إسلام ويب

دنت بشائره 2للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن المؤمن الدارس للسيرة النبوية يدرك من خلال حدثين مهمين وهما: غزوة بدر، وفتح مكة؛ يدرك فوائد جمة وعبر كثيرة تنير له طريقه إلى الله، وتبصره بحقائق فذة، لذا ينبغي للمؤمن أن يتدارس تلك السيرة العطرة، ويستخلص منها المعاني العظيمة، والدلالات السامية، ثم يجعل ذلك نبراساً يضيء له الدرب إلى الله تعالى.
    الحمد لله الذي خلق خلقه أطواراً، وصرفهم كيفما شاء عزة واقتداراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ عن الله رسالاته، ونصح له في برياته، فجزاه الله بأفضل ما جزى به نبيناً عن أمته.

    اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه، وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    عباد الله! فإن تقوى الله أعظم الوصايا وأجل العطايا، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1-2].

    عباد الله! لقد اقترن شهر رمضان بحدثين كريمين مباركين وقعا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هما يوم بدر يوم الفرقان، ويوم فتح مكة يوم علو الشأن.

    أيها المؤمنون! لقد تجلت في هاتين المعركتين أو في هذين الحدثين الجليلين معان عظيمة، ودلائل سامية، وعظات بالغة لمن ألقى السمع وهو شهيد.

    عباد الله! لعل من أعظم ذلك وأجله يقين المؤمن بعد أن يتدارس السنة والسيرة العطرة والأيام النضرة، وهذين الحدثين على وجه الخصوص: أن يعلم أن الأمور إنما تدبر في الملكوت الأعلى، وأن الله جل وعلا وحده الفعال لما يريد، فلا يقع في الكون إلا ما أراده الله، خفي ذلك عن البعض أو ظهر، فذلك أمر الله جل وعلا وحده.

    فقد ذكر الله جل وعلا مسيرة الركب، -أي: قافلة أبي سفيان - وذكر الرب تبارك وتعالى خروج خير الخلق صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وذكر تبارك وتعالى خروج قريش تستنصر لقافلتها، كل ذلك وكل منهم كان يحسب أمراً ووقع آخر، قال الله جل وعلا: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا [الأنفال:42].

    وخرج صلى الله عليه وسلم يوم بدر يطلب العير، وخرجت قريش تنتصر لقافلتها، ونجا أبو سفيان بالقافلة، لكن الله جل وعلا أخر وقدم في إخبار كل أحد بما وقع؛ حتى يلتقي الفريقان، ويلتحم الجيشان، ثم يكون يوم الفرقان كما أراد ربنا تبارك وتعالى؛ نصرة لنبيه، وإظهاراً لدينه، وإعلاء لشأن كلمة التوحيد التي بعث الله بها الرسل، وأنزل الله جل وعلا من أجلها الكتب.

    إكرام الله لرسوله في هاتين الوقعتين

    أيها المؤمنون! لقد تجلى في هذين الحدثين العظيمين إكرام الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فالصبر مطية وأي مطية أعطاها الله جل وعلا أنبياءه ورسله، ولهذا قال الله مخاطباً خير خلقه، فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35].

    ولما سجد نبيكم صلى الله عليه وسلم أيام البعثة الأولى عند الكعبة انتدبت قريش رجلاًمنها يضع على ظهره الشريف -وهو أكرم الخلق على الله- سلى الجزور، فمكث سلى الجزور على ظهره الشريف ما شاء الله له أن يمكث، وعبد الله بن مسعود مسلم حاضر لا يستطيع أن ينتصر لنبيه، فبعث رجل رسولاً إلى فاطمة ابنته، فجاءت فاطمة وحملت سلى الجزور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نظر صلى الله عليه وسلم إلى أولئك الذين ائتمروا عليه وتهكموا به، فدعا عليهم وهو عند الله نبي وأي نبي، وكريم وأي كريم.

    قال ابن مسعود وقد شهد الواقعة الأولى: فلقد رأيت من دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى يوم بدر في القليب -قليب بدر- فانظر أيها المؤمن ما هي إلا سنوات ثم انتقم رب الأرض والسماوات لخير من ختم الله به الرسل، وأتم الله به النبوات.

    وفي أيام البعثة الأولى هم صلى الله عليه وسلم أن يدخل الكعبة فمنعه عثمان بن أبي طلحة سادن الكعبة يومئذ من دخول البيت، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا عثمان ! كيف بك إذا كان المفتاح بيدي أضعه بيد من أشاء، فقال عثمان : لقد ذلت قريش يومئذ وهانت)، ثم مضت السنون ومرت الأعوام والله جل وعلا يحفظ نبيه وينصره ويكلأه، حتى دخل صلى الله عليه وسلم الكعبة يوم الفتح عزيزاً وما كان ذليلاً قط، وكان منيعاً محفوظاً بحفظ الله جل وعلا له، فكبر في نواحيها، وصلى بالبيت ركعتين، ولما هم بالخروج أنزل الله جل وعلا عليه وهو عليه السلام عند عضدتي باب الكعبة: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، فقال صلى الله عليه وسلم بعدما خرج: (أين عثمان بن طلحة؟ قال: أنا هنا يا رسول الله! فأعطاه النبي مفتاح الكعبة كما أخبر به في الأول، وقال: خذوها يا بني شيبة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم)، فهي إلى اليوم فيهم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وقد صدق الله وهو أصدق القائلين: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173]، وصدق الله وهو أصدق القائلين: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف:110].

    أبعد هذا يتوكل على غير الله؟! أبعد هذا يلجأ إلى غير الله؟! أبعد هذا يؤمل أحد أن ينصره أحد غير الله؟! قال العز بن عبد السلام رحمة الله تعالى عليه: والله لن يصلوا إلى شيء بغير الله، فكيف يوصلوا إلى الله بغير الله؟! اللهم اجعلنا ممن توكل عليك فكفيته.

    ما تجلى في هاتين الوقعتين من محبة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم

    عباد الله! لقد تجلى في هاتين المعركتين العظيمتين محبة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لنبيهم صلوات الله وسلامه عليه، فآمنوا بأن الله واحد لا شريك له، وهو الذي بعثه، فأحبوا نبيهم ونصروه وعزروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، أناجيلهم في صدورهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

    الله يعلم ما قلبت سيرتهم يوماً وأخطأ دمع العين مجراه

    في تلك الغزوة وفي غيرها في كل محفل وموطن أثبتوا محبتهم ونصرتهم لرسول الله، وقد تجلى ذلك فيهم أفراداً وجماعات، فعلى مستوى الجماعة هو ظاهر في كل غزوة وموطن وسرية، وعلى مستوى الأفراد في يوم بدر وقف صلى الله عليه وسلم يقوّم صفوف الجيش قبل المعركة، فإذا بـسواد بن غزية رضي الله عنه وأرضاه بارز عن الصف، فطعنه صلى الله عليه وسلم بقدح كان معه في بطنه، وقال له: (استو يا سواد !) أي: ارجع إلى الصف، (قال: يا رسول الله! أوجعتني، وقد بعثك الله بالعدل والحق فأقدني، فكشف صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال له: استقد -أي: خذ حقك- فأقبل سواد على بطن رسول الله يعانقه ويقبله، فتعجب صلى الله عليه وسلم وقال: ما حملك على هذا يا سواد ؟! قال: يا رسول الله! قد حضر ما ترى -أي: من قرب الموت ودنو الأجل، فهذه ساحة معارك- فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك)، إنه أنموذج لتلك المحبة التي كانت في قلوبهم رضي الله عنهم وأرضاهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ولقد تجلت في الأنصار على وجه الخصوص الذين قال الله جل وعلا عنهم: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9].

    وكان الصديق رضي الله عنه إذا ذكر الأنصار ومواقفهم ومناقبهم يقول: لا أجد بيننا وبين هذا الحي من الأنصار إلا كما قال الأول:

    أبوا أن يملوا ولو أن أمنا تلاقي الذي يلقون منا لملتِ

    فرضي الله عنهم وأرضاهم، وجمعنا بهم في جنات النعيم مع رسولنا صلى الله عليه وسلم.

    عباد الله! إن وعد الله حق لا محالة، وما الدنيا إلا زهرة حائلة ونعمة زائلة، وكانت قريش عندما بعث نبينا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق يحذرهم يوم المعاد، ويوم البعث والنشور وحشر العباد، وهم يهزءون به ويسخرون منه، قال له العاص بن وائل وقد حمل رفات عظم: أتزعم يا محمد أن ربك يحيي هذا بعد موته؟ قال صلى الله عليه وسلم: (نعم ويدخلك النار).

    ثم كان ما كان من قتلى بدر، فوضعهم صلى الله عليه وسلم -أي: قتلى المشركين- في بئر مهجورة تعرف بالقليب، ثم وقف صلى الله عليه وسلم يناديهم: (يا أبا الحكم بن هشام يا شيبة بن ربيعة يا عتبة -يناديهم بأسمائهم- هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً، فقال له عمر رضي الله عنه: يا نبي الله! أتخاطب أقواماً قد جيفوا؟! قال: يا عمر ! ما أنت بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون جواباً).

    فيتذكر المؤمن هذا الموقف في الدنيا، ويعلم أن هناك في الآخرة يوماً يقال له عياذاً بالله يوم اللعنة، يفصل فيه بين أهل الإيمان وأهل الكفر، ويفصل فيه بين أهل الجنة وأهل النار، ويفصل فيه ما بين من يعملون الصالحات ويعملون السيئات، قال الله جل وعلا: وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [الأعراف:44].

    اللهم اجعلنا ممن يحيى يرتقب وعدك الحق ...........

    تجلي ما كان عليه النبي من رحمة وخلق حسن في هاتين المعركتين

    وتجلى في هاتين المعركتين ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من خلق جم وقلب رحيم، وقد بعثه الله رحمة للعالمين، فلما فدت قريش أسراها بعثت زينب ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلادة كانت أمها خديجة قد أعطتها إياها يوم فرحها؛ لتفدي بها زوجها العاص بن الربيع ، فلما رأى صلى الله عليه وسلم القلادة تذكر خديجة ورق لابنته زينب ودمعت عيناه صلوات الله وسلامه عليه.

    ولما وقف في مكة بعد أن من الله عليه بالفتح الأعظم والمقام الأكرم قال: (يا معشر قريش ! ما ترون أني فاعل بكم؟! قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال صلى الله عليه وسلم: اذهبوا فأنتم الطلقاء).

    أيها المؤمنون! عفو رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قدرته على من آذاه دليل على منزلته العظيمة التي تبوأها صلوات الله وسلامه عليه من الخلق الجم، والسلوك القيوم، ولا ريب أن الله جل وعلا قد تعاهده ورباه، قال عليه الصلاة والسلام: (إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمجندل في طينته).

    جعل الله الكعبة مثابة للناس وأمناً

    أيها المؤمنون! لقد جعل الله جل وعلا البيت الحرام قياماً للناس، وجعله الله جل وعلا مثابة للناس وأمناً، فحقه أن يعظم ويبجل شرعاً، فيعظم مادياً بتطهيره وإعداده للطائفين والعاكفين والركع السجود، ويعظم معنوياً بأن يذكر الله جل وعلا عنده، وأن يطاف حوله، وقد دخل صلى الله عليه وسلم الكعبة وطهرها من الأصنام، وصلى في البيت ركعتين، وطاف حول البيت، وأمر بلالاً أن يرقى على سطح الكعبة وأن يؤذن، وبقيت الكعبة إلى اليوم وستبقى إلى أن يهدمها ذو السويقتين منارة سامية، وقمة شامخة

    رمز الخلود وكعبة الإسلام كم في الورى لك من جلال سام

    وجعل الله جل وعلا البيت الحرام لنا قبلة، يقول صلى الله عليه وسلم: (قبلتكم أحياء وأمواتاً)، فنوجه إليها موتانا، ونتوجه إليه في صلاتنا، ولا نريد البيت وحجارته، لكننا نمتثل لأمر الله جل وعلا وشرعته، ونحن على كل حال عبيد أذلاء للكبير المتعال.

    جعلني الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089054480

    عدد مرات الحفظ

    781092079