إسلام ويب

سلسلة أعلام القرآن [جبريل، الكوثر، عزير، الفرقان]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ذكر الله عز وجل في كتابه الكريم أعلاماً لنا في كل علم منهم عبرة وعظة، ومنهم جبريل أمين وحي الله، والكوثر الحوض المورود، وعزير الرجل الصالح، ويوم الفرقان يوم أن فرق الله بين الحق والباطل..

    1.   

    تعريف عام بما ورد في القرآن من الأعلام

    إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين وإله الآخرين، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاءً أحوى.

    وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن هذه دروس ستخصص إن شاء الله جل وعلا للحديث عن أعلام القرآن.

    والعلم: هو أحد أنواع المعارف الست وأظهرها وأشهرها.

    وينقسم إلى ثلاثة أقسام: اسم، ولقب، وكنية، وبكلٍ جاء القرآن، وهذا الكتاب الذي بين أيدينا -كلام الله جل وعلا- ضمنه الله جل وعلا أعلاماً ذكرها في ثنايا هذا الكتاب العظيم، إما مدحاً، وإما ذماً، إما بأسمائها، وإما بألقابها، وإما بكناها.

    وقبل أن نشرع في البيان نقول: من المعلوم أن الرب تبارك وتعالى قال على لسان ملائكته: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ [مريم:64-65].

    ثم قال جل شأنه: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]. أي: لا أحد مثله جل جلاله، كما قال سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

    ولا يطلق لفظ الجلالة على أحد من الخلق، ولم يتسم أحد من الخلق بلفظ الجلالة، قال فرعون: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، ولم يقل: أنا الله.

    فلفظ الجلالة (الله) لم تطلق إلا على الرب سبحانه وتعالى، لا رب غيره، ولا إله سواه، ولهذا فلن نعرج في دروسنا هذه على التعريف بالرب تبارك وتعالى؛ لأمور:

    أولها: ما من الله به على المسلمين من العلم به جل وعلا، وإن كان هذا لا يغني؛ فإن معرفة الله من أعظم ما يقرب إليه، لكن نمط الدرس لا يتكلم عن الله جل جلاله، ولا يتكلم عن الأنبياء والمرسلين، رغم أنهم أعلام صالحون، عليهم الصلاة والسلام، فنبينا محمد وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح وإخوانهم جميعاً من النبيين والمرسلين، لن نتحدث عنهم في حديثنا عن أعلام القرآن؛ لأن الحديث عن الله سندرسه عن طريق المتون العقدية.

    والحديث عن أنبياء الله ورسله سندرسه عن طريق السيرة، أو قصص المرسلين، وإنما سنعرج على أعلام غير الأنبياء والمرسلين.

    فنقول: إن القرآن العظيم تضمن أعلاماً لأقوامٍ صالحين مثل: لقمان ، وعزير، وذو القرنين، كأمثلة.

    وتضمن أعلاماً لأقوامٍ فاسقين، مثل: قارون، وهامان، وفرعون، على القول: أن الفرعون اسم.

    وتضمن أعلاماً لأمكنة: كالمدينة، وعرفات، وبكة، والبيت العتيق، والمشعر الحرام.

    وتضمن أعلاماً على أزمنة، قال الله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ [البقرة:185]، فرمضان علم على شهر، وعلى زمان مخصوص.

    وتضمن أعلاماً على أصنام، قال جل ذكره: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى [النجم:19-20]. فاللات والعزى ومناة أعلام على أصنام.

    وتضمن أعلاماً على معارك، قال الله: يَوْمَ الْفُرْقَانِ [الأنفال:41]، وقال جل ذكره: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ [التوبة:25].

    فهذه بعض أنواع الأعلام في القرآن العظيم، والتي سوف نتحدث عنها إن شاء الله.

    1.   

    من أعلام القرآن جبريل عليه السلام

    ذكر جبريل في القرآن باسمه ووصفه

    ذكر الله جل وعلا جبريل في القرآن باسمه، وذكره بوصفه:

    ذكره الله باسمه فقال جل ذكره في سورة البقرة: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:97-98].

    وذكره الله جل وعلا في سورة التحريم ذكراً مشرفاً؛ لأنه ذكره ذكراً خاصاً وعاماً، قال الله جل وعلا: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم:4]. ومعلوم أن جبريل يدخل في قول الله: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم:4]، لكن الله جل شأنه خصه بالذكر لشرفه عليه السلام.

    وهذا الملك الكريم كما ذكره الله باسمه ذكره بوصفه فوصفه بأنه أمين غير ذي تهمة، قال الله تعالى: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [التكوير:24]. أي: بمتهم.

    وقال: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:193-195].

    وأضافه الله إلى ذاته العلية إضافة تشريف، قال جل شأنه: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا [مريم:17] أي: جبريل. فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [مريم:17].

    وهو عليه السلام أحد الملائكة، والملائكة خلق كثير لا يعلم عددهم إلا الله، قال الله: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31] فيدخل فيها الملائكة وغير الملائكة؛ لأن كل ذلك جند لله، لكنهم يأتون في المقدمة.

    جبريل سيد الملائكة

    جبريل سيد الملائكة فيما يدل عليه ظاهر الكتاب والسنة، وإنما قلنا: إن جبريل سيد الملائكة لأدلة من أعظمها: أن الله جل وعلا أوكل إليه أعظم الأمور، ألا وهي حياة القلوب، وحياة القلوب لا تكون إلا بالوحي الذي ينزل من السماء، والله أوكل إلى هذا الملك الكريم أن ينزل بالوحي من السماء على أنبيائه ورسله، فهو الذي نزل بالقرآن على نبينا صلى الله عليه وسلم، ونزل على غيره من الأنبياء والمرسلين من قبل بالوحي.

    ويدل عليه أنه ورد في حديث صحيح: (أن الله إذا أراد أن يتكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة شديدة، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل)، فهذا دليل على فضله وتقدمه وسيادته عليه السلام.

    وقد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل: إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يكتب له القبول في الأرض).

    فهذان الأثران فيهما دلالة على فضله وتقدمه على غيره من الملائكة، وإن كنا لا نقطع بهذا؛ لعدم وجود النص الصريح الفاصل في الأمر، لكن نقول بتعبير دقيق: هذا ظاهر كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

    علاقة جبريل الأمين بالرسول الكريم

    لجبريل عليه السلام علاقة وطيدة بنبينا صلى الله عليه وسلم، تتمثل هذه العلاقة في أمور:

    أولها: أنه هو الذي نزل بالوحي عليه أول الأمر في غار حراء، وكان يدارس النبي عليه الصلاة والسلام القرآن في كل عام مرة، ودارسه في العام الذي توفي فيه عليه الصلاة والسلام مرتين إيذاناً وإشعاراً بدنو الأجل وقرب الرحيل.

    كما أنه علم النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء، وعلمه الصلاة، وصلى به إماماً عند الكعبة، في ظهيرة اليوم الذي حدثت في ليلته السابقة رحلة الإسراء والمعراج، فصلاة الظهر أول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم كفريضة مقررة، وكان قبلها يصلي ركعتين قبل طلوع الشمس، وركعتين قبل غروبها.

    ولما طلبت قريش من النبي عليه الصلاة والسلام -وهو يخبرهم برحلة الإسراء- أن يصف لهم بيت المقدس رفعه جبريل فأخذ النبي عليه الصلاة والسلام ينظر إلى بيت المقدس، ويصفه لقريش، ولما سئل صلوات الله وسلامه عليه: ما أحب الأماكن إلى الله؟ قال: المساجد. فلما سئل: ما أبغضها إلى الله؟ توقف، فأخبره جبريل: إنها الأسواق، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنها الأسواق.

    ذكر عليه الصلاة والسلام الشهداء، وأخبر أن الشهيد يغفر له كل شيء، ثم قال مستدركاً: (إلا الدين؛ أخبرني به جبريل آنفاً) لأن جبريل الواسطة بين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

    كما كان جبريل مع النبي عليه الصلاة والسلام في يوم بدر، وسيأتي هذا إن شاء الله تعالى في حديثنا عن يوم الفرقان.

    كما أنه كان مع النبي عليه الصلاة والسلام رفيقاً في رحلة المعراج، فكان يسأل: من معك؟ فيقول: محمد، وأحياناً يسأل النبي عليه الصلاة والسلام جبريل وهو يجيب، ولما مروا على تلك الريح الطيبة، قال له عليه الصلاة والسلام: (ما هذه الريح الطيبة يا جبريل؟ قال: هذه ريح ماشطة ابنة فرعون)، فالسائل نبينا صلى الله عليه وسلم، والمجيب جبريل عليه السلام.

    جبريل يعلم الصحابة أمور دينهم

    أوكل الله جل وعلا إلى جبريل تعليم الصحابة، كما هو معلوم من حديث عمر رضي الله عنه، وهو في صحيح مسلم : (أنه قدم رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد)، والحديث معروف مشهور، فلما ذهب قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعمر : (هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم).

    فهذا من حرصه عليه السلام أن يعلم الناس ما ينفعهم في أمر دينهم عن طريق الأسئلة التي يعرف جوابها، فكان جبريل كلما أجابه النبي عليه الصلاة والسلام يقول: صدقت. يقول الصحابة: فعجبنا له يسأله ويصدقه، أي: كأنه يعرف الإجابة من قبل!

    جبريل عند شعراء الإسلام

    هذا هو جبريل على وجه الإجمال.

    وجاء في تأريخنا الإسلامي الحديث أن الله جل وعلا نصر نبيه عليه الصلاة والسلام بالأنصار والمهاجرين، وهؤلاء الكرام من قبل ذادوا عن الدين بسنانهم ولسانهم، فكان منهم شعراء، ومن أبرزهم حسان ، وكعب بن مالك رضي الله تعالى عنهما، فـحسان ذكر جبريل في شعره قال في همزيته:

    عفت ذات الأصابع فالجواء إلى عذراء منزلها خلاء

    إلى أن قال:

    عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء

    ينازعن الأعنة مصغيات على أكتافها الأسل الظماء

    فإما تعرضوا عنا اعتمرنا وكان الفتح وانكشف الغطاء

    إلى أن قال:

    وجبريل أمين الله فينا وروح القدس ليس له كفاء

    يفتخر بأن جبريل عليه السلام مع النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه في حروبهم.

    وكنت قبل قد نسبت البيت الذي سيأتي إلى حسان وهو قول كعب رضي الله عنه:

    وببئر بدرٍ إذ يرد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد

    وهو أفخر بيت قالته العرب؛ لحقيقته ولصياغته الفنية.

    هذا ما يمكن أن يقال عن جبريل من حيث التعريف.

    حكم الإيمان بجبريل

    ما سبق كان تعريفاً متعلقاً بجبريل، أما من حيث ما يتعلق بنا قلبياً؛ فإن الإيمان بالملائكة هو الركن الثاني من أركان الإيمان، والإيمان بالملائكة الكرام يتمثل بالإيمان بهم جملة؛ أي: بوجودهم ومحبتهم وموالاتهم، وذكر ثناء الله جل وعلا عليهم، وبالإيمان بمن ذكرهم الله جل وعلا تفصيلاً، وفي مقدمتهم جبريل، وميكال، ومالك، وهاروت، وماروت، وإسرافيل، ورضوان إن صحت الأحاديث فيه، وغيرهم ممن سمى الله أو سمى رسوله صلى الله عليه وسلم.

    فالإيمان بالملائكة الكرام هو الركن الثاني من أركان الإيمان الذي يجب على المؤمن أن يعتقده.

    ومحبة من يحبه الله ورسوله من أعظم براهين الإيمان ودلائل التقوى، وقد ضربنا لهذا أمثلة كثيرة في دروس عدة، لا حاجة لتكرارها؛ لأن حديثنا عن أعلام القرآن إنما هو حديث تعريفي، فهذا هو جبريل عليه السلام.

    1.   

    التعريف بالكوثر

    العلم الثاني: الكوثر.

    الكوثر ذكره الله في القرآن مرة واحدة في سورة سميت باسمه، قال الله جل وعلا: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1].

    واختلف العلماء فيما هو الكوثر على ستة عشر قولاً يثبت منها اثنان؛ لأن أقوال العلماء لا تعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان ما قالوه يدخل فيما أعطاه الله النبي من الخير، لكن الكوثر إنما هو نهر في الجنة أعطاه الله لنبينا صلى الله عليه وسلم.

    روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب التفسير: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث أنس : (دخلت الجنة فإذا أنا بنهر حافتاه خيام اللؤلؤ فضربت فيه لأرى أين مجرى الماء، فإذا هو مسك أذفر قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاكه الله).

    فهذا نص في موضع الخلاف، فلا ينبغي الانصراف إلى غيره.

    ويؤيده ما رواه الإمام مسلم في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1] حتى ختمها، ثم قال لأصحابه: أتدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: نهر في الجنة وعدنيه ربي، فيه خير كثير، وهو حوض ترده أمتي).

    العلاقة بين الحوض والكوثر

    وقد تكلم العلماء في قضية: هل الكوثر نهر في الجنة أو هو الحوض الذي ترد إليه هذه الأمة يوم القيامة؟

    والإمام البخاري رحمه الله ذكر الحديث أولاً في كتاب التفسير عند قول الله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1]، ثم ذكره مرة أخرى مردفاً بأحاديث أخر في كتاب الرقاق من نفس الصحيح.

    وقد تكلم الحافظ ابن حجر أفضل من شرح الصحيح عن الكوثر كنهر في كتاب التفسير، وأرجأ الحديث عن التفصيل إلى كتاب الرقاق.

    وجملة ما دل عليه الخبر أن أصل النهر في الجنة، ثم له ميزابان يصب بهما في الحوض الذي هو خارج الجنة، فيصبح هذا الحوض الذي هو حوض نبينا صلى الله عليه وسلم أصل مائه من الكوثر الذي هو نهر في الجنة.

    وبهذا يجتمع حديث: هذا الكوثر الذي أعطاكه الله، وحديث: وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة.

    1.   

    الرد على منكري الحوض

    الناس يحشرون يوم القيامة عطشى أحوج ما يكونون إلى الماء، والورود إلى الحوض من أعظم ما يؤمله ويتمناه عباد الله الصالحين، سقانا الله منه.

    وأهل السنة يؤمنون بالكوثر ويثبتونه، وأنكرت طائفة من الخوارج ومن المعتزلة وجود الحوض، وكان عبيد الله بن زياد الأمير الأموي المعروف ينكر وجود الحوض ويرده، فكان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يخبرونه بما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن لنبي الله عليه السلام حوضاً، حتى إنه سأل أبا برزة الأسلمي رضي الله عنه: هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الحوض؟ فقال أبو برزة رضي الله عنه وأرضاه: ما سمعته مرة، ولا مرتين، ولا ثلاثاً، ولا أربعاً، ولا خمساً، بل سمعته أكثر من ذلك، لا سقى الله من كذب به. يريد أن يخوف عبيد الله بن زياد .

    ثم أخبره ابن عمر وبعض الصحابة في هذا، وورد أنه قال: أشهد أن الحوض حق.

    وسواءً أقر عبيد الله بن زياد أو لم يقر، فالحوض ثابت لا شك فيه.

    ودخل أنس رضي الله عنه وأرضاه على عبيد الله بن زياد ومعه أصحابه وخلطاؤه وهم يتمارون في الحوض كأنهم ينكرونه، فقال أنس رضي الله عنه وأرضاه: والله! ما ظننت أنني سأعيش إلى يوم أسمع فيه من يتمارون في الحوض، ولقد تركت في المدينة خلفي عجائز ما صلين صلاة إلا سألن الله فيها أن يسقيهن من حوض نبيهن.

    قال الإمام القرطبي رحمه الله: والحوض أركانه أربعة، وهم الخلفاء الراشدون، فمن سبهم أو أبغضهم، أو أبغض واحداً منهم لم يرد الحوض، وهذا القول من القرطبي لم نقف على أثرٍ صحيح يدل عليه، ولا نعلم من أين أتى القرطبي رحمه الله بهذا القول، وإن كان الرجل أحد الأئمة الكبار، وقوله رحمه الله تطمئن إليه النفس، فإن حب الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم من أعظم القرب إلى الله تبارك وتعالى، ومن أعظم ما يدل على تمكن الإيمان في القلب.

    ويجب على المرء أن يحب ما يحبه الله ورسوله، ولا ريب أن الله ورسوله يحبان الصحابة، وقد أثنى الله عليهم، وأثنى عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم.

    موضع الشاهد: أن سب الصحابة يحول بين المرء وبين ورود الحوض، وهذا ذكره أهل السنة رداً على الرافضة الذين يقعون في أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

    كيف ينتقم الله لأوليائه

    الله جل وعلا ينتقم لأوليائه عاجلاً أو آجلاً.

    السيد الحوثي اليمني الشيعي الذي خرج مؤخراً على حكومة اليمن وقتل؛ قابلت رجلاً يمنياً شارك في المعارك العسكرية والفكرية ضد هذا الشيعي، ذكر أنه كان قد ضلل شباباً كثيرين من أبناء قريته، وأهل السنة في اليمن بعد أن يئسوا من كبارهم أخذوا الصغار، وأتوا بهم إلى مكة والمدينة ليعتمروا حتى يغيروا المعتقد الخاطئ الذي ربوا عليه.

    هذا السيد الحوثي يدعى سيداً، وليس بسيد، وقد قال في أحد دروسه لأتباعه يذم الصديق رضي الله عنه وقد ذكر النبي عليه الصلاة والسلام ومعه صاحبه في الغار، فقال بلهجته كلاماً معناه: إن أبا بكر ليست له أي كرامة، إنما كان يبول ويتغوط في الغار ثلاثة أيام. قال ذلك بلغة شنيعة!

    ثم مضت أيام.. شهور.. سنون.. على قولته هذه، ولما حوصر دافع عنه فتيان وشباب مغرر بهم، أما هو فقد حصره الله جل وعلا في غار، فجلس فيه ثلاثة أشهر لا يستطيع أن يخرج، فكان يبول ويتبرز في الغار، ثم ختم الله له بأن قتل.

    فانظر كيف وقع في رجلٍ كـالصديق رضي الله عنه أفضل الأمة بعد نبيها، وكيف انتقم الله جل وعلا للصديق رغم أن الصديق لم يسمع هذه المقالة، ولم يؤذ بها، لكن الله جل وعلا قال في كتابه: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38].

    1.   

    من أعلام القرآن عزير

    العلم الثالث هو عزير، وهو أحد صالحي بني إسرائيل، لم تثبت نبوته، قال الله جل وعلا عنه: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ [التوبة:30].

    نعلم جميعاً أن الرب تبارك وتعالى مقدس عن الصاحبة والولد، منزه فلم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأعظم الجرم أن يدعي مدعٍ أن لله جل وعلا ولداً، قال الله: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا [مريم:88-90].

    وممن زعم لله الولد النصارى واليهود، وكلٌ منهم تعلق بشبهة، والشبهة لا يجلوها إلا العلم.

    فنبدأ بالنصارى، وإن كانوا متأخرين، لكن حتى نصل إلى عزير، فالنصارى وقعوا في هذه الشبهة من باب أنهم رأوا أن عيسى عليه السلام لا والد له، فزعموا أنه ابن لله، فرد الله جل وعلا عليهم كما مر معنا في تأملاتنا في سورة آل عمران عند قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59].

    والمعنى: لو كان هناك أحد حقيق أن يكون ابناً لله -ولا يوجد أحد كذلك- لكان آدم أولى من عيسى؛ لأنه إذا كانت الشبهة في عيسى أنه وجد من غير والد، فإن آدم وجد من غير والدة ولا والد، وإنما هو أمر من الله: كن فيكون، فرد الله بهذا شبهة النصارى.

    وهكذا اليهود فإنهم زعموا أن عزيراً ابن الله، وسبب شبهتهم أنهم يعلمون أن التوراة نزلت على موسى مكتوبة، كما قال الله: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ [الأعراف:145].

    فكان علماؤهم يحفظون التوراة، ثم سلط الله عليهم بختنصر فأزهق أرواحهم، وأفنى علماءهم، فقدر أن عزيراً ألهمه الله جل وعلا التوراة، وجعله قادراً على استذكارها، فأملاها عليهم غيباً، وبعد أن أملاها عليهم وقفوا عليها وهي مكتوبة، ووجدوها حيث دفنها العلماء قبل أن يذبحهم بختنصر ، فقارنوا بين ما أملاه عليهم عزير، وما هو بين أيديهم من التوراة، فوجدوا عزيراً لم يخرم حرفاً واحداً، فقالوا: ما أعطي عزير هذا إلا لأنه ابن لله.

    هذا سبب قول اليهود وزعمهم أن عزيراً ابن الله، وهذه مشكلة سببها قلة العلم، فإن الإنسان إذا كان لا يعرف إلا جزئية في العلم يتخبط فيه، ويقع في أمور لا يعلمها إلا الله.

    فـعثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه قرب قرابته، وأعطاهم مسئوليات، فجاء الخوارج وقالوا: هذا ينافي ما أمر الله به من العدل، وهذا لا يصلح أن يكون خليفة أو أميراً للمؤمنين، ثم قتلوه، ثم نهبوا ماله، ثم قتلوا نجيحاً وفليحاً غلاميه، ثم ضربوا زوجته، وهكذا تطور الأمر لأجل شبهة واحدة، فلم يجدوا عذراً لـعثمان .

    والخوارج الذين بعدهم قتلوا علياً، وقالوا: إن علياً حكم الرجال في دين الله والله يقول: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام:57]، ولم يفهموا هذه الآية لم أنزلت، وفيمَ أنزلت، وأن الله حكم الرجال في الصيد فقال: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة:95]، ومع ذلك تركوا هذا كله، ورفعوا سيوفهم على أمير المؤمنين وقتلوه، وهذا كله من نقص العلم.

    فمن لم يكن ذا علم فمن الصعب أن تحاوره؛ لأنه يتمسك بجزئية واحدة، ولا يوجد جامع بينك وبينه ولا أرضية علمية متسعة حتى تأخذ وتعطي معه.

    نعود إلى عزير فنقول: أما عزير فهو عبد صالح، ورد فيه آثار، هذه الآثار لا يوجد بين أيدينا نقل نستطيع أن نجزم أنه صحيح، ولكنها نقول عن وهب بن منبه ، وعن ابن عباس ، أخذها عن كعب الأحبار ، وهكذا نقلت غيرهم من الصحابة والتابعين.

    فمنهم من قال: إن عزيراً مر على امرأة تبكي عند قبر بعد أن قتل بختنصر بني إسرائيل، وهي تقول: واكاسياه وامعطياه، فقال لها عزير: من الذي كان يطعمك ويسقيك؟ قالت: الله، قال: فإن الله حي لا يموت، فلا داعي للبكاء، وهو قبل أن يقول لها ذلك كان يبكي على فقد العلماء، فقالت له المرأة: وأنت علام تبكي؟ قال: أبكي على فقد العلماء، قالت: من الذي علم علماء بني إسرائيل، قال: الله. قالت: فاسأل الله فإن الله حي لا يموت، فسأل الله أن يقذف في قلبه نور التوارة، فأعطاه الله نور التوارة، هذا قول.

    ونقل كثير من العلماء أنه هو المقصود بقول الله جل وعلا: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا [البقرة:259]، فقالوا: إن القرية هي بيت المقدس بعد أن عاث بختنصر فيها فساداً، فبعد أن هدم منازلها، وأطاح سقوفها، وقتل أهلها مر عليها عزير، فقال -من باب التعجب لا من باب الإنكار-: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا [البقرة:259].

    وكان قد خرج وعمره أربعون عاماً، وله جارية عمرها عشرون عاماً، فأماته الله، فمكث ميتاً مائة عام بنص القرآن إن كان هو عزير.

    فبعد مائة عام أحياه الله جل وعلا ورده كما كان، وعمره أربعون كما هي، فلما رجع إذا بالناس قد تغيروا، فذهب إلى بيته، فوجد الأمة التي تركها وعمرها عشرون عاماً قد أصبح عمرها مائة وعشرين، فقال لها: أين بيت عزير يرحمك الله! أين أنت من عزير! لم يعد أحد يذكر عزيراً هذه الأيام، فقال لها: أنا عزير، قالت: إن عزيراً كان عبداً صالحاً؛ فإن كنت عزيراً فادع الله لي، وكانت قد عميت، فدعا الله لها فبرئت وأبصرت، فلما رأته عرفته؛ لأنه ما تغير فيه شيء.

    فأخذته للملأ من بني إسرائيل، وذكروا له التوراة، فسأل الله ودعاه، فأملى عليهم التوراة ولم يخرم منها حرفاً، ثم قال لهم: إن أبي كان قد أخفى التوراة في مكان كذا وكذا عندما خربت بيت المقدس، فذهب بهم إلى الموضع الذي غلب على ظنه أن أباه وضع التوراة فيه، فأخرجها مكتوبة كما هي.

    فلما قارنوا بين ما أملاه عزير وبين ما وجدوه مكتوباً وجدوا أن عزيراً لم يخرم منه حرفاً واحداً، فقالوا: ما أعطي عزير هذا إلا لأنه ابن الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً!

    وقولهم: إنه ابن الله، ذكره الله في سورة التوبة؛ ليغري المؤمنين ويحثهم على قتال أهل الكفر، فذكرها الله ليبين أعظم ما تحلى به أهل الكفر، وهو زعمهم أن لله الولد، وأعظم الفرية أن يأتي أحد فيدعي لله الولد، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

    ولذلك كانوا يقولون في سيرة الإمام أحمد رحمه الله: إنه كان إذا أبصر يهودياً أو نصرانياً في بغداد يغمض عينيه، فيقال له: يا أبا عبد الله لم تفعل ذلك؟ فيقول: والله لا أطيق أن أرى أحداً يزعم أن لله ولداً!

    وهذه أمر تحلى به الإمام أحمد رحمه الله، لكن لا يوجد دليل على وجوب فعله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر اليهود والنصارى وهم يزعمون أن لله الولد، وتعامل معهم، لكن هذا ورع من الإمام نفسه، وليس هدياً نبوياً؛ فرحمة الله على الإمام أحمد.

    موضع الشاهد من هذا: أنه كان في الأمم من قبلنا وفي أمتنا من الصالحين من غالى الناس فيهم حتى عبدوهم من دون الله، أو عظموهم من دون الله، ولهذا قال الله بعد هذه الآية: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [التوبة:31].

    وأعظم الفرق التي وقعت في هذا بلا شك هم الرافضة وغلوهم الشركي في علي رضي الله عنه، وفي السبطين الحسن والحسين ، وهذا أمر مشاهد لا يمكن إنكاره، وكله من باب الغلو في الأشخاص، ولا ينبغي لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يغلو في أحدٍ من الخلق كائناً من كان، إنما يحب كل أحدٍ بقدر، ويبغض بقدر، ويتخذ الشرع مناطاً ومعياراً في التعامل مع الخلق كلهم.

    1.   

    يوم الفرقان

    رابع الأعلام هو يوم الفرقان: وهي التسمية القرآنية ليوم بدر، أما قول الله جل وعلا: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123]، فهو علم على مكان، لكن الله قال في الأنفال: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنفال:41].

    فقول الله جل وعلا: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [الأنفال:41] فيه أن (ما) موصولة، أي: والذي أنزلنا على عبدنا، أي: نبينا صلى الله عليه وسلم.

    يَوْمَ الْفُرْقَانِ [الأنفال:41] أي: يوم معركة بدر التي فرق الله فيها بين الحق والباطل، والفرقان مصدر من الفعل فرق يفرق فرقاناً.

    يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [الأنفال:41] أي: جمع أهل الكفر وجمع أهل الإيمان.

    قال الله بعدها: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنفال:41] أنزل الله جل وعلا يوم الفرقان النصر والظفر لنبينا صلى الله عليه وسلم ومن معه.

    تفاصيل يوم بدر

    ومعلوم أن يوم بدر يوم مشهور، وسأتحدث عنه إجمالاً فيما يغلب على الظن أن فيه فائدة.

    الحالة الاقتصادية في المدينة كانت ضعيفة جداً قبل بدر، فكان الشغل الشاغل للصحابة -لما سمعوا بعير قريش- أن ينالوا القافلة، حتى يتحسن الوضع الاقتصادي، فخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأكبر همهم أن ينالوا القافلة، لكن الله أبدلهم من القافلة خيراً منها، وهو أن الله أعطاهم النصر، ومكن لهم، وأخذوا بعد ذلك الفدية من قريش، فأعطاهم الله جل وعلا فوق ما يؤملون.

    أبو سفيان حارب النبي صلى الله عليه وسلم في بدر وأحد، وجمع الأحزاب، ومع ذلك مات على الإيمان، فسبحان مقلب القلوب يفعل بعباده ما يشاء، ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (يا مقلب القلوب ثبت قلبنا على دينك).

    لأن عاتكة بنت عبد المطلب -أخت العباس وعمة النبي صلى الله عليه وسلم- قبل يوم بدر بثلاثة أيام، رأت في المنام أن رجلاً يستغيث بالأبطح ويقول: يا آل غدر انفروا لمصارعكم في ثلاث، ثم تنقل من مكان إلى مكان، ثم صعد جبلاً ثم ألقى صخرة، فانفلقت حتى لم يبق بيت من بيوت أهل مكة إلا ودخله شظية من الصخر.

    فقصت الرؤيا على أخيها العباس ، فقال لها العباس : اكتميها، والله إنها لرؤيا، فقالت: أظنها مصيبة ستحل بقومنا، فأخبر العباس الوليد بن عتبة وكان صديقاً له.

    وقد قيل: كل سر جاوز الاثنين شاع، وكل علم ليس في القرطاس ضاع!

    أما الأولى: كل سر جاوز الاثنين شاع فصحيح، لكن: كل علمٍ ليس في القرطاس ضاع ليس بصحيح؛ لأن الله يقول: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49] ولم يقل: إنه في الكتب.

    نعود فنقول: لما قص العباس القصة على الوليد بن عتبة أخبر بها الوليد غيره، فانتشرت في قريش، فلما بلغت أبا جهل نادى العباس ، وتوعده وتهدده، وقال: يا بني عبد المطلب، أما كفاكم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم؟

    وكان أبو جهل رجلاً خبيثاً، حديد الوجه، حديد النظر، حديد اللسان، لا يستطيع أحد أن يقاومه، دخل دار الندوة قبل أن يطر شاربه، رغم أن دار الندوة لا يدخلها رجل في قريش إلا بعد الأربعين، لكن أدخلوه إياها محكماً من أول أمره، لعلو شأنه وهو صغير.

    فنادى أبو جهل العباس ، وأخذ يتوعده ويهدده، فلم يجد العباس مفراً من أن يجحد وينكر، فلما ذهب العباس إلى داره اجتمع عليه آل عبد المطلب، وعاتبوه ولاموه، كيف تضعف أمام أبي جهل ؟ فأجمع أمره على أن يرد على أبي جهل ، فلما انصرف بعد ثلاثة أيام قابل العباس أبا جهل ، وناداه ليرد عليه، وإذا بـضمضم الغفاري الذي استأجره أبو سفيان وبعثه يستصرخ في قريش يصرخ مثل ما قالت عاتكة في الرؤيا، فكان أبو جهل ممن سمع الغوث فترك العباس وخرج، ثم خرج العباس وخرج الناس ينشدون ماذا يريد ضمضم ؟ وانتهى أمر الرؤيا. يعني: انشغلت قريش عن الرؤيا.

    ثم خرجت قريش بعد أن استنفرهم ضمضم الذي بعثه أبو سفيان .

    والتقى الجمعان كما قال الله جل وعلا في بدر، وبدر اسم لرجل يقال له: بدر بن حذافة كان قد حفر بئراً في هذا الموطن، فسمي المكان باسمه إلى يومنا هذا، وهذا يدل على أن هناك أشياء تبقى مع الأيام لا تتغير عن اسمها الأول.

    ومر النبي عليه الصلاة والسلام في طريقه بالروحاء، ومر بالمنصرف وهي المسيجيد الآن، ومر برحقان -الجبل المعروف- ومر بالمضيق حتى وصل إلى بدر، وهناك في بدر التقى الجمعان كما أخبر الله جل وعلا.

    استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه؛ لأن النبي وفي، وهو يعلم أن العهد الذي بينه وبين الأنصار على أنهم يحموه داخل المدينة، وبدر خارج المدينة، فأخذ يقول: أشيروا عليّ أيها الناس! أشيروا عليّ أيها الناس! ثم سمع من الأنصار ما سمع مما يدل على صدقهم ونصرتهم لدين الله، فقال: امضوا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين إما النصر وإما القافلة.

    فلما كان في يوم بدر وقف صلى الله عليه وسلم ليلته بدر يدعو ويتضرع إلى الله ليقيم التوحيد، ويحقق العبودية لله, وإلا فهو يعلم قطعاً أنه منتصر؛ لأنه قال لأصحابه: (امضوا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين)، فالطائفة الأولى وهي القافلة فرت ونجت، فلم يبق إلا الثانية، ووعد الله حق، فكان يعلم أنه منصور، لكنه أراد أن يحقق أعظم ما كلف الله به العبيد، ألا وهو تحقيق التوحيد، فأخذ صلى الله عليه وسلم يدعو حتى سقط رداءه، فرق له أبو بكر فقال: يا نبي الله! كفاك بعض مناشدتك ربك، يعني: على مهلك! فكان صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم! إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً).

    وكان أهل بدر ثلاثمائة وبضعة عشر، وهو عدد جيش طالوت الذي قال الله فيه: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً [البقرة:249].

    ثم كانت موقعة بدر في السابع عشر من رمضان للسنة الثانية من الهجرة في يوم جمعة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على غير صيام، ولهذا كان عمير بن الحمام بيده تمرات يأكل منها ثم ألقاها وجاهد في سبيل الله، واستشهد رضي الله عنه وأرضاه.

    نجم عن المعركة كما هو معلوم قتل سبعين من أهل الإشراك وأسر سبعين، والمسلمون في يوم أحد لم يؤسر منهم أحد، وإنما قتل منهم سبعين، ولهذا قال الله: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا [آل عمران:165].

    أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا [آل عمران:165]. أي: في بدر، ففي بدر قتلتم سبعين وأسرتم سبعين، أما في أحد فالذي أصابكم نصف ما حصلتم عليه في الأول، فقد قتل منكم سبعون ولم يؤسر منكم أحد.

    مكث النبي صلى الله عليه وسلم في بدر ليتصرف في القتلى، وبعث عبد الله بن رواحة وأسامة بن زيد على ناقته القصوى يبشرون أهل المدينة بانتصار نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام في بدر، ثم ألقي قتلى قريش في القليب، وهو البئر المهجور المتروك في بدر.

    مسألة سماع الأموات في القبور

    مكث صلى الله عليه وسلم ينادي أهل القليب ويقول: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً، فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً، فقال له عمر : يا رسول الله! كيف تدعو أقواماً قد جيفوا، فقال: يا عمر ! والله! ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، لكنهم لا يملكون جواباً).

    هذه مسألة ينجم عنها مسألة خلافية شهيرة، وهي: هل الأموات يسمعون أو لا؟ وينجم عن ذلك قضية أخرى، وهي قضية تلقين الميت، وهو أن يوقف على القبر فيقال للميت: اذكر آخر ما تركت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله .. إلخ.

    والحق أن تلقين الميت لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحدٍ من أصحابه فيما نعلم، وقد ظهر في الشام قبل الإمام أحمد بقليل -أي: في أواخر القرن الأول- من قومٍ صالحين، فأخذه عنهم البعض، وأصل المسألة كما قلت: هي قضية هؤلاء الذين في بدر.

    فالذين يقولون بالتلقين يقولون إن النبي عليه الصلاة والسلام قال عن أهل قليب بدر إنهم يسمعون، ويرد عليهم بأنه لو كان الأصل أنهم يسمعون لما أنكر عمر ، لكن الظاهر أن الأمر خرج عن المعتاد، فكانت خصيصة للنبي صلى الله عليه وسلم، وليس أمراً عادياً، لكن رد الآخرون بأن النبي عليه الصلاة والسلام قال عن الميت: إنه يسمع قرع نعالهم، والمسألة مبسوطة في كتب الفقهاء، والخير كل الخير في اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

    آثار معركة بدر

    هذا يوم بدر سماه الله فرقاناً؛ لأن الله جل وعلا فرق فيه بين الحق والباطل، وكان يوماً عزيزاً في الإسلام، نصر الله جل وعلا فيه نبيه صلى الله عليه وسلم.

    أشار عمر على النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل الأسرى، وأخذ الرسول برأي أبي بكر أن يفدوا ويستفيد المسلمون من الفدية، ويستبقونهم لعل الله أن يهديهم، فأنزل الله جل وعلا قوله: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ [الأنفال:67] إلى قوله: لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ [الأنفال:68].

    فبعثت قريش تفدي أسراها، وكان من الأسرى العاص بن الربيع ، وهو زوج زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو أمامة بنت زينب ، وزينب كانت في مكة، وزوجها مأسور في المدينة، فبعثت بفدية تفدي بها زوجها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (إن زوج المرأة -أو بعل المرأة- من المرأة بمكان).

    فالمرأة إذا ادلهمت عليها الخطوب لا نجد أحداً تلجأ إليه أكثر من زوجها؛ فهذه المرأة رغم أنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مسلمة، لكن لما علمت أن زوجها أسر أخرجت كل ما في يدها، فأخرجت قلادة كانت أمها خديجة رضي الله عنها وأرضاها ألبستها إياها في يوم دخولها على زوجها، فبعثت بالقلادة، وهي أعز ما تملك من أجل أن تفدي زوجها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم القلادة عرفها فتذكر زمان خديجة رضي الله عنها وأرضاها.

    فورد أنه ذرفت عيناه صلوات الله وسلامه عليه، يعني: بكى، ثم فدي العاص بن الربيع ورجع، فأسلم العاص بعد ذلك في قصة طويلة ليس هذا موضع بسطها.

    على الجانب الآخر: كان قريش قوماً أعزة في ذاتهم وإن كانوا على الكفر، فقد كان فيهم أنفة، حتى في الحج كانوا لا يخرجون إلى عرفات، لأنها من الحل، فكانوا لا يخرجون مع الناس، وكانوا يقولون: نحن أهل الله، أهل الحرم، لا نخرج مع الناس في عرفات، فيقفون قبل عرفات، ولا يفيضون من منىً إلى عرفات، ولهذا قال الله لنبيه: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199] أي: دعك من قومك وأنفتهم، وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199].

    والمقصود: أن قريشاً كانت بهم أنفة، فأصدروا بياناً رسمياً أوقات الحروب وهو ألا يبكي أحد، والإنسان إذا لم يبك يزداد الألم في قلبه.

    وذات يومٍ كان أحدهم قد سمع بكاء، وقد مات له ثلاثة أولاد، فقال لأحد أبنائه: اذهب وانظر فإني أسمع امرأة تبكي لعل قريشاً أذنت أن يبكى على القتلى، فذهب الولد ووجد امرأة تبكي على بكر لها أضلته، وهو الفتى من الإبل، فرجع إلى أبيه فقال: ما وراءك؟ قال: هذه امرأة تبكي على بكرٍ أضلته، فقال:

    أتبكي أن يضل لها بعيرٍ ويمنعها من النوم السهود

    فلا تبك على بكر ولكن على بدرٍ تقاصرت الجدود

    على بدرٍ صراة بني هصيص ومخزوم ورهط أبي الوليد

    ألا قد ساد بعدهم رجال ولولا يوم بدر لم يسودوا

    وأخذ يذكر نحيبه وشجونه على أبنائه الذين قتلوا في بدر.

    هذا حصيلة ما كان في يوم بدر، وقد خص الله جل وعلا تلك الفئة في يوم الفرقان؛ فاطلع عليهم، وقال: اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم.

    فهؤلاء الفئة الثلاثمائة والأربعة عشر هم خير أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الإطلاق، وقلنا: إن جبريل كان في ذلك اللواء، وقلنا: إن قول كعب :

    وبيوم بدرٍ إذ يرد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد

    هو أفخر بيت قالته العرب؛ لأنه لا يوجد راية يمكن أن تقع في التأريخ كله من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة يجتمع تحتها محمد بن عبد الله وجبريل، وأبو بكر وعمر وغيرهم من سادة المهاجرين والأنصار، فلا أحد في الأنبياء أفضل من محمد، ولا أحد في الملائكة أفضل من جبريل، ولا أحد في حواري الأنبياء أفضل من أبي بكر ، وهؤلاء الثلاثة الأئمة في كل فريق اجتمعوا تحت رايةٍ واحدة، فلهذا كانت راية بدرٍ لا تعدلها راية؛ رزقنا الله حبهم وجوارهم في جنات النعيم!

    هذا ما تيسر إيراده وتهيأ قوله، وأعان الله جل وعلا على الحديث عنه، وهم أربعة أعلام، جبريل، والكوثر، وعزير، ويوم الفرقان.

    وفقنا الله وإياكم للعمل بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768252712