أما بعد:
فما زلنا أيها المباركون والمباركات! نتفيأ ظلال طرق المدائح النبوية؛ تلكم القصائد التي قيلت في سيد الخلق وأشرفهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
وقبل أن نشرع في القصيدة التي اخترنا أبياتاً منها في لقاء هذا اليوم، يحسن بنا أن نستصحب أموراً: أننا في هذه اللقاءات لا نريد أن نبين المنهج العام والصناعة الأدبية لتلك القصائد، وإنما نريد أن نتخذ من تلكم القصائد مطايا نصل بها إلى الكثير من الخفايا من سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، وما يمكن أن نستقيه وننهله من نعيم سيرته العطرة وأيامه النضرة صلوات الله وسلامه عليه، فما هذه القصائد إلا مدخل للنظر في السيرة، وبيان كيف وفق أولئك الشعراء إلى صياغة مناقبه وخصاله وأفضاله صلوات الله وسلامه عليه.
سلوا قلبي غداة سلا وثابا لعل على الجمال له عتابا
وقد بويع شوقي بإمرة الشعر عام 1932م، وكان قرنه الأول حافظ إبراهيم أول المبايعين، وقال في قصيدته التي بايع فيها شوقي أميراً للشعراء:
أمير القوافي قد أتيت مبايعاً وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
وشوقي له أبيات حاد فيها عن المنهج الحق، كقوله:
رمضان ولى هاتها يا ساقي مشتاقة تسعى إلى مشتاقِ
وغيرها من الأبيات التي حاد فيها عن منهج الحق إما خلقياً وإما عقدياً، لكن الرجل غفر الله له ورحمه له ثلاث قصائد في مدح النبي صلى الله عليه وسلم عز نظيرها، وقل مثيلها، منها ما عرفت بنهج البردة، والقصيدة التي عارض فيها شوقي بردة البوصيري رحمه الله تعالى، ومعلوم أن بردة البوصيري مطلعها:
أمن تذكر جيران بذي سلم مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم
أم هبت الريح من تلقاء كاظمة وأومض البرق في الظلماء من إضمِ
ونحن لا نستطيع أن نعرج على ميمية شوقي حتى نعرج أولاً على ميمية البوصيري ، لكننا في هذا اللقاء سنقف مع بائية شوقي رحمه الله تعالى.
وبقيت له الهمزية والتي مطلعها:
ولد الهدى فالكائنات ضياء وفم الزمان تبسم وثناء
الروح والملأ الملائك حوله للدين والدنيا به بشراء
وسنخصص حلقات متتابعة لهمزية شوقي ولنونيته، لكننا بعد أن نعرض لميمية البوصيري رحمة الله تعالى عليهما.
سلوا قلبي غداة سلا وثابا لعل على الجمال له عتابا
ويسأل في الحوادث ذو صواب فهل ترك الجمال له صوابا
ولي بين الضلوع دم ولحم هما الواهي الذي ثكل الشبابا
وكل بساط عيش سوف يطوى وإن طال الزمان به وطابا
كأن القلب بعدهم غريب إذا عادته ذكرى الأهل ذابا
ولا ينبيك عن خلق الليالي كمن فقد الأحبة والصحابا
أخا الدنيا أرى دنياك أفعى تبدل كل آونة إهابا
فمن يغتر بالدنيا فإني لبست بها فأبليت الثيابا
لها ضحك القيان إلى غبي ولي ضحك اللبيب إذا تغابى
جنيت بروضها ورداً وشوكاً وذقت بكأسها شهداً وصابا
ولم أر مثل حكم الله حكماً ولم أر مثل باب الله بابا
إلى أن قال في مدح سيد الخلق صلى الله عليه وسلم:
وعلمنا بناء المجد حتى أخذنا إمرة الأرض اغتصابا
وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
تجلى مولد الهادي وعمت بشائره البوادي والقصابا
وأسدت للبرية بنت وهب يداً بيضاء طوقت الرقابا
لقد وضعته وهاجاً منيراً كما تلد السماوات الشهابا
أبا الزهراء قد جاوزت قدري بمدحك بيد أن لي انتسابا
فما عرف البلاغة ذو بيان إذا لم يتخذك له كتابا
مدحت المالكين فزدت قدراً فلما مدحتك اقتدت السحابا
هذه بعض الأبيات من بائية شوقي رحمه الله رحمة واسعة.
إن شوقي في هذه القصيدة حاول أن يبدأ أولاً بالحكم، ثم يبين عالمية النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
وعلمنا بناء المجد حتى
ثم انتقل إلى يوم مولده صلى الله عليه وسلم، ثم حرر ذلكم الإسداء القدري الذي جعله الله على يد آمنة بنت وهب يوم أن وضعت رسول صلى الله عليه وسلم، ثم قال يخاطب نبينا صلى الله عليه وسلم:
(أبا الزهراء) معتمداً على ما في ذاكرتنا الإسلامية التاريخية من عظيم محبة النبي صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة ، ثم بين جملة بلاغة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر بعد ذلك أنه قدر له -أي: شوقي - أن يمدح كثراً من ملوك وسلاطين عصره، وأنه مدحهم على بينة وعلى علم فنال حظوة عندهم، ونال منزلة عند الناس بمدحه لهم، لكنه يقول:
لما مدحتك
أي: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم
اقتدت السحابا
بمعنى: أنني أصبحت أتحكم فيها، وهو يقصد أنه بلغ ذروة في المجد عالية جداً، ببركة مدحه لرسول صلى الله عليه وسلم، هذا هو الإلمام الشامل لقصيدة شوقي رحمة الله تعالى عليه.
ولا ينبيك عن خلق الليالي كمن فقد الأحبة والصحابا
فهل أراد شوقي أن يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم جرب بفقد الأحبة؟ سواء قصده شوقي أو لم يقصده فإن السيرة تدل على ذلك، فنبينا صلى الله عليه وسلم كان له ابنان القاسم وعبد الله ، وأربع بنات: رقية وأم كلثوم وزينب وفاطمة ، ثم ولد له بعد هؤلاء الستة إبراهيم فأضحوا سبعة، وكلهم توفوا في حياته صلى الله عليه وسلم إلا فاطمة كما سيأتي الحديث عنها تفصيلاً.
فالنبي صلى الله عليه وسلم أعظم من جرب فقد الأحبة، فهو عليه الصلاة والسلام لم تكتحل عيناه أصلاً برؤية أبيه عبد الله بن عبد المطلب ، إذ على الصحيح أن عبد الله بن عبد المطلب والد النبي صلى الله عليه وسلم توفي والنبي صلى الله عليه وسلم حمل في بطن أمه، وأمه آمنة بنت وهب عاش معها صلى الله عليه وسلم ست سنين فأدرك من ذلك عاطفتها، فحق له بعد ذلك أن يقف على قبرها ويقول: (إنني استأذنت ربي بأن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنت أن أزورها فأذن لي، فبكى صلى الله عليه وسلم، فبكى الصحابة لبكائه، فلم ير باكياً أعظم منه).
قال شوقي رحمه الله تعالى:
أبا الزهراء قد جاوزت قدري لمدحك بيد أن لي انتسابا
يقصد الانتساب للملة.
فما عرف البلاغة ذو بيان إذا لم يتخذك له كتابا
مدحت المالكين فزدت قدراً فلما مدحتك اقتدت السحابا
فقد اجتمعت كل مناقب الخير والفضل فيه صلوات الله وسلامه عليه.
فأما محسن فقد مات صغيراً، فبقينا في الحسن والحسين ، فأي نسب اليوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -لا إلى آل البيت؛ لأن كلمة آل البيت أعم، لكن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- إنما هو إما من الحسن أو من الحسين ، ولهذا قدر الله في أن الحسين بن علي رضي الله عنه شهيد كربلاء لما مات في كربلاء كان الناجي الوحيد من الرجال ابنه علي المعروف بـزين العابدين ، فكما أن الحسين يقال له: شهيد كربلاء فإنه يقال لابنه علي بن الحسين المعروف بـزين العابدين يقال له: نجي كربلاء، فأبقى الله علي بن الحسين حياً ولم يتسلط عليه الأعداء ولم يقتلوه؛ حتى يبقي الله جل وعلا على عقب نبيه صلى الله عليه وسلم من ذرية الحسين الممتدة إلى فاطمة إلى ظهره صلوات الله وسلامه عليه.
فكل من ينتسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم قطعاً هو إما من ذرية الحسن أو من ذرية الحسين ، ومن كان من ذرية الحسين فهو قطعاً من ذرية زين العابدين بن علي ، وأكرر أن مسألة آل البيت أوسع وأعم، وسيأتي تفصيلها.
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرمُ
هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم
وليس قولك من هذا بضائره العرب تعرف من أنكرت والعجم
كلتا يديه غياث عم نفعهما يستوكفان ولا يعروهما عدم
سهل الخليقة لا تخشى بوادره يزينه اثنان حسن الخلق والشيم
ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم
عم البرية بالإحسان فانقشعت عنها الغياهب والإملاق والعدم
مشتقة من رسول الله نبعته طابت مغارسه والخيم والشيم
هذا ابن فاطمة إن كنت تجهله بجده أنبياء الله قد ختموا
فهذه الأبيات قالها الفرزدق الشاعر الأموي المعروف في مدح زين العابدين بن علي ، هذا يسوقنا إلى أن محبة آل بيت رسول صلى الله عليه وسلم دين وملة وقربة، وقد قال الفرزدق في هذه القصيدة:
من معشر حبهم دين وبغضهم كفر وقربهم منجى ومعتقد
والإمام أحمد بن حنبل -إمام أهل السنة في زمانه- لقي ما لقي من العنت من المعتصم الخليفة العباسي، والمعتصم أبوه هارون الرشيد وهو عباسي، وهو ابن عم رسول صلى الله عليه وسلم، فكان الإمام أحمد رحمة الله تعالى عليه من تعظيمه لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم ما وجده من سياط المعتصم وعنته وجلده وسجنه له كان يقول: جعلتك في حل؛ لأنني أستحيي أن ألقى نبينا صلى الله عليه وسلم يوم القيامة وبيني وبين أحد أبناء عمومته خصومة، فهذا مثل ونموذج يحتذى في التعامل مع آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نعود فنقول: إن فاطمة التي قال شوقي هنا فيها:
أبا الزهراء قد جاوزت قدري
كانت أشبه مشية برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونبينا صلى الله عليه وسلم قدوة في الخير كله، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، وقد يتعذر على كل أحد أن يجمع كل ما في النبي صلى الله عليه وسلم فهذا محال، لكن نأخذ منه صلى الله عليه وسلم بعض الأشياء قدر الإمكان، فيجتمع فيك بعض الخصائص والفضائل لرسول صلوات الله وسلامه عليه، فهذه فاطمة ابنته من أشد الناس شبهاً بمشية أبيها صلوات الله وسلامه عليه، وكان صلى الله عليه وسلم يحبها حباً جماً، وقد دخلت عليه في يوم وفاته فبشرها بأنها سيدة نساء أهل الجنة، وأخبرها أنه سيموت في مرضه هذا، فلما أخبرها أنه سيموت في مرضه هذا بكت، فلما أخبرها بأنها سيدة نساء أهل الجنة سرت رضي الله تعالى عنها وأرضاها.
وفاطمة رضي الله عنها وأرضاها أخبرها النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه أنها أول أهله لحوقاً به، وهذا سيأتي بيانه في قضية الغيب في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فلا نعجل في أمر لنا فيه أناة.
كما أكرمها صلى الله عليه وسلم جارة، فقد جاءته امرأة فقدم لها صلى الله عليه وسلم طيب القول ولينه فتعجبت عائشة عنها، قال: (إنها كانت تأتينا زمن
وأكرم صلى الله عليه وسلم هالة أخت خديجة رضي الله عنها وأرضاها، إكراماً لزوجته خديجة .
والمقصود: أن الله جل وعلا كرم المرأة عموماً، ومن أعظم الدلائل أن سورة في القرآن عدد آيها ثمان وتسعون آية هي سورة مريم سميت باسم الصديقة مريم عليها السلام، وقد قال الله جل وعلا عنها: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ [المائدة:75]، وقال الله جل وعلا: يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:42]، ولما أراد الله جل وعلا أن يقدم في القرآن الموحى إلى نبيه دينه الحق لم يبدأ به جل وعلا كمن يريد من الناس ألا يقبلوا دينه، كما يقع من أخطائنا نحن أحياناً في الدعوة، ولكن لما جاء وفد النصارى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم أن يدخلوا مسجده الشريف، وصلوا جهة الشرق؛ لأن النصارى تعظم الشرق، وهو صلى الله عليه وسلم مقر لهم، فلما أراد أن يثبت لهم أن عيسى ليس ابناً لله قال الله جل وعلا في أول الآيات التي أنزلت في هذا الشأن: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ [آل عمران:33]؛ لأن النصارى يعظمون آل عمران، ثم أثنى الله جل وعلا على مريم وبين جل وعلا مكانها ومقامها: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:42-43]، ثم بعد أن بين الله جل وعلا فضل مريم وفضل بيت آل عمران جملة قال الله جل وعلا: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [آل عمران:59-60].
فبين لهم الصواب وبين لهم الحق، ودلهم على الجادة بعد أن مهد ووطأ لذلك تمهيداً وتوطئة تناسب أن يقبلوا قوله، فلما اعترضوا أنزل الله جل وعلا آيات المباهلة: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:61]، عمد صلى الله عليه وسلم هنا إلى فاطمة وعلي والحسن والحسين وخرج وهم وراءه، فقال لوفد نجران يدعوهم إلى المباهلة، وقال لـفاطمة وعلي والحسن والحسين : (إذا أنا دعوت فأمنوا)، فلما رأى وفد النصارى تلك الوجوه النيرة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وألصق الناس به نسباً، قالوا: إن هذه الوجوه لو سألت الله أن يزيل الجبال لأزالها، فامتنعوا عن المباهلة، وهذا كله ناله هؤلاء الأربعة بقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وبإيمانهم من قبل، وشهادتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم رسول من عند الله.
مدحت المالكين
أي: أهل السلطان والملك.
فزدت قدراً
وهذا من الواقع المشهود، فالإنسان إذا كان له حظوة عند الملوك فإن هذا مما يرفع قدره، ثم استدرك وهذا من أدبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحق أن شوقي أوتي باعاً عظيماً وحظوة كبيرة في لين القول، وطيب الكلام.
فلما مدحتك اقتدت السحابا
وفي رواية كنت أحفظها من قبل:
ازددت السحابا
والمعنى واحد، أي: أنني بمدحي للناس ارتفعت، لكنني بلغت الذروة ووصلت إلى أعلى ما يمكن أن يصل إليه إنسان من جاه لما مدحتك يا سيد الخلق، صلوات الله وسلامه عليه.
فلما مدحتك اقتدت السحابا
قال قبلها:
فما عرف البلاغة ذو بيان إذا لم يتخذك له كتابا
وشوقي يأتي أحياناً بالمعنى الواحد ثم يغير في الطرائق في ذكره.
فهذا البيت قاله شوقي في ميميته -كما سيأتي- يخبر فيه عن فصاحة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قوله:
يا أفصح الناطقين الضاد قاطبة حديثك الشهد عند الذائق الفهم
وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه يتعجب من فصاحة النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول له صلوات الله وسلامه عليه: (وأي غرابة في ذلك وأنا من قريش واسترضعت في بني سعد)، فالعرب كانت تعمد كثيراً إلى أن تسترضع أبناءها في البادية، حتى يشب المرء مع طيب الهواء ونقائه يشب فصيحاً بليغاً، والشافعي رحمة الله تعالى عليه مكث عشر سنوات في بني هذيل يطلب اللغة، ولهذا أصبح إماماً في اللغة يحتج بقوله، والوليد بن عبد الملك كان أسيراً عند أبيه عبد الملك بن مروان بخلاف إخوته، وبعث عبد الملك سليمان وغيره إلى البادية، ولم يبعث الوليد ، فكان الوليد يلحن، أي: لا يقيم المسائل النحوية جيداً بينه وبين أبيه، فكان عبد الملك بعد ذلك يتحسر على أنه لم يبعث الوليد أيام صباه إلى البادية، ويقول: حبنا للوليد أضر به، أي: أنه لم يرسله إلى البادية ليقيم لسانه.
نعود إلى أفصح الخلق صلى الله عليه وسلم، فقد أوتي عليه الصلاة والسلام جوامع الكلم، وهي كلمات معدودات تدخل فيها معان لا يمكن حصرها، وهذا من البلاغة، ولهذا ينبغي للخطيب الذي يرقى المنابر أن يحاول أن لا يكرر الكلام ولا أن يعيد نفس الفكرة، وإنما يحاول أن يأتي بجوامع الكلم، وأن يرقى بسامعيه إلى محل أعلى كما كان صلى الله عليه وسلم يقول، وقد قال أهل الصناعة الأدبية إن هناك كلمات أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسبق إليها، أي: أن العرب لم تكن تعرفها، منها قوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين: (الآن حمي الوطيس)، قالها صلى الله عليه وسلم لما اشتد رحى المعركة في يوم حنين، فهذه العبارة لم تكن تعرفها العرب من قبل، وإنما أول من قالها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكروا كلمات أو عبارات غير هذه كما بينهما أصحاب كتاب المفصل في الأدب العربي، والذي يعنينا أن الإنسان إذا أراد أن يقوِّم لسانه فعليه بقراءة القرآن، وتأمل أحاديث المعصوم صلى الله عليه وسلم، فسيجد فيها مرتقى عالياً، ومنازل رفيعة في البلاغة والفصاحة، وهذا شأن أنبياء الله، ونبينا صلى الله عليه وسلم هو أفصح من نطق لغة الضاد، إلا أن أهل السير يقولون: إن شعيباً عليه السلام إذا ذكر يوسم بأنه خطيب الأنبياء، وشعيب أحد أربعة أنبياء من العرب وهم: شعيب وهود وصالح وختموا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا ما تمكنا إيراده وتهيأ إعداده حول بائية شوقي في مدح سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.
وفي اللقاء القادم سنعرج على ميمية البوصيري ، ثم نردف بعد ذلك قصائد شوقي التي عارض بها نونية البوصيري .
نسأل الله لنا ولكم التوفيق.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر