الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خالق الكون بما فيه، وجامع الناس ليومٍ لا ريب فيه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، نبي الأميين، ورسول رب العالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
أيها الإخوة جميعاً! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذا لقاء من اللقاءات المباركة الموسومة بالمدائح المرضية التي جرت العادة أننا نستقي فيها أبياتاً شعرية لشعراء مسلمين أثنوا فيها ومدحوا رسولنا صلى الله عليه وسلم، وهي قصائد غرر، فنختار منها أبياتاً، وقد مضى -ولله الحمد- الكثير من الأبيات التي من خلالها نهلنا من معين السيرة، وارتوينا من منهج رسولنا صلوات الله وسلامه عليه، وذلك من خلال تعرضنا لتلك الأبيات وما تضمنته من الإشارة للحياة النضرة والسيرة العطرة لرسولنا صلى الله عليه وسلم.
وحادثة الإسراء والمعراج حادثة جليلة مبنىً ومعنىً، وقد كانت ميزاناً خصباً لكثيرٍ من المادحين الذين مدحوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأحدهم يقول:
سريت من حرمٍ ليلاً إلى حرم كما سرى البرق في داج من الظلم
وآخر يقول:
أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه والرسل في المسجد الأقصى على قدم
وشوقي رحمه الله يقول:
يا أيها المسرى به شرفاً إلى ما لا تنال الشمس والجوزاء
يتساءلون وأنت أطهر هيكل بالروح أم بالهيكل الإسراء
بهما سموت مطهرين كلاهما روح وروحانية وبهاء
تغشى العيوب من العوالم كلما طويت سماء قلدتك سماء
أنت الذي نظم البرية دينه ماذا يقول وينظم الشعراء
وهمزية شوقي قد مضت معنا من قبل لكننا الآن نعاود الحديث عنها؛ لأننا سنتحدث عن حادثة الإسراء والمعراج، وتناول الشعراء المسلمين لها.
فسنسرد الآن على وجه الإجمال مسألة الإسراء والمعراج، ومضامين ما فيها من قبسات، ومن تضمنته من آيات وعظات، نزدلف إليه إن شاء الله تعالى بعد عرضها كاملة.
كان الإسراء والمعراج قبل الهجرة بثلاث سنين على الأرجح، وأكثر العلماء على أنه في شهر رجب والعلم عند الله، ونبينا صلى الله عليه وسلم جاءه الملك ليشق صدره، ويخرج قلبه، وغسل القلب الطاهر الشريف في طست من ذهب، بماء زمزم، ثم أعاده مكانه، وقدم له البراق ينتهي حافره حيث ينتهي طرفه، وكان معه جبريل، وقد ارتحل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وكل ذلك كان في برهة من الليل.
ثم ربط صلى الله عليه وسلم دابته في المربط الذي يربط فيه الأنبياء دوابهم في حلقة بيت المقدس، ودخل صلى الله عليه وسلم المسجد وصلى بالنبيين إماماً، ثم عرج به إلى السماوات السبع ومعه جبريل، فاستفتح جبريل السماء الدنيا، فسأله خازنها: من أنت؟ قال: أنا جبريل. فسئل: أو معك أحد؟ قال: معي محمد، قال الخازن: أو قد بعث إليه؟ قال جبريل: نعم.
ورأى صلى الله عليه وسلم رجلاً عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة، فإذا نظر جهة اليمين ضحك، وإذا رأى جهة الشمال بكى، فقال: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أبوك آدم؟ وهذه أرواح بنيه، فإذا رأى جهة اليمين رأى أهل الجنة فضحك، وإذا رأى جهة الشمال رأى أهل النار فبكى، فسلم عليه قائلاً: أهلاً بالابن الصالح والنبي الصالح.
ثم أتى السماء الثانية فوجد فيها ابني الخالة: يحيى بن زكريا وعيسى ابن مريم، فرحبا به قائلين: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، قال: ثم أتيت السماء الثالثة فإذا فيها نبي الله يوسف، وقد أعطي شطر الحسن، فرحب به قائلاً: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم أتى السماء الرابعة فوجد فيها أخاه إدريس، فرحب به قائلاً: أهلاً بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم أتى السماء الخامسة فوجد فيها رجلاً تكاد تلامس لحيته سرته، فقال: من هذا يا جبريل؟! قال: هذا المحبب في قوم هارون بن عمران، ثم رحب به قائلاً: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم أتى السماء السادسة فإذا فيها أخاه موسى، فلما جاوزه بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل من أمتي.
ثم أتى السماء السابعة فإذا برجل قد أسند ظهره إلى البيت المعمور، قال صلى الله عليه وسلم: ما رأيت أحداً أشبه بصاحبكم منه ولا منه بصاحبكم، قلت: من هذا يا جبريل؟! قال: هذا أبوك إبراهيم، فسلم ورحب قائلاً: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح.
ثم تجاوز صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى إلى مستوى يسمع فيه صرير الأقلام، وهناك كلمه ربه وناجاه، وقربه وأدناه، وفرضت عليه الصلوات الخمس، وأوتي خواتيم سورة البقرة.
فعاد صلى الله عليه وسلم فسأله موسى فأخبره بما فرض الله عليه، وقال: إني قد بلغت الناس قبلك، وإن أمتك لن تطيق ذلك، فرجع صلى الله عليه وسلم إلى ربه يسأله التخفيف، وما زال صلى الله عليه وسلم يراجع ربه حتى قال: استحييت من ربي -أي: اعتذر من موسى- فنادى منادٍ: قد أمضيت فريضتي وأبقيت أجري، فبقيت خمس صلوات بأجر خمسين صلاة.
ثم عاد صلى الله عليه وسلم إلى مكانه ومرقده، فلما أصبح اتخذ ناحيةً عند البيت فاجتمع عليه كفار قريش، فأول من قدم إليه أبو جهل ، وكان شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم كما هو معروف في السيرة، فقال: يا ابن أخي! هل من أمر؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما رأى وبما كان له البارحة، فقال: يا ابن أخي! أرأيت إن جمعت لك قومك أكنت محدثنا بما أنت محدث به؟ فقال صلى الله عليه وسلم: نعم. فناداهم أبو جهل ؛ يستثمرها فرصة للسخرية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].
فأخذ ينادي بأعلى صوته: يا بني لؤي بن غالب يا بني فهر يا بني كذا! هلموا إلي، فاجتمعوا إليه، قال: اسمعوا من محمد بن عبد الله ماذا يقول، وقص عليهم صلى الله عليه وسلم خبر الإسراء والمعراج، فبين مشبك عشره على رأسه لا يصدق ما يسمع، وما بين فاغر فاه، فلما أكثر عليهم قالوا: صف لنا بيت المقدس، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قد رآه جيداً؛ لأنه دخله ليلاً، فنحى جبريل ما بينه وبين بيت المقدس، فرأى صلى الله عليه وسلم بيت المقدس قريباً منه، وأخذ يصفه لقريش فقال بعضهم لبعض: أما المسجد فكما قال، وهذا قاله من ذهب إلى الشام منهم قبل ذلك.
هذه حادثة الإسراء والمعراج كما هي مدونة، ونحن لم نقل شيئاً جديداً؛ لأن السيرة لا يملك أحد أن يزيد فيها أو ينقص منها، لكن تتفاوت أقدار العلماء وميدانهم الرحب الذي يجرون فيه، هو كيف يستنبطون من حادثة الإسراء والمعراج.
وهنا شوقي يقول:
يا أيها المسرى به شرفاً إلى ما لا تنال الشمس والجوزاء
يتساءلون وأنت أطهر هيكل بالروح أم بالهيكل الإسراء.
أي: ثمة خلاف هل كان الإسراء والمعراج بالروح والجسد أو بالروح فقط، فالحق الذي لا مرية فيه كما قال شوقي :
بهما سموت مطهرين كلاهما روح وريحانية وبهاء
فالنبي صلى الله عليه وسلم أسري وعرج به روحاً وجسداً؛ لأننا لو قلنا: إن الإسراء والمعراج لم يكن إلا روحاً لم يكن في ذلك معجزة، وليس بكثيرٍ على قريش أن تكذبه، ولا يمكن لقريش أن تكذب رجلاً يقول: إنني رأيت البارحة كذا وكذا.
فهذه لو كانت مجرد رؤيا لما أصبح في ذلك معجزة، ولا عظم احتفاء من الله بنبيه صلى الله عليه وسلم، لكن القضية كلها قضية إسراء ومعراج بالروح والجسد، وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم:1-10]، ثم قال الله: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:18] صلوات الله وسلامه عليه.
وقد جاء في بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم التفت فإذا فيه مشيخة الأنبياء: إبراهيم وإسحاق ويعقوب وكبار أنبياء الله ورسله، فقال: إن الله قد أمرني أن أسألكم: هل أمركم الله أن تدعوا إلى عبادة أحدٍ غيره؟ قالوا: لا. قال الله في الزخرف: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:45]، وفي قراءة: (يَعبُدون) والمعنى واحد.
والمقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم روي أنه سأل الأنبياء والرسل هذا السؤال، فانظر إلى عظيم الاحتفاء بدلاً من ذلكم الصدود الذي كان يمثل حزناً في قلبه صلوات الله وسلامه عليه، وكيف انتقل من ارتفاع الطائف إلى السماوات السبع الطباق، ومن صدود أهل الطائف إلى احتفاء الملائكة، ومن صدود قريش إلى دخول المسجد الأقصى، والوصول إلى البيت المعمور.
هذا أعظم ما يمكن أن يستنبط من رحلة الإسراء والمعراج، لكن رحلة الإسراء والمعراج كانت احتفاء عظيماً من الله، فهي زاخرة بالمعاني التي يمكن لأي موفق أن ينهل منها ويستنبط منها ما يعينه في أمر دينه ودنياه.
جاء في التاريخ أن زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه وأرضاه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن الله جل وعلا جعل بدلاً من زيد -على علو شأن زيد في الدين- جعل بدلاً منه جبريل، فكان جبريل صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في رحلته المباركة إلى السماوات السبع العلى.
فلما هو نبي في ذلك الوقت منّ الله عليه بأن كلمه، هذا هو أبونا الذي نسبنا الله إليه: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف:31] إلى غير ذلك من الآيات التي جاء القرآن فيها يخاطبنا بنسبتنا إلى أبينا آدم، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الإسراء:70].
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج أنه رأى ابني الخالة: يحيى بن زكريا وعيسى ابن مريم، فـمريم عليها السلام هي أم عيسى، وكانت لها أخت، هذه الأخت تزوجها زكريا ثم بعد ذلك كفل مريم ، وجاء من زكريا يحيى عليه السلام، ويحيى له خصيصة على الأنبياء جميعاً ليست لغيره، وهي أن الله سماه، وهذه خصيصة له لم يعطاها أحد غيره، قال الله تعالى: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا [مريم:7].
وعيسى ابن مريم مر معنا خبره في لقاء سابق عند حديثنا عن قول الأعشى :
نبي يرى ما لا ترون وذكره أغار لعمري في البلاد وأنجدا
وفي السماء الثالثة وجد صلى الله عليه وسلم أخاه يوسف، قال: فإذا أنا برجل أعطي شطر الحسن، والألف واللام في الحسن إما أن تعود إلى معهود لفظي، أو تكون لاستغراق الحسن، ويبعد أن تكون لاستغراق الجنس، ولم يأت معهود لفظي، ولم يبقى إلا المعهود الذهني، والمعهود الذهني هنا هو أن الله جل وعلا خلق آدم على أكمل صورة؛ لأن الله خلق آدم بيده، فكان المقصود من قوله صلى الله عليه وسلم أن يوسف أعطي شطر الحسن، أي: أن جمال يوسف عليه السلام على الشطر والنصف من جمال أبينا آدم عليهما السلام.
وفي السماء الرابعة لقي صلى الله عليه وسلم أخاه أدريس، وقد أشار الله إلى رفعة إدريس في قوله تبارك وتعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [مريم:56-57].
في السماء الخامسة لقي صلى الله عليه وسلم شقيق موسى هارون بن عمران المحبب في قومه.
وفي السماء السادسة لقي أخاه موسى، وموسى أحد أولي العزم من الرسل، وأولوا العزم من الرسل خمسة: نوح وإبراهيم ومحمد وعيسى وموسى عليهما جميعاً أفضل الصلاة والسلام.
ولما جاوز النبي صلى الله عليه وسلم موسى بكى، فقيل لموسى -والله أعلم بمن قال له-: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخل من أمتي، وهذا المقصود منه الغبطة والتنافس المحمود بين الأنبياء، وإلا محال أن يكون في قلب موسى شيء من الحسد، فموسى عليه الصلاة والسلام نبي مكلم وهو بمنزلة عالية، والله جل وعلا قال في حقه: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف:144]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (رحم الله أخي موسى؛ لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر) يبين علو منزلة موسى.
وفي السماء السابعة لقي النبي صلى الله عليه وسلم أباه إبراهيم، فلما أن لقيه تعجب من شدة الشبه بينهما، قال: ما رأيت أحداً أشبه بصاحبكم منه ولا منه بصاحبكم، قلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أبوك إبراهيم، ونلحظ أن آدم وإبراهيم فقط هم اللذان قالا: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح، أما بقية الأنبياء فكلهم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، ففهم العلماء من هذا أن أدريس ويحيى وعيسى ويوسف وهارون وموسى هؤلاء الذين لقيهم النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج ليس أحدٍ منهم في عمود نسبه النبي صلى الله عليه وسلم باستثناء إبراهيم وآدم.
فإبراهيم قطعاً في عمود نسبه النبي صلى الله عليه وسلم، وآدم أبو البشرية جميعاً، هذه فائدة.
فموسى عليه الصلاة والسلام ابتلى الناس وخبرهم، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له إلا عشر سنوات فقط في الدعوة، فلما فرض الله عليه خمسين صلاة قال له موسى -متكئاً ومعتمداً على علمٍ تجريبي عنده-: إن أمتك لن يطيقوا هذا، فأخذ صلى الله عليه وسلم يراجع ربه، ثم ازدحم عند النبي صلى الله عليه وسلم أمران هما: أدبه مع ربه، وشفقته على أمته، فأدبه مع ربه يمنعه أن يراجع ربه مرة أخرى استحياء، وشفقته على أمته بوده لو أنها كانت خمس صلوات ولا تكن خمسين، فقرر أن يبقي على الأدب فيعتذر من أمته، فقال لموسى: إنني استحييت من ربي، فلما قدم عليه الصلاة والسلام حق ربه أكرمه الله جل وعلا وأعطاه ما لم يطلبه، فنادى منادٍ: أن أمضيت أمري فجعلها الله جل وعلا خمس صلوات بأجر خمسين صلاة.
وهكذا الإنسان يتأدب مع ربه تبارك وتعالى، ويعظم حق ربه جل وعلا، ولا يقدم على حق الله تبارك وتعالى حق أحد، وكلما كان الإنسان عظيم الصلة بربه، مقدماً حق الله جل وعلا على كل مطالبه نال أرفع الدرجات وعالي المنازل، وكما قلت في دروس ولقاءات عديدة إن هذا ميدان يتسابق فيه الصالحون والمقربون، ومن يريد المنازل العالية من أهل الإيمان.
وفي رحلة الإسراء والمعراج وجد الارتباط التاريخي ما بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم مات والمسجد الأقصى لم يدخل في ديار المسلمين، والله يقول: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1]، ونحن لا نقول أقصى إلا إذا كان بيننا وبينه مسجد آخر، وهما طرفان: المسجد الحرام والمسجد الأقصى، فلا بد أن يكون هناك وسط حتى يعرف أن هذا أقصى، فلو كانا اثنين لا يتحرر معنى كلمة أقصى إلا بوجود وسط، فهذا فيه إشارة إلى أن هناك مسجداً سيبنى ما بين مكة والمسجد الأقصى؛ لأن حادثة الإسراء والمعراج قبل الهجرة، ولم يكن بناء المسجد النبوي إلا بعد الهجرة، فلما بني المسجد النبوي اتضح لنا لماذا سمي بيت المقدس بالمسجد الأقصى، فأصبح المركزي -الوسط- المسجد الحرام، وبعده في جهة الشام شمالاً المسجد النبوي؛ لأن قبلة أهل المدينة جنوب، ثم بعد ذلك المسجد الأقصى.
ومن باب التغليب أن العرب تقول للشمس والقمر: القمران، ويقصدون الشمس والقمر، لكن غلبوا القمر على الشمس بالذكورية؛ لأن لفظ القمر مذكر، كما يقال الحسنان عن الحسن والحسين ، فنغلب الحسن ؛ لأنه أكبر من الحسين ، ويقال: العمران لـأبي بكر وعمر ؛ لأن أبا بكر اسم مركب تركيب إضافي، وأما عمر فهو اسم مفرد، والمفرد يقدم على الاسم المركب.
وهكذا يقال عن مكة ومدينة: المكتان؛ على أن مكة أفضل عند جمهور العلماء خلافاً لـمالك ومن يرى رأيه أن المدينة أفضل.
فالذي يعنينا أنه يمكن أن يقال عن المسجد الأقصى حرم من باب التغليب، والنبي صلى الله عليه وسلم قبل هجرته وكذلك مكث بعد الهجرة ستة عشر شهراً وهو يصلي جهة بيت المقدس، حتى أنزل الله جل وعلا قوله: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144].
نعود إلى همزية شوقي التي هي المنطلق في الحديث، قال شوقي :
تغشى الغيوب من العوالم كلما طويت سماء قلدتك سماء
وهذا منزلة عالية في الفصاحة والبلاعة.
قوله: قلدتك سماء، أي: أنه صلى الله عليه وسلم هو الزينة للسماء، وهو الفخار لها، فكان بمروره عليها تزدان السماء به، وهذا من التوفيق، وقد سبق الشعراء شوقي إلى هذا المعنى، لكن شوقي في صياغته كان أسبق من الشعراء في علو منزلته ...
ومن تلك الغيوب أنه رأى صلى الله عليه وسلم كثيراً من الأمور التي لم يكن ليعلمها، لكن الله جل وعلا منّ عليه بذلك تثبيتاً له.
نعلم أن من الأجوبة: أنه احتفاء به، لكن الجواب الأهم أن تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يبلغ عن الله رسالاته، وناصح له في ذرياته، وهو آخر الأنبياء، فلا بد أن يكون هذا النبي الذي سيبلغ على يقين بما يقول، فرحلة الإسراء والمعراج أطلعت نبينا صلى الله عليه وسلم عما يخبر عنه، فكان عليه الصلاة والسلام عندما يتحدث عن الجنة يتحدث عنها وقد رآها عياناً، وعندما يحذر من النار يتحدث عنها وقد رآها عياناً، وبهذا يعظم حديثه وأثره في الناس؛ لأنه خارج من قلب شاهد ورأى، ولهذا قال الله في النجم: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11]، فأسند الرؤية إلى فؤاده صلوات الله وسلامه عليه، وهذه خصيصة، وكأن الله أشار في القرآن أنه قد أعطاها إبراهيم، قال الله جل وعلا: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام:75].
أحيانا الله وإياكم على سنة محمد وإبراهيم، ورزقنا الله وإياكم التوفيق، هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده حول همزية شوقي :
يا أيها المسرى به شرفاً إلى ما لا تنال الشمس والجوزاء
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر