إسلام ويب

المؤذن الأولللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الله سبحانه وتعالى نظر إلى خلقه فوجد الصحابة أطهر الناس قلوباً، فاختارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، فهم أعظم من عرفت البشرية؛ فلذلك اعتنى أهل السير والتراجم بحياتهم وتدوينها في الكتب لأخذ العبر والعظات والاقتداء بهم في هذه الحياة.

    وفي هذا الدرس قصة المؤذن الأول ألا وهو بلال بن رباح، وفيها كيف كانت حياته قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وبعد بعثته، وكيف عاشر النبي صلى الله عليه وسلم وخدمه وأحبه، وكيف كانت حياته بعد النبي صلى الله عليه وسلم.

    الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وسلم ما فاحت الأزهار وما تناغمت الأطيار، وما تعاقب الليل والنهار، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أيها المؤمنون: عنوان هذه الخطبة: المؤذن الأول.

    من هو المؤذن الأول؟

    من هو أول من صدح بصوت الحق على منارة الحق في دنيا الحق؟

    الصبر على هذا الدين

    إنه ذاكم المولى الضعيف المسكين الذي رفعه هذا الدين، فأصبح من ورثة جنة النعيم.

    بلال بن رباح اسم يحبه المؤمنون وصوت تعشقه آذان الموحدين، ولا بد للمسلم أن يولد ميلادين اثنين وأن يعيش حياتين:

    الميلاد الأول: يوم ولدته أمه.

    الميلاد الثاني: يوم ولد في هذا الدين الجديد.

    وبلال رضي الله عنه وأرضاه ولد ميلادين، وعاش حياتين، وصاحب عالمين، ولد مولى، وأستأسره الجبابرة وسلطوا عليه سياط الكبر والعنجهية، فكان مولىً لا حساب له ولا تأثير في الحياة، وأخذ إلى مكة مفصولاً ومعزولاً عن أهله وأمه، وعاش في مكة.

    وفجأة صدع الرسول عليه الصلاة والسلام من على الصفا بلا إله إلا الله محمد رسول الله.

    وذهب صلى الله عليه وسلم إلى سادات مكة يدعوهم إلى لا إله إلا الله، فكفروا بلا إله إلا الله، واعترضوا على رسول الله وكذبوه، وافتروا عليه وآذوه، وشتموه، فأنزل الله عليه: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28].

    معنى الآية: ما عليك من هؤلاء الكبار؛ فإنهم صغار عند الله، لا تعبأ بهم أبداً، ولا تعطهم شيئاً من وقتك ما دام هذا صنيعهم.

    ولا تظن أن الإسلام سوف ينتصر على أكتاف المتكبرين المتجبرين، لكن اذهب إلى أناس يريدون وجه الله، من المساكين والفقراء والموالي، من الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً.

    وذهب صلى الله عليه وسلم يبحث عن أحبابه وأتباعه وجنده وتلاميذه، فوجدهم في أصناف من الناس، في عالم الفقر والزهد والضعف والمسكنة، ومنهم بلال.

    ورأى بلال محمداً عليه الصلاة والسلام فأحبه، والسر الذي زرعه رسول الهدى عليه الصلاة والسلام في القلوب هو الحب، فجر أنهار الحب في قلوب أصحابه حتى كان الواحد منهم يقدم صدره أمام صدر الرسول عليه الصلاة والسلام، ويقطع أمامه بالسيف إرباً إرباً، ويقول:

    نفسي لنفسك الفداء يا رسول الله!!!

    حب أجراه في قلوبهم، فأحبه بلال حباً استولى على سمعه وبصره وقلبه، فأصبح يتحرك في حب الرسول صلى الله عليه وسلم، يأكل وشخص الرسول أمام عينه، ويشرب وشخص الرسول في سمعه وبصره، ولسان حال بلال يقول:

    أحبك لا تسأل لمـاذالأنـني      أحبك هذا الحب رأيي ومذهبي

    أو كما قال الأول:

    أحبك لا تفسير عندي لصبوتي     أفسر ماذا والهوى لا يفسر

    فلما أحبه شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وعرض عليه الدين، فأحب هذا الدين؛ لأنه يرفض الرق، والعبودية لغير الله، ولأنه ينبز الظلم ويحارب الظلمة.

    فلما أحبه، وشهد أن لا إله إلا الله، اجتمع الجبابرة على بلال، وضربوه ليعود عن لا إله إلا الله، فأبى، سجنوه وعذبوه، فأبى، ربطوه بالحبال وجرجروه على صخور مكة السوداء في الظهيرة وجهاً لبطن ليعود، فكان يتلفظ بقوة: أحد..أحد.

    من هو الواحد الأحد؟ إنه الذي أرسل هذا الرسول، وأنقذ الإنسان، والذي دعا قلبه ليؤمن بالواحد الأحد.

    لطموه على وجهه فيرتفع صوته متأثراً ثائراً مجروحاً: أحدٌ.. أحد.

    حب يجري في الدم لله ولرسوله، يسحبونه في الظهيرة جائعاً عارياً قد أثرت السياط في ظهره، تمزق لحمه على الصخور، وهو يقول: أحد.. أحد.

    قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:1-4]

    إنها إرادة تكسر الحديد! وهذه هي المعجزة الكبرى التي أتى بها رسولنا عليه الصلاة والسلام، وهي تحويل الأعراب والموالي والفقراء والمساكين إلى جيش ضارب رهيب يفتح الدنيا بلا إله إلا الله.

    يقول إقبال:

    وأصبح عابدو الأصنام قدماً     حماة البيت والركن اليماني

    يقول: إنك يا محمد! حولت عباد الأصنام إلى حماة للركن اليماني والحجر الأسود.

    ولما أسلم بلال أمام هذا التعذيب الهائل مر به أبو بكر وهو يعذب، فقال أبو بكر: أشتريه منك يا أمية - أمية بن خلف المجرم- قال: خذه ولو بعشرة دنانير، قال أبو بكر: والله لو جعلت ثمنه مائة ألف دينار لاشتريته بذلك، فدفع القيمة وأخذه، فأنزل الله: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى *وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:17-21] من هو الذي سوف يرضى؟

    وهل أراد أبو بكر من بلال كلمة شكر؟

    لا، بل أعتقه لوجه الله، وأتى به إلى الرسول عليه الصلاة والسلام معذب الجسم ومنخور اللحم، السياط قد أثرت في مواضع من جسمه، فأخذه عليه الصلاة والسلام واحتضنه كما تحتضن الأم طفلها، وقبله ودعا له، وعينه مؤذنه الأول الذي أذن في فجر التاريخ، وهو أول مؤذن حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

    وكلما حانت الصلاة قام بلال يهتف: الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر. فتنتفض أجسام المؤمنين من صوت بلال كما تنتفض الأجسام من التيار الكهربائي.

    المؤذن كلما اهتم الرسول عليه الصلاة والسلام وأصابه كرب، قال: {أرحنا بها يا بلال!} فيؤذن، كان يتقدم أمام الرسول عليه الصلاة والسلام بماء الوضوء والعنزة، وكان يأخذ حذاء الرسول بيده، ويرى أنها أشرف خدمة يقدمها في تاريخه.

    يجلس عليه الصلاة والسلام فيقول: أين بلال؟

    كان يحبه، وهو الحب الذي سرى في جسم بلال وعوضه عن كل شيء، عن جاهه ونسبه وماله، فما دام أن الرسول عليه الصلاة والسلام يحبه فكفى.

    رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم لبلال رضي الله عنه في الجنة

    وفي ذات يوم جلس عليه الصلاة والسلام يخبر أصحابه في الصباح الباكر بعد صلاة الفجر عن رؤيا رآها في المنام، فقال: {رأيت البارحة، كأني دخلت الجنة -وهي رؤيا حق ما زاغ البصر وما طغى- فسمعت دف نعلك يا بلال، فماذا كنت تصنع} إذاً فهو من أهل الجنة.

    وشهد أهل السنة أن بلالاً من أهل الجنة، وقد جعل الله له الذكر الحسن في الدنيا، فمسلمو اليابان والشام والجزيرة ومصر واليمن والمغرب، وكل مسلمي العالم يعرفون من هو بلال.

    قال: {سمعت دف نعليك البارحة يا بلال! فماذا كنت تصنع؟ قال: يا رسول الله والله ما أنا بكثير صيام ولا صلاة ولا صدقة، ولكن ما توضأت في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بعد الوضوء ركعتين}متفق عليه

    كلما توضأ صلى ركعتين.

    كان خفيف الجسم ممشوق القامة، أسود اللون، لكنه أبيض المبادئ.

    وكَّله عليه الصلاة والسلام أن يحرس الجيش في المعركة في غزوه من الغزوات، قال: من يوقظنا للصلاة؟

    قال بلال: أنا يا رسول الله! فنام الجيش، وقام بلال يصلى طيلة الليل، فلما أقبل الفجر واقترب السحر حدث بلال نفسه، أن يضطجع قليلاً ليرتاح، فاضطجع فنام، وأتت صلاة الفجر والرسول عليه الصلاة والسلام نائم، والجيش نائم، وطلعت الشمس والأمة نائمة، وبعد طلوعها وارتفاعها كان أول من استيقظ عمر، فرأى هذه المأساة التي يراها لأول مرة، وهي أن الرسول المعصوم نام ولم يصل الصلاة والجيش معه، وهي حكمة من الله، ليكون قدوة للناس إذا ناموا، وأن تصيبه صلة من النوم ليكون عذراً لمن غلبه النوم.

    يستيقظ عمر ويقترب من الرسول عليه الصلاة والسلام، ويستحي أن يقول للمعلم الأول: قم للصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم لا يوقظ، والرواية في البخاري قال: فأخذ عمر يقول وهو بجانب الرسول عليه الصلاة والسلام: الله أكبر.. الله أكبر.. ويعيد التكبير حتى استيقظ الرسول عليه الصلاة والسلام، ودعا حبيبه، ومؤذنة، وأجلسه أمامه، فقال: {يا رسول الله! أخذ بعيني الذي أخذ بعينك، فتبسم عليه الصلاة والسلام} فهو يقول: العذر واحد، أنت نمت وأنا نمت، والذي غلبك غلبني، والذي انتابك انتابني، فتبسم صلى الله عليه وسلم وأقره، وأدى الصلاة فأذن بلال بعد طلوع الشمس وصحت صلاتهم وقبلت.

    ارتفاع منزلة بلال بالتقوى

    ويجلس بلال في مجلس، ويقول أبو ذر لـبلال: يا بن السوداء!

    هل في الإسلام حمراء وسوداء وبيضاء؟

    هل هناك أسود أو أبيض أو أحمر؟

    من هو الكريم عندنا في هذه الملة المشرفة؟

    إنه المتقي، قال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].

    إننا لا نعترف بالألوان أو الأجناس أو البلدان، بل نعترف برجل يحمل لا إله إلا الله، هويته إياك نعبد وإياك نستعين، وغضب بلال وقال: والله لأرفعنك إلى خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفع أمره فغضب النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم غضباً شديداً، لأنه يؤسس منذ عشرين سنة مبدأ: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] فيأتي هذا بكلمة يهد هذا البناء وهذا الصرح الشامخ، لا يجوز هذا.

    ويستدعي أبا ذر، قال أبو ذر رضي الله عنه: والله ما أدري هل رد علي النبي السلام أم لا من شدة الغضب، وقال: {أعيرته بأمه؟ إنك امرأ فيك جاهلية}.

    إن هذه خطيئة في الإسلام لا أكبر منها، إنها هدم للكتاب والسنة، ولكن بلالاً يزداد مع الأيام رفعه لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يحبه.

    يصلى النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم صلاة العيد، ويخطب الناس، ثم يتكئ على بلال ويذهب يخطب النساء، وهو متكئ على بلال، ويرى بلال أن السعادة البشرية قد حصلت له؛ لأن رسول البشرية ومعلم الإنسانية وضع رأسه في حجره.

    أي كرم؟!

    وأي تشريف؟!

    وأي عطاء؟!

    وأي تبجيل؟!!

    ويفتح الرسول عليه الصلاة والسلام مكة في اليوم المشهود الذي حطمت فيه الأصنام، فلا معبود بحق إلا الله، فيدخل الرسول عليه الصلاة والسلام على ناقته، ومعه عشرة آلاف من المؤمنين، أصبحت العقيدة جزءً من أجسامهم، أواضاً من جماجمهم التي على أكتافهم.

    يدخل فيرى الأصنام فيطعنها برمحه فتتساقط وتتناثر، قال تعالى: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً [الاسراء:81] وتحين صلاة الظهر، ويجلس الناس أجمعون في صرح الكعبة المشرفة في الحرم، مؤمنهم ومشركهم، ويقول عليه الصلاة والسلام: أين بلال؟

    فيقول: هاأنا يا رسول الله! قال: اصعد وأذن على سطح الكعبة.

    أليس هذا دين الموالي؟!

    أليس هذا انتصار للفقراء؟!

    أليس هذا عدل للمساكين؟!

    أليس هذا رفع لرءوس المستضعفين؟!

    أليس هذا هو العدل بعينه؟!

    أن يقوم المولى الأسود على الكعبة السوداء وهي بيت الله ليهتف بنداء الحق.

    أين أبو جهل؟!

    أين أبو لهب؟!

    أين أبو طالب؟!

    وصعد بلال واستوى على الكعبة لكي يخاطب الدنيا بشهادة الحق إلى يوم الدين، فلما أذن بكى الناس، ومن الذي يرى المشهد، ويرى الصورة ويسمع الصوت ويعيش التفاصيل ثم لا يبكي؟!!

    هل قلوبهم من الحجارة؟!

    هل سدت أسماعهم وأبصارهم حتى لا يروا؟!

    إنه شيء عجيب يوم الفتح الأكبر.

    الفاتح:رسول الله عليه الصلاة والسلام.

    الدين: الإسلام.

    المؤذن: بلال المولى الأسود.

    أين يؤذن؟ على سطح الكعبة.

    قال: الله أكبر، وكان صوته جميلاً يسبي القلوب يأخذ الأرواح ثم لا يتركها، يشدها ثم لا يرسلها.

    أول من بكى الرسول عليه الصلاة والسلام، سالت دموعه حارة؛ لأنه تذكر المعاناة، وتذكر الصدمات الهائلة، وتذكر أيام الجوع والوجع والتعذيب، وأيام الإرهاب الفكري والمعنوي والجسدي، ثم يرى أنه قطع مرحلة هائلة وأنه انتصر، وأن مولاه وحبيبه أصبح مؤذناً، ويبكي الصحابة، ويشارك النساء والأطفال في البكاء، وهذا الصوت يتلجلج في هضاب مكة وأوديتها، يسبح كالتيار في الماء.

    لا إله إلا الله.

    يقول أحد المشركين وكان ما يزال على شركه: ما كنت أظن أن الحياة تطول بي حتى أرى هذا الغراب الأسود، ينعق على الكعبة.

    قاتلك الله! أغراب هو؟!

    بل هو إنسان العيون.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088533560

    عدد مرات الحفظ

    777176037