شهر رمضان هو شهر الطاعات، وهو شهر القربات، وشهر القرآن الكريم، وفيه تفتح الجنان، وتغلق النيران، وتصفد الجان.
هو شهر العفو والغفران، وشهر التوبة من العصيان، وهو محطة يتزود منها العبد إلى الدار الآخرة، ونقطة انطلاق في الإصلاح والتغيير.
الحمد لله الذي خلق خلقه أطواراً، وصرفهم كيفما شاء عزة واقتداراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، خير من صلى وصام وأفطر، الشافع المشفع في عرصات يوم المحشر، صلى الله وملائكته والصالحون من خلقه عليه، كما وحد الله وعرفه به ودعا إليه، اللهم وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله! فأوصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلن، وخشيته تبارك وتعالى في الغيب والشهادة، فإن تقوى الله أزين ما أظهرتم، وأكرم ما أسررتم، وأعظم ما ادخرتم،
وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ
[النساء:131].
عباد الله! الله أكبر وقد دنت بشائره، وارتفعت منائره، يترقب الليلة أو ما بعدها المسلمون في جميع الأرض هلاله، يفزعون فيه إلى جل وعلا بما شرع من الطاعات، وبما حكم من العبادات؛ تعرضاً لنفحاته، واستجابة لأمره، وطلباً للغفران، وستراً للعيوب.
أيها المؤمنون! إن ربكم يخلق ما يشاء ويختار، وقد جعل الله جل وعلا بحكمته ورحمته وعزته شهر رمضان موئلاً للصيام الذي تعبد الله به عباده، كما تعبد الله به الأمم من قبلنا.
أيها المؤمنون! شهر رمضان شهر مبارك، فرض الله جل وعلا صيامه على خير خلقه وسيدهم صلوات الله وسلامه عليه في السنة الثانية من هجرته، ثم ما زال صلى الله عليه وسلم يصومه حتى وفاته، ثم صامه المسلمون من بعده، فأعظم ما يقع في شهر رمضان من العبادات هو صيام ذلكم الشهر عطفاً على الصلاة المقررة في الحياة كلها.
أيها المؤمنون! نادى الله جل وعلا عباده نداء كرامة لا نداء علامة، فقال تبارك اسمه وجل ثناؤه:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
[البقرة:183]، ثم حدد الله زمانه فقال جل ذكره وعلا شأنه:
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ
[البقرة:185].
فصيام هذا الشهر المبارك أحد أركان الإسلام العظام، ولا يتصور أبداً أن مسلماً يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم يعمد إلى فطر يوم من أيام هذا الشهر المبارك من غير عذر سفر ولا مرض.
قال الإمام الذهبي رحمه الله: وعند المسلمين مقرر أن من أفطر يوماً من رمضان عمداً من غير عذر فهو شر من الزاني وشر من مدمن الخمر، بل يظنون به الزندقة والانحلال، نعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلالة بعد الهدى.
أيها المؤمنون! إنكم بصيامكم لشهر رمضان تؤدون ركناً من أركان دينكم، وهدياً من هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم، وأنتم بذلك في المقام الأول تستجيبون لأمر ربكم جل وعلا، واستجابة المؤمن لأمر ربه هي عنوان الفلاح، وطريق النجاح، وأساس السعادة، وبها يفوز المؤمن في دينه وبرزخه وأخراه، قال الله جل وعلا:
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا
[مريم:72].
عباد الله! إن الصوم عبادة وأي عبادة، جاء في الحديث القدسي: (
كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)، وقد اختلفت عبارات أهل العلم في تحديد معنى هذا اللفظ القدسي، وأظهرها -والعلم عند الله- أن الصوم أحد الأركان الأربعة العملية من أركان الإسلام، فالثلاثة غير الصوم وقعت لغير الله إما جهلاً وإما كرهاً وإما طوعاً، فكم من طواغيت عبر التاريخ كله أمروا الناس أن يركعوا ويسجدوا لهم ويعظموهم تعظيماً لا يليق إلا بالله، فوقع ما يشابه الصلاة لغير الله، وإن كان فاعلها لا يعد مسلماً.
وأما الزكاة فالأصل فيها أخذ المال، فوقعت لغير الله، فكم من طواغيت وسلاطين متجبرين جمعوا الأتاوات، وأخذوا الأموال طوعاً أو كرهاً أو جهلاً من الناس.
وأما الحج فالأصل فيه الطواف حول البيت العتيق، وكم من الطواغيت والسلاطين عبر التاريخ الذين أمروا الناس أن يطوفوا حول عروشهم ويعظموهم، ووقع ذلك كذلك من بعض من ينتسب إلى الإسلام ممن يطوف حول الأضرحة والمشاهد والقبور، ويظن أن أصحابها ينفعون شيئاً.
لكن التاريخ كله لم يشهد ولم يقع فيه أن أحداً صام لغير الله؛ لأنه لا يوجد أحد ممن يزعم أنه مستحق للعبادة طلب من الناس أن يعبدوه صياماً؛ لأن ذلك يكلفه أكثر مما يطيق، ولهذا يظهر والعلم عند الله أن المعنى الحقيقي لقوله: (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) أنه عبادة لا يمكن أن تقع لغير الله، ولهذا اختصها الله جل وعلا لنفسه، وأضافها تبارك وتعالى لذاته العلية إضافة تشريف.
أيها المؤمن! إنك لن تصوم أكمل من هدي محمد صلوات الله وسلامه عليه، فإذا تأمل المؤمن في سنة أحمد صلوات الله وسلامه عليه عرف الطريق الأقوام والسبيل الأمثل إلى صيامه، فتسحر نبيكم صلى الله عليه وسلم قريباً جداً من صلاة الفجر، وقال: (
تسحروا فإن في السحور بركة)، رواه
البخاري رحمه الله من حديث
أنس ، فيتسحر المؤمن حتى يتقوى على طاعة الله، وهو لا يمتنع عن الطعام امتثالاً لأمر طبيب، ولا تقرباً لحبيب، وإنما يصوم رغبة فيما عند الله من الأجر، وامتثالاً لما كان من الله من الأمر.
وأفطر نبيكم صلى الله عليه وسلم على رطبات، فإن لم يجد فتمرات، فإن لم يجد حسى حسوات من ماء، ثم يفزع صلى الله عليه وسلم ويقوم إلى الصلاة، وأخبر في الحديث القدسي أن الله يقول: (أحب عبادي إلي أعجلهم فطراً).
إن المؤمن يمتنع عن الأكل والشرب وما أباحه الله له من الجماع وهو يقدر على ذلك كله؛ رغبة فيما عند الله من الأجر، وامتثالاً لأمر ربه، فإذا انقضى وقت الأمر الإلهي، وانتهت المدة التي حددها الله فزع المؤمن إلى الطعام والشراب؛ يظهر إلى الله جل وعلا فقره، ويقول لربه بلسان الحال: ما أحوجني إلى الطعام والشراب وإلى فضلك، وإنما امتنعت عنه لما أمرتني، فلما أبحت لي أن آكل أكلت، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي صلوات الله وسلامه عليه، والخير كل الخير في هديه واتباع سنته، وامتثال أمره ولزوم هديه.
عباد الله! إن المؤمن يجمع إلى تلك العبادة العظيمة بعضاً من العبادات وأفعال الخير التي ثبتت عن رسولنا صلى الله عليه وسلم، فقد أكثر نبيكم عليه الصلاة والسلام من الصدقة في رمضان، خاصة إذا لقيه جبريل فإنه يكون أجود من الريح المرسلة، وقد جاء رجل إلى أمير المؤمنين
عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأله الصدقة فقال:
يا عمر الخير جزيت الجنة اكس بنياتي وأمهنه
وكن لنا من الزمان جنة أقسمت بالله لتفعلنه
قال عمر : وإن لم أفعل يكون ماذا؟
قال: إذاً أبا حفص لأمضينه
قال عمر : وإن مضيت يكون ماذا؟
قال:
إذاً أبا حفص لتسألنه يوم تكون الأعطيات هنه
وموقف المسئول بينهنه إما إلى نار وإما جنة
جعلني الله وإياكم من أهل جنته.
إن إعطاء الفقراء، ومواساة ذوي القربى، وإجابة السائلين رغبة فيما عند الله من الخير من أعظم ما يدل على حسن الظن برب العالمين جل جلاله، فما تعطيه بيدك يخلفه الله جل وعلا عليك، والله تبارك وتعالى خير الرازقين.
إن العمرة في رمضان أيها المؤمنون! مرغب فيها شرعاً، قال صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (
عمرة في رمضان تعدل حجة)، وفي رواية لـ
مسلم : (
عمرة في رمضان تعدل حجة معي) صلوات الله وسلامه عليه، فالإتيان بها في رمضان قربة وأي قربة، لكن لا يكلف الإنسان نفسه ما لا يطيق، ولا يتعرض لأذى الناس إذا أدى العمرة، وإنما يؤديها طلباً للمغفرة من الله، وسعياً إلى نيل رحمة أرحم الراحمين جل جلاله.
عباد الله! وكما أن رمضان شهر القرآن، فرمضان أيضاً شهر القيام، قال صلى الله عليه وسلم: (
من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، وصلاة الليل كنز الأبرار، وموئل المتقين الأخيار، يتعبدون الله بها العام كله، فإذا كان رمضان عظم اجتهادهم، وكثرت طاعتهم، وزادت صلواتهم.
وقد شرع لكم نبيكم صلى الله عليه وسلم صلاة التراويح، ابتدأ سنيتها ثلاثة ليال أو أربع، وكان في حياته مازال الوحي ينزل، فخوفاً وشفقة على الأمة أن تفرض عليهم هذه الصلاة امتنع صلى الله عليه وسلم عن الخروج، لكن الناس كانوا يصلونها أرسالاً، وفعلوا كذلك في أيام أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وصدراً من خلافة أمير المؤمنين عمر ، فدخل عمر المسجد ذات يوم كما روى البخاري في الصحيح من حديث عبد الرحمن بن عبد القاري أن عمر دخل المسجد فوجد الناس يصلون التراويح أرسالاً، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال رضي الله عنه وأرضاه -وهو المحدث الملهم، المتبع لسنة محمد صلى الله عليه وسلم- قال: لو جمعت الناس على قارئ واحد لكان أكمل. فجمع الناس على أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه.
ثم دخل المسجد فإذا الناس يصلون بقارئ واحد فقال رضي الله عنه وأرضاه: نعمة البدعة هي، والتي ينامون عنها خير من التي يقومون لها.
أي: لو كانت هذه الصلاة في آخر الليل لكان أكمل، وربما فعلها عمر في أول الليل؛ شفقة على الضعفاء وكبار السن، ومراعاة لأحوال المسلمين.
وأما تحديد عددها فالأمر فيه واسع، قال
الشافعي رحمه الله -وهو يمثل أنموذجاً لصالح الأسلاف رضي الله عنهم وأرضاهم- قال: أدركت الناس في المدينة يصلون تسعة وثلاثين، وأدركت الناس في مكة يصلون ثلاثة وعشرين، وليس في ذلك كله من الأمر ضيق، فالأمر فيه واسع.
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ما زاد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة، لكن السلف معاذ الله أن يتركوا سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، والأمر في هذا واسع، فمن صلى إحدى عشرة ركعة، أو صلى تسعة وثلاثين، أو صلى ثلاثاً وعشرين، أو زاد على ذلك أو نقص فكل ذلك جائز، والمقصود الأسمى والغاية العظمى أن يقوم الإنسان لرب العالمين جل وعلا في الليل، ومن ائتم بإمام فالأفضل والأكمل ألا ينصرف حتى ينصرف إمامه.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال، وجعلنا الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الاهتمام بالطاعات في شهر رمضان
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد:
عباد الله! فلنتذكر ونحن نستقبل شهراً مباركاً أن الله جل وعلا أفسح لنا في الأجل، ومد لنا في العمل، وكم من عبد مرهون في قبره لا يستطيع الخروج منه ليقدم أو يؤخر، فاحمد الله أيها المؤمن! أن الله جل وعلا أكرمك بأن بلغك شهراً مباركاً هو شهر رمضان، فازدد من الطاعات، وسابق في الخيرات قبل حلول الأجل، وقبل فوات الأمل، فالدنيا كلها زهرة حائلة ونعمة زائلة، ولابد من ملاقاة الله.
عباد الله! إن من الغفلة كل الغفلة أن يجعل الإنسان من أيام رمضان ولياليه كأيام العام كلها وليالي العام كلها، فلا يغير من حياته شيئاً، ولا يتقرب إلى الله بتوبة، ولا يعزم أبداً على قراءة القرآن، ولا يُرى في المساجد لا في صلاة تراويح ولا في غيرها، كل هذا والعياذ بالله من الغفلة والران على العبد، نسأل الله لنا ولكم العافية.
فلابد من إخلاص النية، وعقد العزم، وإقامة العمل، والصبر والمصابرة في ذات الرب تبارك وتعالى؛ طلباً للأجر، ودفعاً للوزر، وإرضاء للرب جل جلاله.
عباد الله! ولئن كان ذلك من الغفلة فإن من الجرءة العظيمة على الله أن يعمد الإنسان في شهر مبارك كهذا إلى العلاقات المحرمة، والخلوات الآثمة، وإلى الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فيحارب الله جل وعلا بها بكرة وعشياً، فيستره ربه وهو يمشي في معاصيه غير نادم على ما كان منه، ولا يعرف لله قدراً، ولا من الناس حياءً، ولا للشهر حرماً، فمثل هذا تعظم في القبر هلكته، وتزداد في يوم القيامة حسرته، قال الله جل وعلا:
أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ
[المجادلة:6].
فليبادر كل امرئ منا بالتوبة إلى الله جل وعلا، وليعلم أنه ما حمل أحد على ظهره وكاهله شيئاً أعظم من الذنوب، قال الله جل وعلا:
مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا
[نوح:25]، وقد جعل الله من شهر رمضان فرصة عظيمة للتوبة، قال صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (الصلوات الخمس، والعمرة إلى العمرة، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن من الذنوب)، فاجعلوا من أيام هذا الشهر المبارك فرصة سانحة لتقوى الله جل وعلا؛ حتى تغفر ذنوبكم، وتستر عيوبكم، وكلنا جميعاً ذو ذنب وعيب، نسأل الله الغفران وستر العيوب كلها.
الإكثار من الدعاء في هذا الشهر المبارك