أما بعد:
فإن عنوان هذا اللقاء: القمران.
ندرك أن الصناعة العربية يكثر فيها ما يسمى بالتغليب، والتغليب أن يؤتى إلى اثنين، فيعمد إلى تسميتهما بأحدهما، لاشتراك كثير بينهما، ثم إن التغليب له طرائقه، يعني: يختلف من حال إلى حال لأسباب، فمثلاً:
يقال للسبطين الكريمين الحسن والحسين يقال لهما: الحسنان؛ لأن الحسن أكبر من الحسين ، ويقال لمكة والمدينة المكتان؛ لأن مكة عند جمهور العلماء أفضل من المدينة، ويقال للشمس والقمر القمران؛ لأن القمر مذكر والشمس مؤنث، قال المتنبي :
وما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال
ولو كل النساء كمن فقدنا لفضلت النساء على الرجال.
الذي يعنينا أنهم قالوا: القمران؛ لأنهم القمر مذكر والشمس مؤنث، وقد يقال غير ذلك، يقال: العمران في حق أبي بكر وعمر ، ونسب إلى عمر؛ لأن لفظ أبي بكر مركب تركيب إضافي، واسم عمر مفرد.
وسنتحدث عن القمرين، الشمس والقمر.
فنقول والله الموفق: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، مخلوقتان لله تبارك وتعالى، خلقهما الله جل وعلا، جعل أحدهما آية مبصرة، وهي الشمس، وجعل الآخر منهما آية ممحوة وهي القمر، وقال جل وعلا يخبر عن عظيم صنعته وجليل قدرته: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:38-40].
الشمس جعلها الله جل وعلا آية للحياة المعيشية، والغرس والحصاد مبني على البروج الشمسية، وثمة أنوا من الحبوب والثمار لها مواسم معينة تزرع فيها، ولها مواسم معينة تحصد فيها.
أنا لست أنسى قريتي السمراء في عود الحصاد
والسنبل المتجمد الشرقي يحلم بالرقاد
وخطى الكماة الكادحين تروح تضرب في ارتياد
هي ذكريات لم تزل محفورة في خاطري
هي ذكريات لم تزل تسقي خريف الشاعر
يا واحة العمر الجديد على الطريق الساحر
أنا عائد يوماً إليك مع الربيع الزاخر
في نسمة الشمس الوضيـ ـئة ثم النسيم العابر
في لهفة خفقت بها روح المحب الذاكر
الغاية: أن هناك مواسم غرس، ومواسم حصاد مبنية على بروج الشمس، أما القمر فقد جعله الله جل وعلا ميقاتاً لحياتنا الدينية، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189]، (صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته)، فالقمر جعله الله جل وعلا عنواناً وميقاتاً لحياتنا المتعلقة بالعبادة.
هذا من الفوارق بين الشمس والقمر.
ومن المعلوم أن الله جل وعلا أمر بني إسرائيل بالدخول على الجبارين فامتنعوا، فحكم الله جل وعلا عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض، وفي خلال الأربعين سنة هذه مات هارون أولاً ثم مات موسى، ثم حكم وساس بني إسرائيل بعد موسى وهارون يوشع بن نون عليه السلام، فحارب الجبارين، وكانت اليهود تعظم يوم السبت وتجعله إجازة أي: لا يقاتلون يوم السبت، فلما كان مساء الجمعة، وكادت الشمس أن تغيب، فإذا غابت وهو لم تفتح له البلدة اضطر إلى أن يقاتل يوم السبت، ولا قتال عندهم يوم السبت، فقال يخاطب الشمس: إنك مأمورة وإنني مأمور، أي: أنت مأمورة بأن تغيبي، وأنا مأمور أن أفتح هذه البلدة وأقود هذه الجيوش، اللهم احبسها عني، فحبس الله عنه الشمس، وأخر غروبها تكرمة له، هذا مما أتاه الله جل وعلا بعض أنبيائه، ولهذا قال شوقي :
قفي يا أخت يوشع خبرينا أحاديث القرون الغابرينا
فأخت يوشع في مصطلح شوقي مبني على خلفية ثقافية تاريخية هي الشمس، حبسها الله جل وعلا ليوشع بن نون، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا
يقول عمرو بن أبي ربيعة وهو شاعر حاد كثيراً عن الصواب في شعره:
قالت الكبرى أتعرفن الفتى قالت الوسطى: نعم هذا عمر
قالت الصغرى وقد تيمتها قد عرفناه وهل يخفى القمر
فعجز البيت الثاني شهير بين الناس، ويجري مجرى الأمثال، والشاهد أن الناس يضربون المثل بالقمر في قضية الجمال.
وهذا كله حتى يعلم الناس أن الوجه الذي لا يحول ولا يزول ولا يتغير هو وجه ربنا الأكرم جل جلاله، بل إن نبينا صلى الله عليه وسلم، هو أكرم المخلوقين قاطبة شج وجهه وكسرت رباعيته، فنحن نرى في كل هذا كمال صفات ربنا جل وعلا، وصدق الله القائل: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27].
وقال جل ذكره: وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88].
فلما كسفت الشمس في ذلك اليوم قال بعض الناس: (إنما كسفت الشمس لموت إبراهيم)، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم على الناس يعلمهم مسألة عقدية، وهي أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، يخوف الله بهما عباده، لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم مثل ذلك فافزعوا إلى الصلاة، ثم فزع صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة يجر رداءه، وصلى بالناس صلاة بركوعين، وسجود كالمعتاد، لكن زاد في الركوع ركوع آخر، ثم خطب في الناس يعضهم ويذكرهم بالآخرة، ويقول لهم: إنه ما من شيء توعدون به إلا وقد رأيته في مقامي هذا، وحديثه ليس هذا موضع بسط القول فيه، لكن الغاية منه أن تعلم أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، تجريان بقدر الله تبارك وتعالى، كما قال الله: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا [يس:38]، وكما قال الله: وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ [يس:39]، ومع ذلك عبدا من دون الله، ولهذا قال الله: لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فصلت:37]، ومن المعلوم أن الهدهد أنكر على قوم بلقيس أنهم يعبدون الشمس، ودعته فطرته إلى أن يستنكر ذلك منهم، وأن يخاطبهم بقوله: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النمل:25].
والمشهور أن الله جل وعلا واعد موسى ثلاثين ليلة، وهي ليالي شهر ذي القعدة، وأتمها الله بعشر، وهي ليالي شهر ذي الحجة، وبهذا يكون الله جل وعلا قد كلم موسى في يوم النحر، ومعلوم أن لموسى ميقاتين: ميقات زماني، وهو عاشر ذي الحجة على الأظهر، وميقات مكاني على قول واحد، وهو جبل الطور الذي كلم الله جل وعلا عنده موسى.
الذي يعنينا -كما بينت- أن القمر آية جعلها الله جل وعلا لأمور حياتنا الدينية، كما جعل الشمس آية لحياتنا المعيشية التي فيها أرزاقنا وفيها معاشنا.
فتحرر من هذا كله أن الشمس والقمر ذكرا في الشعر العربي، لكن الشمس كانت أقل حضاً من القمر؛ لأن القمر يتعلق بالجمال، أما قول المتنبي اللي ذكرناه في الأول:
وما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال
ولو كل النساء كمن فقدنا لفضلت النساء على الرجال.
فقد قاله مجاملة في رثاء إحدى قريبات سيف الدولة الحمداني، ونحن نعرف أن المتنبي كان له باع طويل في مدح سيف الدولة الحمداني ، هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده حول آيتين عظيمتين من آيات الله: هما الشمس والقمر.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر