فهذا استمرار لتعليقاتنا العلمية الموجزة على بعض أحاديث نبينا صلى الله عليه وسلم.
صح عنه صلى الله عليه وسلم -فيما أخرجه أبو داود في السنن- أنه قال: (المهدي مني أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملك سبع سنين، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً)، هذا نص الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما كلمة (المهدي) فهي وصف وليست اسماً، أي: وصف لهذا الرجل الذي سيخرج، وليست اسماً له، وجاء في بعض الأحاديث ذكر اسمه، حيث قال عليه الصلاة والسلام عنه: (يواطئ اسمه اسمي) أي أن اسمه كاسم النبي صلى الله عليه وسلم (محمد)، واسم أبيه كاسم أبي النبي صلى الله عليه وسلم (عبد الله).
قوله عليه الصلاة والسلام: (مني) أي: من ذريتي، ومعلوم أن هناك ما يعرف بـ(آل البيت)، لكن (آل البيت) كلمة أوسع ووصف أعم من قوله عليه الصلاة والسلام: (مني)؛ لأن (آل البيت) يدخل فيها كل من يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في جده هاشم ، فيدخل فيها آل عقيل، وآل جعفر، وأبناء علي من غير فاطمة ، فهؤلاء كلهم يجتمعون مع النبي صلى الله عليه وسلم في جده هاشم ، فيسمون آل البيت وتحرم عليهم الصدقة، كما يدخل فيهم حلفاً آل المطلب، والمطلب هذا أخ لـهاشم ، وكانت ذريته مع النبي صلى الله عليه وسلم في شعب أبي طالب لما حاصرته قريش، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن بني هاشم وبني المطلب شيء واحد. وشبك بين أصبعيه) ، فأدخل جمهور العلماء -بناء على هذا الحديث؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاهم من الخمس كما أعطى آل البيت- أدخلوا آل المطلب في آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا عام.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (مني) أي: من ذريتي، أي: من ذريته عليه الصلاة والسلام، ومعلوم أن النبي عليه السلام لم يُخَلِف ذكوراً، بل خلف ذكرين ماتا في حياته، فانقطع بذلك النسب الذي ينتسب إليه من جهة أولاده الذكور، وبقي له من الإناث أربع: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة ، فأما رقية وأم كلثوم فتزوجهما عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وأم كلثوم لم تنجب من عثمان أحداً، وأما رقية فأنجبت غلاماً فمكث حوالي ست سنين ثم مات، حيث نقره ديك في وجهه فانتفخ ثم مات، وأما زينب فولدت أمامة من أبي العاص بن الربيع زوجها، ثم ماتت دون أن تخلف، فلم يبق إلا فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، فزوجها النبي عليه الصلاة والسلام بعد منصرفه من بدر من علي رضي الله عنه وأرضاه، فولدت له الحسن والحسين ومحسناً ، فأما محسن فتوفي وهو صغير، فبقيت الذرية التي تنتسب إليه صلى الله عليه وسلم محصورة في ذريته عليه الصلاة والسلام من الحسن والحسين رضوان الله تعالى عليهما، فقوله عليه الصلاة والسلام: (لمهدي مني) أي: من ذرية الحسن أو من ذرية الحسين ، وجمهور أهل السنة على أن الأحاديث تدل على أنه من ذرية الحسن بن علي ، وأن اسمه محمد بن عبد الله ثم ينتهي نسبه إلى الحسن بن علي ، فهو من جهة أبيه ينتهي إلى الحسن بن علي بن أبي طالب ، وإذا وصلنا إلى الحسن فإنه يتفرع من جهة أمه فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (لمهدي مني).
ومعلوم قطعاً أن هؤلاء الأئمة الذين تؤمن الشيعة بعصمتهم لا يقترفون ذنباً لتعلق الشيعة خطأً بهم، فالنصارى عبدت عيسى ابن مريم، وقالوا: إنه ثالث ثلاثة، ولكن هذا لا يقدح في عيسى ابن مريم، فعيسى ابن مريم نبي رسول الله أثنى عليه في القرآن بقوله: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ [النساء:171] ، وقال: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [آل عمران:59] فهو نبي من أولي العزم من الرسل له مكانة، فنحن نؤمن به كما يؤمن به النصارى، ولكن نؤمن به نبياً، أما النصارى فيؤمنون به إلهاً أو ابناً لله، والذي يعنينا أن غلو النصارى في عيسى لا يغير من عيسى شيئاً، وكذلك غلو الشيعة في الأئمة الإثني عشرية لا يغير في الأئمة شيئاً، فأولئك من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم ولهم مقام جليل في الدين، فهم يُبدءون بـعلي ، وعلي صحابي، ويُثَنُون بـالحسن والحسين ، والحسن والحسين يقول فيهما النبي صلى الله عليه وسلم: (سيداً شباب أهل الجنة)، ويربعون بـعلي زين العابدين ، وهذا من أعظم الصالحين في عصره، وهو الذي قال فيه الفرزدق :
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم
ويخمسون بـجعفر ابنه، وجعفر إمام معروف، ولكن غلو الشيعة فيه حرم الناس من علمه، وإلا فإن أبا حنيفة رضي الله عنه أدركه وأخذ عنه العلم، ويسدسون بـمحمد الباقر ، وسمي الباقر على وزن (فاعل) من بقر، أي: يبقر العلم ويشقه شقاً، فكان إماماً في العلم، ولكن غلو الشيعة فيه أضاع علمه.
والذي يعنينا أن الأئمة حقاً أكثرهم صالحون من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن غلا هؤلاء فيهم وقالوا بعصمتهم، والعصمة لا تثبت إلا للأنبياء والرسل فقط، يقول الخميني في كتاب له اسمه (الحكومة الإسلامية): وإن من أصول مذهبنا أن لأئمتنا منزلة لا ينالها ملك مقرب ولا نبي مرسل.
ويقول عنهم بأن لهم من الخصائص ما تخضع به لهم جميع ذرات الكون، ويعطى هذا لـفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم أحياناً، فهذا القول في الأئمة مردود، فقوله في حق رجل من آل بيت رسول الله: إنه تخضع له جميع ذرات الكون، وإن له منزلة لا ينالها ملك مقرب ولا نبي مرسل باطل.
فيُرد قوله ويبقى إجلالنا لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو دون أن نخلط بين الموقفين.
فالمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيكون في آخر الزمان يملأ الأرض عدلاً؛ لأن الناس لا يمشون إلا بقائد، فمهما صفت الأمة وتربت من دون قائد فإنها لا يمكن أن تسير، فهو يأتي والأمة أحوج ما تكون إلى قائد، فيكون قائداً لها فيحكم رضي الله عنه سبع سنين.
وقد كلمني واحد مرة بالهاتف وهو يزعم أنه المهدي، فجلست معه ساعة إلا ربعاً أقنعه بأنه ليس المهدي، فلم يقتنع، مع أنه ليس من آل البيت ولا اسمه محمد ولا أبوه عبد الله، وكم في آل البيت من اسمه محمد واسم أبيه عبد الله وليس مهدياً.
فهذا عنده معلومات ولكنه مسكين، فأراد أن يطبقها على الواقع حتى يتخلص.
وهذه معاناة تعانيها الأمة، فهي تعاني من قضية الربط بين شيئين: بين واقع مشهود تلحظه بعينك، وهو الأمة وما فيها من ذل وهوان، وبين غيب منشود، وهذا الغيب ثبت في الأخبار أنه سيعلو، ولكن هؤلاء ما استطاعوا أن يربطوا ربطاً حقيقياً بين واقعهم وبين الأمل الذي ينتظرونه، فظهر في الأمة كثيرون لا داعي لذكر أسمائهم فتسموا بالمهدي، وبعضهم سمى بالمهدي على أمل أن يكون هو، ثم يموت، كبعض خلفاء بني العباس، ولكن أتى أقوام ويزعم الواحد منهم أنه المهدي، فالمهدي قال عنه عليه الصلاة والسلام: (يبايع له بين الركن والمقام) ، وهذه واحده من مئات الصفات في المهدي، مثل رجل تبعثه برسالة أو بغيرها إلى أخ لك في حي آخر، فتقول له: هذا الذي أنا بعثتك إليه يسكن في عمارة مكونة من عشرة أدوار، ثم أخذت تصف كل دور ووصفت الباب ووصفت الجهة التي هو فيها، فهذا المسكين عندما ذهب وجد أول عمارة عشرة أدوار، فقال: هذه العمارة التي يقول عنها فلان، فالحمد لله أنني ما ضيعتها مع أنه قد يكون هناك مئات العمارات المكونة من عشرة أدوار.
ففتنة الحرم التي حصلت عام (1401)هـ أخذ أصحابها من الحديث كله أنه (يبايع له بين الركن والمقام)، فجاء الذي قام بالفتنة وجاء برجل اسمه محمد بن عبد الله وجعله بين الحجر الأسود والمقام، وأعطاه بيعة، واعتقد أن الشرط الوحيد الذي يبحث عنه قد حصل عليه، والأمور لا تفرض فرضاً هكذا، ولذلك قال بعض السلف قديماً: المهدي لا تبحث عنه؛ لأن حضوره ووقوعه حق لا ينكر، فهو إذا وجد سيأتي لا محالة، وسيتم أمره حتى لا يبقى أي لبس ولا شبهة في أنه المهدي، فلا يتعجل الإنسان ظهوره، فالمهدي شرط من أشراط الساعة، والناس فيه على ثلاثة أقسام:
إما رجل على علم به، وهذا هو شأن علماء أهل السنة من حيث الجملة.
وإما غال في إثباته.
وإما منكر جاف في إنكاره.
وبيان هذا على الوجه التالي:
فالذين غالوا في إثباته هم الذين كلما ظهرت حرب أو ظهرت معركة أو ظهر زعيم أو ظهر قائد أو انتصرت الأمة بعد نكسة قالوا: هذا هو المهدي، وهذا حصل في مصر وحصل في السودان وحصل في كثير من الدول الإسلامية، وحصل في جزيرة العرب في القرامطة، فكلما ظهر رجل وعلا قالوا: هذا هو المهدي.
والآخرون على العكس، حيث قالوا: هذا يضيع الأمة ويشتتها ويجعلها تتكل على غيبيات والدين، لم يأت بالغيبيات، فلا يوجد مهدي، ولا مهدي عندهم إلا عيسى ابن مريم، وممن نحى هذا المنحى ابن خلدون رحمه الله عليه -على علمه- في المقدمة، وتبعه عليه بعض العلماء المعاصرين، فأنكروا مسألة المهدي بالكلية، وهذا الأسلوب خطأ، فلا ترد السنة لوجود ناس لا يفقهون.
والذي عليه حفاظ الأثر كشيخي الصحيح مع أهل النظر أن المهدي حق سيقع، وأنه من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه الله جل وعلا سيصلحه في ليلة، وأن الرب تبارك وتعالى سيملأ به الأرض عدلاً كما ملئت جوراً.
والذي يعنينا في هذا كله أن الله جعل هذه الأشراط والعلامات ليستعد الناس للبعث، ويستعد الناس للنشور؛ فما الأشراط ولا خروج المهدي ولا خروج الدجال ولا نزول عيسى ولا طلوع الشمس من مغربها ولا خروج الدابة إلا إرهاصات لقيام الأشهاد وحشر العباد بين يدي الله.
وقال لـعمار : (تقتلك الفئة الباغية) ، فـعمار رضي الله عنه وهو في جيش علي كان يعلم أنه على الحق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (تقتلك الفئة الباغية)، فجعل من الحديث دليل ثبات، وقد عمر رضي الله عنه كثيراً، وكان رجلاً طويلاً ترعش يداه في الحرب ومعه حربة، وقد قال له النبي عليه الصلاة والسلام: (لن تموت حتى تقتلك الفئة الباغية، تشرب شربة ضياح تكن آخر رزقك من الدنيا)، فكانوا وهو في الجيش يقولون: ستموت الآن. فيقول: لا، فما شربت لبناً بعد. حتى عطش وهو في الحرب، فطلب لبناً ثم شربه في الحرب ثم قتل رضي الله عنه وأرضاه، فالنبي صلى الله عليه وسلم أعلمه بأنه على الحق فاستثمر الحديث.
وقال عليه الصلاة والسلام لـأبي ذر : (اعتزل الفتن) وأخبره بأنه لا يصلح لولاية، وبين له أن أبا ذر فيه ضعف، والضعف لا يصلح به الإنسان زعيماً ولا قائداً، مع أن أبا ذر رضي الله عنه يبعث أمة وحده، وهو أصدق من أقلت الغبراء وأظلت الخضراء، ومع ذلك حذره النبي صلى الله عليه وسلم من الدخول في متاهات الناس فاعتزل ومات بالربذة رضي الله عنه وأرضاه.
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن التتار بأنهم ترك، وقال عليه الصلاة والسلام: (اتركوا الترك ما تركوكم) فهذا الحديث كانت مخالفته عظة لعل إنسان لا يعمل بالنص، وذلك أن خوارزم شاه كان من ولاة المسلمين في جهة إيران، وكان جنكيز خان المغولي الذي أثخن في المسلمين بعيداً ليس له علاقة أبداً بالمسلمين، فبعث تجاراً، فقدم هؤلاء التجار هؤلاء التجار قدموا على نائب لـخوارزم شاه فقتلهم، فلما علم جنكيز خان بأنه قتلهم -وليس في نيته أن يغزو بلاد المسلمين- بعث إلى خوازرم شاه يقول له: بلغني أن نائبك على بلاد كذا وكذا قتل التجار، ولم تجر عادة الملوك بقتل التجار، فإن كنت لا تعلم فاعلم وخذ لنا القصاص من نائبك.
فماذا فعل غفر الله له؟! لقد قتل الرسول، فلما بلغ جنكيز خان أنه قتل الرسول وقتل التجار عمداً داهم تلك البلاد وفعل ما فعل، حتى قال ابن كثير رحمه الله: فقتل قتلاً لم يعلم ولم ينقل أبشع منه كله، وذك لمخالفة وصية النبي صلى الله عليه وسلم.
وبعض الناس يقرأ أحداث الساعة، فيقدم رأيه وعقله على قول النبي صلى الله عليه وسلم، والأمور لا تساق هكذا، فهناك هدي بينه الله وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا كنت تريد أن تحكم عقلك فهذا شيء آخر، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام ما ترك خيراً إلا دل أمته عليه، ولا شراً إلا حذر أمته منه، والناس كلهم صادقون في محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الصدق يلزم معه أمر آخر، وهو العلم، والعلم يلزمه أمر أعظم منه، وهو الصبر، فقد تجد في أحد الناس علماً ولكن ليس لديه صبر على أن ينفذ العلم الذي يعلمه، فكل الناس يعلمون أن الإنسان لن يموت إلا بأجله، ولكن ليس كل الناس يصبرون على البلاء رغم اتفاقهم في العلم، وكل الناس يعلمون أنه إذا ابتلي فذلك رفع للدرجات وتكفير للخطايا، ولكن ليس كل أحد يصبر على هذا العلم الذي يعلمه.
فكذلك التعامل مع الأحداث التاريخية يحتاج إلى صبر؛ لأنا لا نشك في أن الناس يحبون نبيهم، فكل المسلمين برهم وفاجرهم يحبون نبيهم، ولكنهم يحتاجون إلى علم، ثم إلى صبر، فليس كل من معه علم لديه صبر، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرى أصحابه يُقتلون أمامه، ويضربون ويؤذون، ويمر على عمار وعلى ياسر أبي عمار ، وتقتل سمية من أجله، وقد كانت قبل بعثته صلى الله عليه وسلم مبجلة عند أبي جهل ، وكان ياسر مرفوع المقام عند أبي جهل ، فمن أجله قتلوا، وكان يمر عليهم ويقول: (صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة) .
فالمراد أن الأحداث التاريخية تُنَزَّل بحسب الواقع حتى يصل الإنسان إلى مراده، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (ولكنكم قوم تستعجلون)، فيحتاج الإنسان إلى عمل، ويحتاج إلى يقين، ويحتاج إلى أناة، ويحتاج إلى أن يستظل بعلم الشرع الذي علمه الله لرسولنا صلى الله عليه وسلم.
إن الإخبار بالغيبيات لا يعني أن يطلبها المرء لأنها قادمة، بل إذا وقعت وهو موجود يتعامل معها على منهاج محمد صلوات الله وسلامه عليه.
وهذه الفتن ترتقي وتعتلي وتصعد وتكبر كلما دنت الساعة، وهذه سنة الله جل وعلا في خلقه.
والله جل وعلا قد بعث أنبياء شتى ورسلاً إلى أمم شتى، وأخبر جل وعلا بأن هذه الأمة هي آخر أمة، وأن نبيه صلى الله عليه وسلم هو آخر الأنبياء.
وما السر في أن جميع الأنبياء يحذرون أممهم من الدجال؟
إن السر في ذلك أن الفتن في غير الدجال تتعلق -في الغالب- بادعاء النبوة، ولكن فتنة الدجال في ادعاء الإلهية، وقد يأتي إنسان ويقول: كذلك فرعون والنمرود كل منهما زعم أنه إله!
والجواب عن هذا أن النمرود وفرعون لم يكن بأيديهما شيء يثبتان به للناس أنهما قريبان قريبين من القدرة الإلهية إلا القتل، كما قال تعالى عن فرعون: قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ [الأعراف:127] ، والنمرود يقول: أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ [البقرة:258]، ولكن ليس لديه شيء يخدع به الناس، فكشف عواره للناس ظاهر جداً، ولذلك رضخ الناس للنمرود ورضخوا لفرعون من باب سلطان القوة لا من باب سلطان القناعة، فلا يسمى النمرود ولا يسمى فرعون فتنة بالمعنى الحقيقي للخوض في قضية الإلهية، أما الدجال فإن الله جل وعلا يعطيه بأمره تبارك وتعالى فتنة للناس عن طريق بعض الأمور التي يلبس بها عليهم، وهذا اللبس هو الذي خاف منه النبي صلى الله عليه وسلم، فحذر المؤمنين من الخروج إليه، وأخبر بأن الرجل يأتيه يظن أنه مؤمن، وأنه لا يلتبس عليه شيء، ومع ذلك يقع في فتنته، وقد قال العلماء: إن الآثار تدل على أن الدجال يظهر في مرحلة يقل الحديث عنه فيها بين الناس.
فهذا الدجال فتنته هي في أنه يزعم أنه هو رب العالمين، وأنه هو الخالق وهو الرازق وهو المدبر، وله مع ذلك علامات سيأتي الحديث عنها.
وبنو إسحاق هم الروم، وهم أكثر الأوربيين اليوم؛ لأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ولد له إسحاق وإسماعيل، فمن ذرية إسماعيل كان العرب، ومن ذرية إسحاق كان يعقوب عليه السلام، وهو إسرائيل المذكور في القرآن، فبنو إسرائيل هم بنو يعقوب.
والابن الثاني لإسحاق هو العيص، ومن ذرية العيص نشأ الروم المعاصرون والذين قبلهم، ويعرفون اليوم بالأوروبيين، فهؤلاء قال عنهم صلى الله عليه وسلم: (سمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب منها في البحر؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال: أما إنه سيدخلها سبعون ألفاً من بني إسحاق بغير سهم ولا سلاح غيره، يقولون: لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط جانب منها، ثم يقولون في الثانية: لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط جانب منها، ثم يقولون: لا إله إلا الله والله أكبر فيفرج لهم ويدخلونها).
فهذا إخبار بأن هؤلاء مؤمنون؛ لأنهم قالوا لا إله إلا الله والله أكبر.
وكان غالب السابقين من العلماء يرون أن المدينة هي مدينة القسطنطينية، ولكن بعض علماء العصر ذهب إلى أنها القسطنطينية أو البندقية، وهو الشيخ عمر سليمان الأشقر ، وهو أردني الجنسية ويعيش في الكويت، وهو أحد علماء أهل السنة الكبار، فقد ذهب إلى المدينتين: القسطنطينية والبندقية المدينة المعروفة في إيطاليا، فقال -حفظه الله-: هي أقرب إلى البندقية منها إلى القسطنطينية. يعني أن وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه جانب منها في البر وجانب منها في البحر ينطبق على البندقية أكثر مما ينطبق على غيرها.
و الذي يعنينا -سواء وكانت القسطنطينية أم كانت البندقية أم كانت غيرهما- أن خبر النبي صلى الله عليه وسلم سيقع، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحدد المدينة اسماً، وإنما حددها وصفاً، وفي التأصيل العلمي لا يجوز الجزم بشيء لم يجزم النبي صلى الله عليه وسلم به، ولا ننزل الأوصاف كما يحلو لنا.
فهذه إرهاصات تكون قبل خروج الدجال؛ لأن في آخر الحديث: (ثم يسمعون بخروج الدجال)، فهذا يدل على أن هذا الأمر يقع قبل خروج الدجال، ثم يخرج الدجال.
وكذلك سرعته في الأرض؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما سُئل عنه: (كالغيث استدبرته الريح) ، كناية عن سرعة تجواله في الأرض، حتى يأتي المدينة ولها يومئذ سبعة أبواب، فإذا جاء من الباب الذي هو جهة جبل أحد ضربته الملائكة على وجهه وترده إلى الشام ليهلك، فيخرج من المدينة إلى الشام، وفي الشام يهلك على يد عيسى ابن مريم كما سيأتي في آخر الخبر.
ومن فتنته أنه معه نهران -كما في صحيح مسلم من حديث حذيفة - ماء ونار، فالذي معه على أنه نار ترى رأي العين هو ماء أبيض عذب، والذي معه على أنه ماء يُرى رأي العين هو نار تتأجج، أي: ماؤه نار وناره ماء.
والنبي عليه الصلاة السلام شفيق بالأمة، والإنسان إذا كان فيه حدبة وشفقة بالناس فإنه لا يذكر أشياء عظيمة جداً يبحث الناس عنها في المعاجم حتى يعرفوا مراده، وإنما يأتي بالأمور ميسرة؛ لأنه يريد إنقاذهم، ولا يريد أن يبين فصاحته وبلاغته، فقال صلى الله عليه وسلم: (فإما أدركن أحد) أي: إذا أدرك أحد منكم الماء والنار (فليغمض عينيه) يعني: إذا ابتليت بهذا فاغمض عينيك، والإنسان إذا أغمض عينيه لن يرى النار على أنها نار أبداً، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ثم ليطأطئ رأسه فيشرب منه، فإنه ماء بارد).
ولهذا الأمر مثال يسير، وهو أنك في بيتك إذا أردت أن تعطي ابنك الدواء لمصلحته فإن الابن إذا رآك تخلط الأدوية فإما أن يشمئز، وإما أن يخاف، وإما أن يفزع، فتقول له وأنت تريد منه أن يشرب اغمض عينيك حتى يسهل عليه الشرب، ولا ما يرى ما يشربه فيمنعه ذلك من الشرب.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يأتي بشيء يعرفه الناس، فقال: (وليغمض عينيه) ؛ لأنه لو فتح عينيه سيراه ناراً، فإذا طأطأ رأسه وشرب سيجد أنه ماء عذب وليس بنار كما يرى، بخلاف الأول، وهذا مما أعطاه الله جل وعلا للدجال.
قال عليه الصلاة والسلام: (ما من فتنة منذ أن خلق الله آدم إلى أن تقوم الساعة أعظم من الدجال)، ولكن يسهل الخلاص منه بالتوحيد، وبالجانب العملي بقراءة فواتح سورة الكهف أو قراءة خواتمها، فكل جاءت الأحاديث، وحسن للمؤمن أن يحفظ سورة الكهف كلها، وحسن -إن عجز- أن يحفظ خمس عشرة آية من أولها وعشر آيات من آخرها لتبقى حصناً في قلبه، وقد لا ندرك الدجال -نعوذ بالله من ذلك كله-، ولكن يبقى الإنسان آخذاً بالأسباب متبعاً للسنة متوكلا على الملك الغلاب.
ونقول: ليحذر المؤمن من أن يظهر للناس ما لا يبطن، وليستعذ من الكفر والنفاق خوفاً من أن يقع في المحذور، فهذا الذي على المؤمن أن يصنعه، والغيب لا يعرف بعقل ولا بتجربة، وإنما يعرف بالخبر الصحيح الصريح عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا مجمل ما أفاء الله علينا وبيناه في قضية خبر الدجال، سائلين الله لنا ولكم التوفيق، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر