وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره وتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
اليوم إن شاء الله تعالى سنشرع في التعليق على ما جاء في ذكر أعمامه وعماته وأزواجه صلوات الله وسلامه عليه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فصل في أعمامه وعماته.
وكان له صلى الله عليه وسلم من العمومة أحد عشر؛ منهم:
الحارث : وهو أكبر ولد عبد المطلب ، وبه كان يكنى، ومن ولده وولد ولده جماعة لهم صحبة النبي صلى الله عليه وسلم.
و قثم : هلك صغيرًا، وهو أخو الحارث لأمه.
و الزبير بن عبد المطلب : وكان من أشراف قريش، وابنه عبد الله بن الزبير شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينًا، وثبت يومئذ، واستُشهد بأجنادين، ورُوي أنه وجد إلى جنب سبعة قد قتلهم وقتلوه، وضباعة بنت الزبير ، لها صحبة، وأم الحكم بنت الزبير ، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
و حمزة بن عبد المطلب: أسد الله وأسد رسوله، وأخوه من الرضاعة، أسلم قديمًا وهاجر إلى المدينة، وشهد بدرًا، وقُتل يوم أحد شهيدًا، ولم يكن له إلا ابنة.
و أبو الفضل العباس بن عبد المطلب: أسلم وحسن إسلامه، وهاجر إلى المدينة، وكان أكبر من النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، وكان له عشرة من الذكور: الفضل ، وعبد الله، وقثم له صحبة، ومات سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان بن عفان بالمدينة. ولم يسلم من أعمام النبي صلى الله عليه وسلم إلا العباس وحمزة .
و أبو طالب بن عبد المطلب : واسمه عبد مناف ، وهو أخو عبد الله أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمه، وعاتكة صاحبة الرؤيا في بدر، وأمهم فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم ، وله من الولد طالب مات كافرًا وعقيل ، وجعفر ، وعلي ، وأم هانئ لهم صحبة، واسم أم هانئ فاختة وقيل: هند ؛ وجمانة ذكرت في أولاده أيضًا.
و أبو لهب بن عبد المطلب : واسمه عبد العزى ، كناه أبوه بذلك لحسن وجهه، ومن ولده عتبة ومعتب ، ثبتا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، ودرة لهم صحبة، وعتيبة قتلة الأسد بالزرقاء من أرض الشام على كفره بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم.
و عبد الكعبة ، وحجْلٌ واسمه المغيرة ، وضرار أخو العباس لأمه، والغيداق ، وإنما سمي الغيداق لأنه أجود قريش، وأكثرهم طعامًا ] .
الشيخ: العم أصل وارث، وعبد المطلب هو جد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن له في أول الأمر إلا ابن واحد، ثم إنه اشتد عليه بعض الخلاف مع زعماء قريش، فنذر إن رزقه الله أولاداً يمنعونه أن يذبح أحدهم، فرزقه الله عشرة بنين، فأراد أن يذبح ابنه عبد الله ، ثم فدى عبد الله بمائة من الإبل، وهؤلاء المذكورون كلهم إخوة لـعبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم، فهم أعمام النبي عليه الصلاة والسلام.
ويحسن بطالب العلم أن يربط بين حياة الأنبياء ويفقه السنن التي يبعث الله جل وعلا من أجلها الرسل، فلوط عليه الصلاة والسلام كان ابن أخ لـإبراهيم عليه السلام، فلما هاجر لوط ونزل أرض سدوم في جهة البحر الميت اليوم، وجاءته الملائكة بصورة وجوه حسان تامي الخلقة، فتن بهم قوم لوط ودخلوا عليه وراودوه عن ضيفه كما قال الله: قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود:80]، فكان يتمنى أن يكون له قوم ينصرونه على هؤلاء؛ لأنه لو كان منيعاً لما تجرأ هؤلاء عليه، قال صلى الله عليه وسلم كما في البخاري وغيره: (فما بعث الله بعده من نبي إلا في منعة من قومه) فكان للنبي صلى الله عليه وسلم أعمام، وبنو هاشم كان لهم صيت عند القرشيين، وهذا كله من أجل حفظ نبينا صلى الله عليه وسلم، والمسلم قد يستفيد حتى من الكافر، فبنو هاشم مؤمنهم وكافرهم كانوا عصبة للنبي عليه الصلاة والسلام، وكلهم جميعاً دخلوا معه الشعب المؤمن منهم والكافر، وقبلوا الحصار لأنهم يشعرون بالأنفة والحمية لمن يحمونه ولو كانوا يخالفونه.
والشاهد من هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام كان له أعمام كثيرون، وطالب العلم ليس ملزماً بحفظهم، لكن أنت ملزم بالتصور الكامل للمتن، أن تعلم أن أعمام النبي صلى الله عليه وسلم يمكن تقسيمهم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من لم يدرك نبوته صلى الله عليه وسلم ومبعثه، فيكون مات على دين آبائه فهو من أهل الفترة، يجري عليه ما يجري على أهل الفترة؛ لأنه ما أدرك بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا القسم الأول.
القسم الثاني: من أدرك مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمن، وهذا القسم يضم اثنين شهيرين هما: أبو طالب وأبو لهب ، فكلاهما أدرك البعثة النبوية ولم يؤمن، إلا أن هذا القسم الثاني ينقسم إلى قسمين: قسم لم يؤمن وناصر النبي صلى الله عليه وسلم وهو أبو طالب ، وقسم لم يؤمن وعادى النبي عليه الصلاة والسلام ولم ينصره وهو أبو لهب .
وسمي أبو لهب بهذا لجمال خديه ونورهما، وإلا فاسمه الحقيقي عبد العزى ، وأبو لهب كنيته، وفيه نزل قول الله جل وعلا: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ [المسد:1-2] وهذه الآية من أعظم الأدلة على أنه لا يمكن لأحد أن يخرج عن مشيئة الله، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يقول: هذا القرآن من عند الله، وقريش ومن ضمنها أبو لهب يقولون: هذا القرآن ليس من عند الله، فلما قال أبو لهب لنبينا عليه الصلاة والسلام: تباً لك سائر هذا اليوم! ألهذا جمعتنا؟! أنزل الله على نبينا هذه السورة: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:1-3]، ومعلوم أن النار لا يصلاها المؤمن، بل يصلاها الكافر، فهو يقول للناس وأبو لهب يسمع: سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:3] وكان بإمكان أبي لهب أن يقول للناس: محمد يقول: إنني في النار، وأنا الآن مؤمن بمحمد! وهو يقول لكم: إن المؤمن لا يدخل النار، فأنا أريد أن أبطل قرآن محمد فأقول لكم الآن: أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فكيف أدخل النار؟! إذاً محمد كذاب! مع سهولة هذه الحيلة لم يستطع أن يقولها، لكن الله جل وعلا يعلم يقيناً أنه لن يقولها، ولذلك قال الله: سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:3]، وأنا لا أريد أن أخرج من السيرة إلى التفسير، ولكن من أراد أن يخشع في القرآن فليتدبر القرآن، ففي القرآن كنوز ليس هذا وقت إخراجها، ومن رزق قدرة على التفسير سيرى شيئاً عجباً من دلائل قدرة الله، والمقصود أن أبا لهب لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وعاداه.
القسم الثالث: من أدرك بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وآمن، وهذا يشمل اثنين فقط رضي الله عنهما وأرضاهما وهما العباس وحمزة ابنا عبد المطلب عما الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن حمزة تقدم إسلامه، والعباس تأخر إسلامه، وحمزة لم يترك إلا ابنة، وهو أسد الله وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو سيد الشهداء كما صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتل قتالاً عظيماً يوم بدر ويوم أحد، فأراد أحد المشركين ممن وتر في بدر أن يقتله فقال لـوحشي ووهو عبد ليس له ناقة ولا جمل في دين قريش: تشتري حريتك بأن تقتل حمزة ؛ فأعد حربة ومكث في يوم أحد لا يريد أن تنتصر قريش ولا أن ينتصر محمد صلى الله عليه وسلم، المهم عنده أن يفوز بحريته، فاتخذ الحربة وتربص لـحمزة ثم رماه بها فقتله، ثم جاءت هند قبل إسلامها فقطعت بعضاً من جسده رضي الله عنه وأرضاه، وأخذت كبده ولاكتها في فمها، وحصل ما حصل له من التمثيل رضي الله عنه وأرضاه.
فـوحشي اشترى حريته بقتل حمزة ، ثم مضت الأيام ومرت السنون وكل بشيء بقدر (وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يبقى بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، فأسلم وحشي ، فلما أسلم وحشي قص على النبي عليه الصلاة والسلام كيف قتل حمزة ، فقال له عليه الصلاة والسلام: (غرب وجهك عني) أي لا أستطيع أن أراك، ولم يرد إسلامه؛ لأن هذا دين، وليس للنبي عليه الصلاة والسلام أن يتحكم فيه، لكن العاطفة مع العم هذا أمر متروك له فهو شيء بشري، فلم يستطع عليه الصلاة والسلام أن يرى وحشياً ، فقدر لـوحشي كما قتل حمزة أن يقتل مسيلمة الكذاب في حرب اليمامة، ولعل هذه تكفر تلك، وإن كان الإسلام يجب ما قبله.
أما العباس فقد عمِّر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أكبر من النبي عليه الصلاة والسلام بثلاث سنين، وكان إذا سئل أيهما أكبر أنت أم رسول الله؟ يتأدب ويقول: هو أكبر مني وأنا أسن منه! كلمة أسن تشعرك بالضعف، وكلمة أكبر تشعرك بالقوة فينسب القوة، والعلو إلى النبي عليه الصلاة والسلام، يعني هو أكبر مني قدراً، وأنا أسن منه، يعني أكبر منه سناً، لكنه لا يقول: أنا أكبر منه، وهذا من الأدب في الألفاظ.
إذاً:لم يسلم من أعمام النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنان هما: حمزة والعباس رضي الله تعالى عنهما وأرضاهما.
صفية بنت عبد المطلب : أسلمت وهاجرت، وهي أم الزبير بن العوام، توفيت بالمدينة في خلافة عمر بن الخطاب ، وهي أخت حمزة لأمه.
و عاتكة بنت عبد المطلب : قيل: إنها أسلمت، وهي صاحبة الرؤيا في بدر، وكانت عند أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، ولدت له عبد الله، أسلم وله صحبة، وزهيرًا، وقريبة الكبرى .
و أروى بنت عبد المطلب : كانت عند عمير بن وهب بن عبد الدار بن قصي ، فولدت له طليب بن
عُمير ، وكان من المهاجرين الأولين، شهد بدرًا وقُتِل بأجنادين شهيدًا، ليس له عقب.
و أميمة بنت عبد المطلب : كانت عند جحش بن رئاب ، ولدت له عبد الله المقتول بأحد شهيدًا، وأبا أحمد الأعمى الشاعر واسمه عبد ، وزينب زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وحبيبة ، وحمنة ، كلهم لهم صحبة، وعبيد الله بن جحش أسلم ثم تنصر، ومات بالحبشة كافرًا.
و برة بنت عبد المطلب : كانت عند عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، فولدت له أبا سلمة ، واسمه عبد الله ، وكان زوج أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وتزوجها بعد عبد الأسد أبو رهم بن عبد العزى بن أبي قيس فولدت له أبا عبرة بن أبي رهم .
و أم حكيم : وهي البيضاء بنت عبد المطلب ، كانت عند كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف فولدت له أروى بنت كريز ، وهي أم عثمان بن عفان رضي الله عنه ] .
بعد أن ذكر المصنف أعمام النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رحمه الله عمّات النبي عليه الصلاة والسلام، وكما قلنا في الأعمام نقول في العمّات، فالذي يلزم طالب العلم المعرفة الإجمالية، ولم يثبت من الست أنها أسلمت إلا صفية ، وهي أم الزبير بن العوام والأخت الشقيقة لـحمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه وأرضاه؛ وأما عاتكة وأروى فاختلف في إسلامهما، وأروى بعض العلماء يُصحح إسلامها، أما عاتكة فقليلٌ من قال بإسلامها، وقد قال المصنف: إن عاتكة هي صاحبة رؤيا بدر، والمقصود برؤيا بدر أن عاتكة قبل موقعة بدر رأت في منامها رجلاً يأتي على مكة ويقول: يا آل بدر هلم إلى مصرعكم، ثم إن صخرةً جاءت فانفلقت فخرجت منها شظايا فلم تترك بيتًا في مكة إلا أصابته، فلمّا شاع الخبر في قريش جاء أبو جهل إلى العباس رضي الله تعالى عنه وأرضاه وقال: يا بني عبد المطلب! أما يكفيكم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم؟! لقول عاتكة أنها رأت كذا وكذا، ثم تحققت هذه الرؤيا، وصدّق الله رؤياها، ووقع ما وقع في بدرٍ، ولم تترك غزوة بدر أحدًا من قريش إلا قليلاً إلا أصابته بسوء، وناله من كربها.
وأول من تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، تزوجها وهو ابن خمس وعشرين سنة، وبقيت معه حتى بعثه الله عز وجل، فكانت له وزير صدق، وماتت قبل الهجرة بثلاث سنين، وهذا أصح الأقوال، وقيل: قبل الهجرة بخمس سنين، وقيل: بأربع سنين ] .
هذه أولى أمهات المؤمنين، وهي خديجة بنت خُويلد ، ولها مزايا، منها أن الله جلّ وعلا أبلغها السلام عن طريق جبريل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج امرأة عليها في حياتها، وأنها رضي الله تعالى عنها وأرضاها رزق الله نبينا منها الولد، ورزق الله جلّ وعلا نبينا حبها، وكان عليه الصلاة والسلام يحبها حبًّا جمًّا، تقول عائشة : (ما غرت من أحد من النساء ما غرت على
ثاني أمهات المؤمنين سودة بنت زمعة ، وقد كانت رضي الله عنها وأرضاها بدينة ثقيلة الحركة، ولذلك رخّص لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تنزل في يوم مزدلفة قبل الناس، وكذلك من كان في وضعها، أذن لها أن تخرج من مُزدلفة بعد مُنتصف الليل كما هو معروف في كتب الفقهاء، وأذن لها أن تأتي منًى قبله، لأنها كانت امرأة ثبطة، ثم إنها في آخر أيامها خشيت أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم وأرادت أن تكون زوجته في الجنة فاتفقت معه أن تمنح ليلتها لـعائشة رضي الله وأرضاها، فاجتمع عند النبي عليه الصلاة والسلام تسع من النساء، وكان يقسم لثمان؛ لأن سودة تنازلت عن ليلتها لـعائشة رضي الله عنها وأرضاها.
هذه هي الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله صلى الله عليه وسلم، وهي أمنا أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر ، ولها خصائص منها:
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكرًا غيرها، وأن الوحي لم ينزل عليه عليه الصلاة والسلام في لحاف امرأة غير عائشة .
وقد شاع عنها حديث الإفك المعروف، وأصله أن النبي عليه الصلاة والسلام انصرف من بني المصطلق، ولما أناخ الجيش مطاياه، خرجت تلتمس عقدًا لها فقدته كانت أمها أم رومان قد أهدته لها، فلما ذهبت تلتمسه مضى الجيش، فجاء الموكلون بحمل هودجها وكانت امرأة آنذاك سنها تقريبًا في الرابعة عشر؛ لأن غزوة بني المصطلق كانت في نحو السنة الخامسة، والنبي صلى الله عليه وسلم تُوفي في الحادية عشرة ولها ثمانية عشر عامًا، فينجم عن هذا أن عمرها في حادثة الإفك في الرابعة عشر تقريبًا، فكانت امرأة خفيفة البدن غير مكتنزة اللحم، بل إنها كانت قبل أن يتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم نحيلةً جدًا، فأشار النبي عليه الصلاة والسلام على أبويها أبي بكر وأم رومان أن يُطعماها القثاء بالرطب حتى يمتلئ بدنها يسيرًا، ودخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة في شهر شوال.
والمقصود أن الذين يحملون الهودج حملوه ولم يخطر ببالهم أبدًا أن أم المؤمنين ليست موجودةً فيه، فحملوا الهودج وذهبوا، فلما ذهبوا جاءت رضي الله عنها فأرضاها ولم يكن في ظنها أن تحدث أمور عظام على تأخرها هذا، وظنت أن الجيش سيفقدها على بعد قليل ثم يعودوا إليها، فأناخت تحت شجرة وتقنعت رضي الله عنها وأرضاها، وكان قد تأخر عن الجيش صفوان بن مُعطل السُلمي ، فلما جاء صفوان ورآها عرفها، فلما عرفها رزقه الله وألهمه أن يقول إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156] ، والإنسان إذا ابتلي عليه أن يوطن نفسه على كثرة قول هذه الكلمة: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156]، فـصفوان كأنه علم أن هذا الأمر لن يتم بسهولة ولن يتركه المنافقون يمضي فقال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156]، ثم أناخ بعيره عندها وتنحى فركبت على البعير رضي الله عنها وأرضاها، وقاد صفوان الرجل الطاهر البعير دون أن يكلمها بكلمةٍ واحدة، فلما أشرف على الجيش رآه المنافقون، فقام عبد الله بن أبي فقال للناس: امرأة نبيكم مع رجل غيره، والله ما سلمت منه ولا سلم منها! (عياذًا بالله)، فألاك الناس الخبر وهي لا تدري، والله يقول: الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ [النور:23]، يعني لا يعلمن ما يُدار ويُحاك حولهن، فلما رجعت إلى بيتها رضي الله عنها وأرضاها وجدت تغيُّرًا من النبي صلى الله عليه وسلم رغم وجعها، لكنه لم يخطر ببالها أن يكون هذا الأمر، حتى إن أمها أم رومان لم تكن تعلم؛ ثم إنها خرجت مع أم مسطح لتقضي حاجتها، ولم يكن الناس قد اتخذوا الكُنُف آنذاك، فعثُرت أم مسطح فقالت: تعس مسطح ! فسكتت عائشة ، ثم عثرت مرة ثانية فقالت: تعس مسطح !تسب ابنها، فتعجبت عائشة ، هي تريد أن تفتح الموضوع معها، فقالت لها: عجباً لك! رجلاً شهد بدرًا تسبينه؟! فذكرت لها القصة، فتعجبت وقالت: أو خاض الناس في هذا؟! ورجعت إلى البيت تبكي، ثم استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن تُمرض عند أمها أم رومان فوافق عليه الصلاة والسلام.
فكان أبو بكر رضي الله عنه يجلس على سقف البيت وهو الصديق الأكبر وأول الناس إسلاماً وخير العباد بعد النبيين والمرسلين رضي الله عنه وأرضاه، لكن المؤمن مُبتلى، يجلس على سطح البيت يقرأ القرآن، وهو يسمع بكاء ابنته تحته، فلا يملك إلا أن يذرف دمعه ويقول: والله إنه لأمر ما فعلناه لا في جاهلية ولا في إسلام، يعني الزنا والخوض في الفواحش أمر لا نعرفه لا في جاهلية ولا في الإسلام، ثم لا يلبث أن يقول: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156]، ويستحيي أن يُكلم النبي صلى الله عليه وسلم في الموضوع، ويصبر على ما يجد.
وحدثت أمور بعد ذلك منها اختصام الأوس والخزرج لما خطب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، ثم بعد شهر تقريباً والنبي عليه الصلاة والسلام لا يأتيه وحي حتى يعلم الناس أن النبي لا يأتي بقرآن من عنده، ولو كان القرآن من عنده لكان قاله سريعاً حتى يُبرئ زوجته، لكنه سكت لأن الله سكت، ومضى شهراً عليه الصلاة والسلام والناس يخوضون في عرض أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، ثم بعد شهر دخل عليها صلى الله عليه وسلم وهي في بيت أبويها وأم رومان وأبو بكر عندها وهي تبكي، فقال لها: (يا
الذي يعنينا براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُسنِدٌ رأسه الشريف إلى صدرها ونحرها رضي الله عنها وأرضاها، وجمع الله بين ريقه وريقها حيث أعطته المسواك قبل أن يموت صلوات الله وسلامه عليه، ومات في بيتها ودُفن في حجرتها رضي الله عنها وأرضاها وعن جميع أمهات المؤمنين.
وروى عقبة بن عامر الجهني قال: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة بنت عمر ، فبلغ ذلك عمر فحثا على رأسه التراب، وقال: ما يعبأ الله بـعمر وابنته بعد هذا، فنزل جبريل من الغد على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إن الله عز وجل يأمرك أن تراجع حفصة رحمة لعمر ، توفيت سنة سبع وعشرين، وقيل: سنة ثمان وعشرين عام أفريقية ] .
يعني عام فتح أفريقية، وحفصة هي بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما أن عائشة بنت الصديق ، فـعائشة وحفصة يتفقان في أنهما ابنتا وزيري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحفصة رضي الله عنها وأرضاها تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة زوجها، وكان أبوها عمر قد عرضها على عثمان فأخبره أنه لا حاجة له في النساء، ثم عرضها على أبي بكر فسكت، فوجد عمر في نفسه شيئاً على أبي بكر ، فلما خطب النبي عليه الصلاة والسلام حفصة أفصح أبو بكر عن السبب الذي جعله يمتنع أن يقبل حفصة عندما عرضها عليه عمر وقال: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكرها.
هذه أم حبيبة بنت أبي سفيان ، وكما كانت عائشة وحفصة بنت وزيريه فإن أم حبيبة تزوجها رسول الله وهي بنت عدوه أبي سفيان قبل أن يسلم أبو سفيان .
وكان عبيد الله بن جحش خرج من مكة مُسلمًا إلى الحبشة فاراً بدينه، وهناك في الحبشة تنصر ومات على الكفر!
فالقلوب بيد الرحمن جلّ وعلا، ومن أسباب سوء الخاتمة الخوض في أعراض الناس، أعظم أسباب سوء الخاتمة الخوض في أعراض الناس، كان أحد الصالحين محبوباً من طلابه، وهذه القصة ذكرها الذهبي في الأعلام، وذكرها ابن خلكان ، فكان رجل يحسده على هذه المنزلة من طلابه، فكان إذا جاء الشيخ يحدِّث يقوم هذا ويُشغِّب عليه في الحلقة، مع أنه حافظٌ للقرآن حسن الصوت به، فمرة أغضب الشيخ فقال الشيخ: اجلس فوالله إني لأخشى أن تموت على غير ملة الإسلام, ثم قدِّر لهذا الرجل الذي شغَّب على الشيخ أنه زار بغداد رجلٌ من سفراء النصارى من القسطنطينية، فلما أراد الرجوع أحب هذا الذي يحفظ القرآن الندي الصوت به أن يرى بلاد الروم، فذهب معه إلى القسطنطينية، فلما ذهب معه إلى القسطنطينية أعجبه عالمهم وترك الإسلام وبقي على النصرانية، ثم إن أحد تجار المسلمين دخل القسطنطينية فرآه وعرفه، وكان يعرف جمال صوته بالقرآن، فرآه وهو على باب إحدى الكنائس يهش الذباب عن نفسه، فقال له: يا هذا ما فعل الله بك؟! قال: أنا كما ترى، قال: إنني كنت أراك حافظاً للقرآن فما بقي في صدرك منه؟ فقال: لم يبق منه ولا شيء إلا آية واحدة، ثم مات والعياذ بالله على الكفر، فصدقت عليه مقولة الشيخ لما كان يراه يُشغب عليه في الحلقة فقال له: إني لأخشى أن تموت على غير ملة الإسلام!
والإنسان إذا سلم قلبه من الحقد على الناس وسلم لسانه من الخوض في أعراضهم كان أدعى إلى أن يُوفق إلى حسن الخاتمة، وقد كان عندنا في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ يمني، ليس له علاقة بالناس، يدخل المسجد وقت الصلوات ويخرج، وليس له أي ارتباط بالناس، وكان لا يقرأ ولا يكتب، فكان إذا دخل المسجد يأتي لأي إنسان يعني خال فيأخذ مصحفاً ويُعطيه للرجل الخالي ويقول: اقرأ عليَّ من كلام ربي، والناس يعرفونه خاصةً من يُكثر الصلاة في الحرم , فبقي على هذه الطريقة سنين، حتى كان عام 1418هـ دخل الحرم فرأى رجلاً خالياً فأخذ مصحفاً كالعادة وأعطاه للرجل، وقال له: اقرأ عليَّ من كلام الله، فقرأ عليه ومرَّ بآية سجدة، فسجد الاثنان القارئ والأخ اليمني، فانتهى القارئ من التسبيح ورفع رأسه وبقي الأخ اليمني ساجداً وقبضه الله جلّ وعلا وهو ساجد، مات في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هيأة ليس بعدها ولا أشرف منها هيأة وهي هيأة السجود لرب العالمين، نحن نتكلم عن الظاهر، أما سريرته فأمرها إلى الله، ولا نحكم لأحد بجنة ولا نار.
وهذا عبيد الله بن جحش يأخذ زوجته ويفر بدينه من مكة إلى الحبشة ثم يتنصر!
ثق تماماً أنه لا يهلك على الله إلا هالك، دواخل القلوب هي من أعظم أسباب سوء الخاتمة، لكن الله جلّ وعلا أكرم وأرحم أن يكون أحد صادقاً معه ثم إن الله جل وعلا يخذله ويُميته ميتة السوء، فمن صدقت سريرته حسنت خاتمته، ومن صدق إلى الله فراره صدق مع الله قراره، من صدق إلى الله في فراره، وكان صادقاً في أوبته إلى الله، صدق مع الله قراره، يبقى مع ربه جلّ وعلا في إيمانه.
فلما تنصر زوج أم حبيبة ثم مات أكرمها النبي صلى الله عليه وسلم بأن طلبها وخطبها وتزوجها عليه الصلاة والسلام، وسيقت له من الحبشة.
أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها لما مات زوجها استرجعت، قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي وعوضني خيراً منها، فكانت تقول في نفسها: من يخلفني في أبي سلمة ؟ فلما مات خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فاعتذرت بثلاث حجج: اعتذرت بأنها مُصبِية أي لديها صبيان كثيرون، وأنها شديدة الغيرة، وأنها ليس لها عائل أي وال يزوجها؛ فأما التزويج فاختلف فيمن زوجها، وقيل: إنه عمر بن الخطاب ، وأما كونها مُصبية فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أن الله جل وعلا يكفيها ذاك، وأما أنها غيرة فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أسأل الله أن يذهب غيرتك)، فتزوجها عليه الصلاة والسلام, وابنها هو عمرو بن سلمة الذي طاشت يده في الصفحة وقال له عليه الصلاة والسلام: (يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك) وعمرو هذا هو ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذه زينب بنت جحش التي قالت مُفتخرة: زوجكن أهاليكن وزوجني الله جلّ وعلا من فوق سبع سماوات، والنبي عليه الصلاة والسلام كان قبل البعثة تبنّى زيد بن حارثة ، فكان يُسمّى عند الناس زيد بن محمد فلما قال الله جلّ وعلا: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ [الأحزاب:40] ، وقال: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب:5] أصبح يُدعى زيد بن حارثة باسمه الحقيقي، وزيد هذا تزوج زينب بنت جحش ابنة عمة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما تزوجها كانت ترى في نفسها أنها أعلى منه؛ لأنه مولى وهي قرشية، فأخبر الله نبيه أن زينب هذه التي هي الآن تحت زيد ستصبح زوجة لك.
فجاء زيد يشتكي زوجته زينب إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال له عليه الصلاة والسلام: (اتق الله وأمسك عليك زوجك) ، فقال الله جلّ وعلا في كتابه: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا * وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:36-37] فالقائل هو النبي صلى الله عليه وسلم، والذي أنعم الله عليه وأنعم عليه الرسول هوزيد ، قال الله: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ [الأحزاب:37] الذي أخفاه في نفسه صلى الله عليه وسلم هو أنها ستكون زوجته وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ [الأحزاب:37] الذي سيظهره الله وسيقع وسيكون هو زواجه من زينب وَتَخْشَى النَّاسَ [الأحزاب:37] تخشى الناس أن يقولوا: تزوج محمد ابنة ابنه على ما كانوا يعتقدونه في الجاهلية.
قال الله: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ [الأحزاب:37] ليس في القرآن ذكرٌ لأحد من الصحابة إلا زيد ، وليس للقضية فضل في ذاته، وإنما القضية قضية حادثة عين، فلابد أن يُذكر باسمه حتى ينجلي ما في القلوب، وإلا فـأبو بكر وعمر وغيرهما أفضل من زيد ولم يُذكر اسمهم صراحة في القرآن، لم يُذكر في القرآن إلا النبيون وثلاثة أو أربعة اختلف فيهم كـلقمان وعزير ، والنساء لم يُذكر منهن في القرآن إلا مريم ابنة عمران لشرفها وفضلها.
لم تلبث عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا شهرين، وورد في بعض الروايات أنها لبثت عنده ثمانية أشهر، وبسبب كونهالم تلبث مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذه المدة اليسيرة فإن المصادر التاريخية شحيحة بالكثير من أخبارها، لكن أنت كطالب علم تضمها مع خديجة ؛ لأنها هي وخديجة فقط اللتان ماتتا في حياته صلى الله عليه وسلم، أما باقي أمهات المؤمنين فكلهن متن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
هذه جويرية بنت الحارث ، خزاعية سُبيت في بني المصطلق ، فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم -وكان أبوها زعيماً- تريد أن تدفع ثمناً لتخرج من الأسر، جمعت مالاً يسيراً وبقي عليها، فدخلت عليه عليه الصلاة والسلام تطلب منه زيادة مال، فلما رآها قدر الله جلّ وعلا أن يطلبها على أنه يساعدها فيتزوجها، فوافقت رضي الله عنها وأرضاها، فتزوجها، فلما علم الصحابة أن النبي عليه الصلاة والسلام تزوجها تركوا من بأيديهم من الأسرى من بني المصطلق ، فكانت امرأة عظيمة البركة على قومها، ثم جاء أبوها الحارث إلى النبي عليه الصلاة والسلام يطلبها فخيرها النبي عليه الصلاة والسلام بين البقاء معه أو أن تذهب مع أبيها فاختارت البقاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم الحارث بعد ذلك، وجعله النبي عليه الصلاة والسلام على صدقات قومه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر