أما بعد:
عباد الله! فإن تقوى الله جل وعلا أولى الوصايا، وأجل العطايا: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]، ثم اعلموا عباد الله! أن لله جل وعلا عباداً اختصهم تبارك وتعالى بعظيم العطايا، وجليل الصفات، من العلوم النافعة، والأعمال الصالحة، والقلوب الخاشعة، وهؤلاء الكبار ذكر الله جل وعلا بعضاً منهم في سورة جليلة من كتابه العظيم سميت بإحدى تلك الأسر المباركة، قال الله جل وعلا في سورة آل عمران: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران:33]، هذه بيوتات رفيعة منّ الله جل وعلا على أهلها ذكوراً ونساء بمعرفتهم بربهم، مع صلاح القول والعمل، والتأهب ليوم المعاد، فآل عمران -أيها المباركون- أهل بيت طيب أثنى الله جل وعلا عليهم في كتابه، وسميت سورة عظيمة من سور القرآن باسمهم، في أخبارهم عظات، وفي أنبائهم جلائل ما يمكن أن ينتفع به المرء في أمر دينه ودنياه، قال الله جل وعلا ولا أحد أصدق من الله: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [آل عمران:33-34]، فقد ذكر الله فيها أن زوجة عمران قبل أن يتوفى زوجها حنت إلى الولد، فلما أعطاها الله جل وعلا سؤلها، وحقق مرادها، حملت ونذرت أن يكون ذلك الحمل خادماً للرب في مسجده، ملازماً لطاعته؛ ظناً منها أن الحمل ذكر، ثم قدر لعمران زوجها أن يتوفى، فأخذت تلك المرأة تشتد في تضرعها إلى ربها بأن يكون المولود له، قالت: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا [آل عمران:35]، والناس يحبون الأولاد ذكوراً وإناثاً للأنس بهم، والاستنصاف، والعون على ما كتب الله جل وعلا من نوائب الدهر، لكن تلك المباركة لما اطمأنت إلى وجود الحمل أرادت أن يكون حملها خالصاً لربها تبارك وتعالى، بمعنى: أنها لا تريد من ابنها حضها من الولد؛ بأن يخدمها ويقوم بأمرها ويبرها، بل تريده أن يكون كاملاً لربه جل وعلا يخدم البيت المقدس ويصلي لربه، قالت: إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا [آل عمران:35]، ثم قدر لها أن تضع فإذا هي ترزق بأنثى، فتقول في انكسار بين يدي ربها: قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى [آل عمران:36]، ولا ريب أن الله جل جلاله يعلم ما الذي وضعته هذه المرأة المباركة، قال الله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ [آل عمران:36]، ثم قال ربنا وهو الخالق للذكر والأنثى: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران:36]، ولا ريب أن الله جمل الرجل بخصائص وجمل النساء بخصائص، فما كان للرجال أن يطلبوا ما لم يخلقهم الله له، ولا يكون للنساء أن يطلبن ما لم يخلقهن الله له، ولهذا صح في الحديث: (أن نبينا صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهين من الرجال بالنساء، ولعن المتشبهات من النساء بالرجال)، وأخبر الله جل وعلا أنه لا يجوز لأحدهما أن يتفضل على الآخر بما ليس له، ولا يتمناه أصلاً فقال: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:32].
قال تعالى: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43]، ثم أراد الله جل وعلا أن يبين لنبينا صلى الله عليه وسلم أنه عليه الصلاة والسلام على علو منزلته ورفيع درجته وأنه قطعاً أفضل الخلق، إلا أنه لا يعلم من العلم إلا ما علمه الله، قال تعالى: ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران:44]، فالله وحده الذي يعلم ما قد كان وما سيكون وما هو كائن، ويعلم جل وعلا ما لم يكن لو كان كيف يكون.
بلغني الله وإياكم من العلم أنفعه، وجعلني الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
ثم مضت الآيات البينات تخبر عن هذه البيوت العظام، قال الله جل وعلا: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:44-46].
لم يختلف أهل الأرض على أحد كما اختلفوا في عيسى ابن مريم عليه السلام، فقد زعمت اليهود أنها صلبته وقتلته، وزعمت النصارى أنه صلب وأنه ابن الله تعالى الله عما يقولون، وذهبت هذه الأمة وهو الحق على أنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، بشرت الملائكة مريم ابنة عمران بعيسى، فقالت تلك المرأة متعجبة بعد أن أخبر الله أن هذا العبد سيرزق التكليم: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ [آل عمران:46]، وهذه كرامة لأمه؛ لأن بكلامه دفع الريبة عن أمه، وتكليمه الناس في حال طفولته نفع للعباد؛ لأنه سيدعوهم إلى عبادة الله وتوحيده، ويبين لهم الدين بأكمله، فقالت تلك المرأة تخاطب ربها في أدب جم على قدر ما أعطيت من علم: قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:47].
أيها المؤمنون! الأمور ثلاثة:
أولها: ما لا يكون بالله، ولا يمكن أن يكون ما لا يكون بالله أبداً، فشيء لم يقدره الله لا يمكن أن يقع.
والأمر الثاني: ما يكون لغير الله، فهذا لا يثبت ولا يبقى ولا يدوم، قال الحي القيوم: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23].
والأمر الثالث رزقني الله وإياكم إياه: أمر يكون بالله ولله، فهذا الذي يثبت ويدوم، فإن ذهبت في الدنيا عينه، بقيت في الآخرة آثاره، قال الله جل وعلا: وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ [آل عمران:115].
ولا ريب أنه ينبغي لمن ازداد علماً بالله أن يزداد علماً بالشرع نفسه، فيعبد الله على بينة من الأمر، ويعلم أن الله لا أحد أعظم منه، لا تطيب الدنيا إلا بذكره، ولا تطيب الآخرة إلا بعفوه، ولا تطيب الجنة إلا برؤيته، قال جل ذكره، وتبارك اسمه، يمدح ذاته العلية: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ * وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الروم:25-27].
اللهم إنا نسألك قلوباً تعرفك وتحبك، اللهم إنا نسألك قلوباً تعرفك وتعبدك وتحبك على الوجه الذي شرعت. ألا وصلوا وسلموا على خير من أحبه الله وخير من أحب الله، قال الله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم وارض عن أصحاب نبيك أجمعين، أخص اللهم منهم الأربعة الراشدين، الأئمة المهديين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، اللهم وارحمنا معهم بمنك وكرمك يا ذا الجلال والإكرام! اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين، اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين، اللهم وفق ولي أمرنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، اللهم وارزق بلادنا الأمن والإيمان يا ذا الجلال والإكرام! وزدها اللهم بركة وخيراً ورخاء يا ذا الجلال والإكرام! اللهم وانشر خيراتك على بلاد المسلمين كلها يا حي يا قيوم! وارفع الضر واللأواء عن إخواننا في فلسطين والعراق وأفغانستان والصومال يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، اللهم إن لنا في أجواف المقابر آباء وأمهات، وإخواناً وأخوات، وجيران وجارات، اللهم آنس في تلك البقاع وحشتهم، وارحم اللهم تحت الثرى غربتهم، وارحمنا اللهم إذا صرنا إلى ما صاروا إليه.
عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر