصت الله عز وجل سلط الله عليها من هو أعصى له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من هؤلاء العصاة، فعادوا، وحرم الربا، وحرم الخمور، حتى يقول أحد الزهاد وهو يعظ قطز قبل المعركة:

    حرمت كاسات المدام تعففاً     وعليك كاسات الحرام تدور

    ويقول في أولها:

    مثل لنفسك أيها المغرور     يوم القيامة والسماء تمور

    فبكى حتى سقط من على كرسيه، هذا قطز، وفي الأخير اجتمع مع العز بن عبد السلام؛ العالم الشافعي الكبير، واستعرض آخر استعراض للجيش، وأوصاهم بتقوى الله عز وجل، وأمرهم أن يصوموا قبل المعركة ثلاثة أيام؛ لأنها من أعظم المعارك التي عرفها التاريخ، فعرفوا اللجوء والرجوع إلى الله عز وجل حين ضاقت الضوائق وحين قالوا: واغوثاه واإسلاماه.

    المسلمون يلحقون التتار إلى أبواب دمشق

    والتقى المسلمون والتتار بين الشام ومصر في معركة طاحنة، وتقدمت كتائب التتار كالجبال، ابن جنكيز خان الذي كان القائد ما كان يعرف الرحمة أبداً، وظن بعض المؤرخين أنهم لن يهزموا في التاريخ، فلما تقدموا أرسل التتار والمغول الجمال وكان عليها شوك فأخذت تجتاح جيش المسلمين فانهزمت المقدمة، وانهزم القلب، وانهزمت الميمنة، وانهزمت الميسرة، وبقي قطز وسط المعركة يقول: لا إله إلا الله، فلما انهزم الجيش أخذ قلنسوة الجيش المسلم أخذ خوذته التي على رأسه وتحميه من الضرب فوضعها في الأرض وداسها بقدمه وقال: واإسلاماه؛ معنى ذلك: أن الإسلام قد انتهى، ولكن: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] فلما سمع الجيش (واإسلاماه) رفع الله هذا الصوت، يقولون: ما قالها إلا بكلمة منخفضة لكن رفعها الله حتى سمعها كل الجيش، فعادوا يقاتلون كما يقاتل الإنسان عن ابنه أو عن نفسه، وجاء وقت الظهر وقد ولى التتار أدبارهم، فيقول قطز: لا ترفعوا السيوف عنهم حتى ندخلهم دمشق، فأخذوا يأسرون ويضربون ويقتلون حتى تهاوى العشرات والمئات على وجوههم، وأصبحوا يقتلونهم ثلاثة أيام بلياليها، حتى اقتربوا من دمشق.

    يقول المؤرخون: أصبحت الريح تأخذ أظفار هؤلاء التتار من الأموات فيسمع لها خشخشة كخشخشة الأوراق من كثرتها، وأصبحت الأرض منتنة من روائحهم، حتى تهب الريح العاصف فيجدها أهل المدائن وأهل القرى من روائح القتلى؛ مجزرة في التاريخ ما سمع بمثلها.

    شيخ الإسلام يتصدى للتتار في دمشق

    أوشكوا على دخول دمشق فتصدى لهم شيخ الإسلام ابن تيمية، فعندما أرادوا الدخول واجتياح دمشق قام في رمضان وشرب الماء أمام الناس، وهو صائم والناس صيام، وقال: لا صيام لكم والمعتدي الأجنبي قد دخل البلاد، فأفطروا جميعاً.

    ثم وقف ابن تيمية وألقى خطبة من سمعها يظن أن القيامة قامت، وكان يقطع صوته بالبكاء، ويقول: والله لننتصرن، والله لننتصرن، والله لننتصرن، فيقول الصف المقدم: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً.

    والتقوا في معركة شقحب، وسحق بقية التتار وفرَّ قائدهم ومن معه من زعمائهم.

    وقبل ذلك وصلهم ابن تيمية يعظهم في مخيماتهم، فقال له قازان حفيد جنكيز خان: ادع لي، فيقول ابن تيمية وقد رفع يديه: اللهم إن كان في حياة هذا العبد خيرٌ لدينك فأحيه، وإن كان فيه شرٌ لدينك فأمته واسحقه واقطع دابره، فكان يقول: آمين، ولا يدري ما معنى الكلام، وفي الأخير هداه الله إلى الإسلام، ودخل كثير من التتار في الإسلام، وعاد الإسلام منصوراً.

    والشاهد من القصة: أن التتار لما قدموا على بغداد أخذوا الكتب كل الكتب إلا ما شاء الله ووضعوها في النهر فجعلوها جسوراً تمر عليها الخيول المسلحة.

    فيقول أهل التاريخ: الحمد لله ما فاتنا شيء من التفسير، ولا من الحديث، ولا من الفقه،، إنما فاتتنا كتب الخزعبلات، والتراهات، وكتب النفاق، والمنطق، وعلم الكلام التي أدخلها المأمون وأبناؤه وأضرابه التي جاءت بالشقاء والنكد على الأمة، وأبقى الله لنا من ضمن ما أبقى سنن الترمذي، وكذلك يرفع الله المخلصين بكتبهم وكلماتهم، كما قال تعالى: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد:17].

    واليوم تؤلف المؤلفات الكثيرة طعناً في الإسلام، ويؤلف أهل الشعر من الحداثيين الذين ينهجون نهج الإلحاد قصائد لكنها سوف تموت؛ لأن الحق حيٌ وأما الباطل فيموت في كل يوم عشر مرات.

    فالمقصود: أنه من ضمن هذا التراث سنن الترمذي؛ الذي تسمعونه دائماً على المنابر، وفي المحافل والإذاعات، وفي فصول الدراسة، حين يذكر حديث ويقال: رواه الترمذي؛ لأن الله علم إخلاص هذا الرجل فرفعه بكتابه.

    الترمذي رجل بسيط ولكن عظَّمه الإسلام والتقوى والعلم، يقول عنه الذهبي: ثبت عن الترمذي أنه بكى حتى عميت عيناه، فكان أعمى في آخر حياته، يتلقى العلم، ويملي على تلاميذه، فأصبح من أحفظ الناس، تسمعه يورد الحديث بروعة فائقة ثم يقول: حديث حسن صحيح، أو حديث حسن، أو حديث صحيح, أو حديث غريب؛ وهذه مصطلحات تعرف من علم المصطلح.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088532374

    عدد مرات الحفظ

    777169079