إسلام ويب

سلسلة لطائف المعارف [القمران]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الشمس والقمر آيتان من آيات الله، أجرى الله عليهما منافع عظيمة منها معرفة مواسم الزراعة، ومعرفة المواقيت. ومن ذلك أن الله جل وعلا جعل كسوف الشمس وخسوف القمر آيتين يخوف بهما عباده، حتى يفزعوا إليه ويعود إليه بالذكر والصلاة والاستغفار.

    1.   

    تعلق الشمس بالحياة المعيشية وتعلق القمر بالجوانب العبادية

    الحمد لله الذي أحكم كل شيء خلقه وأحسن كل شيء صنعه، وأشهد أن لا إله إ لا الله، لا رب غيره ولا شريك معه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن عنوان هذا اللقاء: القمران.

    ندرك أن الصناعة العربية يكثر فيها ما يسمى بالتغليب، والتغليب أن يؤتى إلى اثنين، فيعمد إلى تسميتهما بأحدهما، لاشتراك كثير بينهما، ثم إن التغليب له طرائقه، يعني: يختلف من حال إلى حال لأسباب، فمثلاً:

    يقال للسبطين الكريمين الحسن والحسين يقال لهما: الحسنان؛ لأن الحسن أكبر من الحسين ، ويقال لمكة والمدينة المكتان؛ لأن مكة عند جمهور العلماء أفضل من المدينة، ويقال للشمس والقمر القمران؛ لأن القمر مذكر والشمس مؤنث، قال المتنبي :

    وما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال

    ولو كل النساء كمن فقدنا لفضلت النساء على الرجال.

    الذي يعنينا أنهم قالوا: القمران؛ لأنهم القمر مذكر والشمس مؤنث، وقد يقال غير ذلك، يقال: العمران في حق أبي بكر وعمر ، ونسب إلى عمر؛ لأن لفظ أبي بكر مركب تركيب إضافي، واسم عمر مفرد.

    وسنتحدث عن القمرين، الشمس والقمر.

    فنقول والله الموفق: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، مخلوقتان لله تبارك وتعالى، خلقهما الله جل وعلا، جعل أحدهما آية مبصرة، وهي الشمس، وجعل الآخر منهما آية ممحوة وهي القمر، وقال جل وعلا يخبر عن عظيم صنعته وجليل قدرته: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:38-40].

    الشمس جعلها الله جل وعلا آية للحياة المعيشية، والغرس والحصاد مبني على البروج الشمسية، وثمة أنوا من الحبوب والثمار لها مواسم معينة تزرع فيها، ولها مواسم معينة تحصد فيها.

    أنا لست أنسى قريتي السمراء في عود الحصاد

    والسنبل المتجمد الشرقي يحلم بالرقاد

    وخطى الكماة الكادحين تروح تضرب في ارتياد

    هي ذكريات لم تزل محفورة في خاطري

    هي ذكريات لم تزل تسقي خريف الشاعر

    يا واحة العمر الجديد على الطريق الساحر

    أنا عائد يوماً إليك مع الربيع الزاخر

    في نسمة الشمس الوضيـ ـئة ثم النسيم العابر

    في لهفة خفقت بها روح المحب الذاكر

    الغاية: أن هناك مواسم غرس، ومواسم حصاد مبنية على بروج الشمس، أما القمر فقد جعله الله جل وعلا ميقاتاً لحياتنا الدينية، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189]، (صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته)، فالقمر جعله الله جل وعلا عنواناً وميقاتاً لحياتنا المتعلقة بالعبادة.

    هذا من الفوارق بين الشمس والقمر.

    1.   

    الشمس تحبس لنبي من أنبياء الله

    الشمس حبسها الله جل وعلا لنبي يقال له: يوشع بن نون، ويوشع بن نون هو فتى موسى الذي ورد ذكره في قول الله جل وعلا: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ [الكهف:60]، وقد حكم بني إسرائيل قبله.

    ومن المعلوم أن الله جل وعلا أمر بني إسرائيل بالدخول على الجبارين فامتنعوا، فحكم الله جل وعلا عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض، وفي خلال الأربعين سنة هذه مات هارون أولاً ثم مات موسى، ثم حكم وساس بني إسرائيل بعد موسى وهارون يوشع بن نون عليه السلام، فحارب الجبارين، وكانت اليهود تعظم يوم السبت وتجعله إجازة أي: لا يقاتلون يوم السبت، فلما كان مساء الجمعة، وكادت الشمس أن تغيب، فإذا غابت وهو لم تفتح له البلدة اضطر إلى أن يقاتل يوم السبت، ولا قتال عندهم يوم السبت، فقال يخاطب الشمس: إنك مأمورة وإنني مأمور، أي: أنت مأمورة بأن تغيبي، وأنا مأمور أن أفتح هذه البلدة وأقود هذه الجيوش، اللهم احبسها عني، فحبس الله عنه الشمس، وأخر غروبها تكرمة له، هذا مما أتاه الله جل وعلا بعض أنبيائه، ولهذا قال شوقي :

    قفي يا أخت يوشع خبرينا أحاديث القرون الغابرينا

    فأخت يوشع في مصطلح شوقي مبني على خلفية ثقافية تاريخية هي الشمس، حبسها الله جل وعلا ليوشع بن نون، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أبا ذر ! أتدري أين تذهب الشمس؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تأتي فتسجد تحت العرش، ثم تستأذن ربها فيأذن لها، حتى يأتي يوم لا يأذن الله لها، فيقول: ارجعي من حيث غبت)، فتخرج على الناس من المغرب، وهذا معنى قول الله: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ [الأنعام:158].

    1.   

    القمر مضرب للجمال

    القمر لا يتعلق به شيء من هذا، لكن القمر عند جماهير الناس، أو عند عموم أهل الأرض مضرب للجمال، فإذا أرادوا أن يشبهوا أحداً أو يذكروا جمال أحد من الناس وصفوه بالقمر ليلة البدر، وهذا حتى في السنة، فإن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه قال: خرجت في ليلة أضحيان -أي: ليلة القمر فيها مكتمل- فرأيت القمر ورأيت النبي صلى الله عليه وسلم عليه حلة حمراء، فجعلت أنظر إلى البدر وأنظر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلهو عندي أجمل من القمر، كما أن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه وأرضاه قيل له: أكان وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟ قال: لا، بل مثل القمر.

    يقول عمرو بن أبي ربيعة وهو شاعر حاد كثيراً عن الصواب في شعره:

    قالت الكبرى أتعرفن الفتى قالت الوسطى: نعم هذا عمر

    قالت الصغرى وقد تيمتها قد عرفناه وهل يخفى القمر

    فعجز البيت الثاني شهير بين الناس، ويجري مجرى الأمثال، والشاهد أن الناس يضربون المثل بالقمر في قضية الجمال.

    1.   

    كسوف الشمس وخسوف القمر آية من آيات الله

    إن الله تبارك وتعالى جرت سنته أنه يظهر النقص في خلقه حتى يستبين للناس الكمال في وجهه جل وعلا، فالشمس تكسف، والقمر يخسف، ولهذا ذكر الله في سورة القيامة أن القمر يخسف، وذكر في سورة التكوير: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير:1].

    وهذا كله حتى يعلم الناس أن الوجه الذي لا يحول ولا يزول ولا يتغير هو وجه ربنا الأكرم جل جلاله، بل إن نبينا صلى الله عليه وسلم، هو أكرم المخلوقين قاطبة شج وجهه وكسرت رباعيته، فنحن نرى في كل هذا كمال صفات ربنا جل وعلا، وصدق الله القائل: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27].

    وقال جل ذكره: وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88].

    1.   

    الشمس والقمر في خبر إبراهيم الخليل

    ورد ذكر الشمس والقمر في خبر خليل الله إبراهيم يوم ناظر قومه، قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ [الأنعام:75-76]، وإبراهيم يعلم أن هذا سيأفل لا محالة، قال: قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام:76].. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي [الأنعام:76]، هو يوهم عبدة الكواكب أنه يريد الخير، وهو فعلاً يريد الخير، لكن يتنزل لهم رغبتة في دعوتهم، فلما أفل أظهر التضرع، وقال: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً [الأنعام:77-78]، ونحن نعلم أن إبراهيم رأى الشمس مراراً قبل ذلك اليوم، لكنه تعامل معها على قدر عقول من يخاطبهم، كأنه يراها لأول مرة، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:78-79].

    1.   

    كسوف الشمس في عهد محمد رسول الله

    الشمس كسفت في عهد نبينا صلى الله عليه وسلم، ووافق يوم كسوفها وفاة إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم، وإبراهيم ولد للنبي صلى الله عليه وسلم من جارية يقال لها: مارية، مكث مسترضعاً في عوالي المدينة ثمانية عشر شهراً، فما أتم ثمانية عشر شهراً توفاه الله، فلما توفاه الله بكى النبي صلى الله عليه وسلم وقال -الحديث الشهير-: (وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون)، لكنه قال صلى الله عليه وسلم: (ولا نقول إلا ما يرضي ربنا).

    فلما كسفت الشمس في ذلك اليوم قال بعض الناس: (إنما كسفت الشمس لموت إبراهيم)، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم على الناس يعلمهم مسألة عقدية، وهي أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، يخوف الله بهما عباده، لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم مثل ذلك فافزعوا إلى الصلاة، ثم فزع صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة يجر رداءه، وصلى بالناس صلاة بركوعين، وسجود كالمعتاد، لكن زاد في الركوع ركوع آخر، ثم خطب في الناس يعضهم ويذكرهم بالآخرة، ويقول لهم: إنه ما من شيء توعدون به إلا وقد رأيته في مقامي هذا، وحديثه ليس هذا موضع بسط القول فيه، لكن الغاية منه أن تعلم أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، تجريان بقدر الله تبارك وتعالى، كما قال الله: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا [يس:38]، وكما قال الله: وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ [يس:39]، ومع ذلك عبدا من دون الله، ولهذا قال الله: لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فصلت:37]، ومن المعلوم أن الهدهد أنكر على قوم بلقيس أنهم يعبدون الشمس، ودعته فطرته إلى أن يستنكر ذلك منهم، وأن يخاطبهم بقوله: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النمل:25].

    1.   

    الشمس والقمر آية مبصرة وآية ممحوة

    الشمس والقمر ذكرهما الله جل وعلا بأنهما آية مبصرة، وآية من ممحوة، قال الله تعالى: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا [الإسراء:12]؛ ولهذا ترد في القرآن كلمة ليلة كثيرا؛ لأن الأنبياء خاصة في قصص الأنبياء؛ لأن هذا تعلق بشرائع الناس، ويتعلق بمعادهم لا بمعاشهم، والأنبياء إنما يعنون أعظم عناية بما يكون من أمور الدين؛ ولهذا قال الله جل وعلا: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الأعراف:142]، ولم يقول جل وعلا: واعدنا موسى ثلاثين يوماً.

    والمشهور أن الله جل وعلا واعد موسى ثلاثين ليلة، وهي ليالي شهر ذي القعدة، وأتمها الله بعشر، وهي ليالي شهر ذي الحجة، وبهذا يكون الله جل وعلا قد كلم موسى في يوم النحر، ومعلوم أن لموسى ميقاتين: ميقات زماني، وهو عاشر ذي الحجة على الأظهر، وميقات مكاني على قول واحد، وهو جبل الطور الذي كلم الله جل وعلا عنده موسى.

    الذي يعنينا -كما بينت- أن القمر آية جعلها الله جل وعلا لأمور حياتنا الدينية، كما جعل الشمس آية لحياتنا المعيشية التي فيها أرزاقنا وفيها معاشنا.

    فتحرر من هذا كله أن الشمس والقمر ذكرا في الشعر العربي، لكن الشمس كانت أقل حضاً من القمر؛ لأن القمر يتعلق بالجمال، أما قول المتنبي اللي ذكرناه في الأول:

    وما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال

    ولو كل النساء كمن فقدنا لفضلت النساء على الرجال.

    فقد قاله مجاملة في رثاء إحدى قريبات سيف الدولة الحمداني، ونحن نعرف أن المتنبي كان له باع طويل في مدح سيف الدولة الحمداني ، هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده حول آيتين عظيمتين من آيات الله: هما الشمس والقمر.

    وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768251790