أما بعد:
فإن عنوان هذا اللقاء هو: المسجد النبوي، وهو ضمن سلسلة لطائف المعارف.
المسجد النبوي أحد المساجد الثلاثة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الرحال لا تشد إلا إليها، المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى، وقد رفع الله شأن هذه المساجد فقال جل شأنه: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:36-37].
المسجد النبوي هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن ندرك أن الله جل وعلا اختار البلدة المباركة طيبة ليهاجر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث دخلها النبي صلى الله عليه وسلم ضحى الإثنين، فأسس في جنوبها مسجد قباء، ثم مكث فيها الثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، ثم أتى داخل البلدة حتى بركت ناقته القصواء في موضع المنبر اليوم، ثم لم ينزل صلى الله عليه وسلم فقامت الناقة فجال جولة صلى الله عليه وسلم، ثم عادت الناقة بعد أن جالت جولة إلى مدركها الأول، ثم نزل صلى الله عليه وسلم بعد أن أخذ أبو أيوب الأنصاري متاعه وقال عليه الصلاة والسلام: (المرء مع رحله)، في تلك البقعة أسس صلى الله عليه وسلم وبنى مسجده والصحابة معه، وهم يرتجزون:
لئن قعدنا والنبي يعمل إن هذا لهو العمل المضلل
وهو صلى الله عليه وسلم يجيبهم:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة
وسأتكلم عن واقع المسجد النبوي الآن، حتى إذا كتب لك أن تزور هذا المسجد تكون -على الأقل- على علم بكثير مما فيه.
المسجد اليوم فيه ثلاثة محاريب، المحراب الذي يصلي فيه الأئمة الآن، وهو محراب بناه عثمان بن عفان رضي الله عنه، وتحرر من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر لم يصلوا في هذا المحراب؛ لأن المحراب من جهة الجنوب في التوسعة التي وسعها عثمان بن عفان الخليفة الراشد رضي الله عنه وأرضاه، وأقره الصحابة وصلوا وراءه في ذلك الزمان، هذا المحراب الأول.
المحراب الثاني: يوجد في الروضة الشريفة، وهو موضع صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في ذلك المكان كان صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس إماماً، وهذا الموطن في الروضة الشريفة إذا استقبلته استقبلت القبلة، وتكون حجرة عائشة التي فيها القبور الثلاثة على شمالك، ويكون منبره صلى الله عليه وسلم عن يمينك.
وحجرة عائشة فيها القبور الثلاثة، قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر أبي بكر وقبر عمر .
المحراب الثالث: المحراب الذي خارج الروضة عن يمينك وأنت مستقبل القبلة، أي غرب المسجد، وهذا المحراب لا يتعلق به شيء قديم أثري، إنما هو محراب بناه أحد سلاطين آل عثمان، وهو الآن خارج الروضة شرق المسجد النبوي.
والمكان المفروش الآن باللون الأخضر هو ما يسمى بالروضة الشريفة، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)، هذه الروضة اختلف في سبب تسميتها روضة، والأظهر من أقوال أهل العلم أنها قطعة من الجنة.
هذا الذي يحمل عليه الحديث؛ لأننا إذا حملنا معنى روضة على أنها التي يقام فيها دروس العلم عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: يا رسول الله! وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر)، فهذا لا يقتصر على ذلك المكان الطاهر، وإنما يكون في كل مكان يذكر فيه الله جل وعلا وتقام فيه حلق الذكر، وعلى هذا نقول: إن الأظهر أنها روضة من رياض الجنة أي: قطعة من الجنة.
بطيبة رسم للرسول ومعهد منير وقد تعفو الرسوم وتهمد
بها حجرات كان ينزل وسطها من الله نور يستضاء ويوقد
معارف لم تطمس على العهد آيها آتاها البلى فالآي منها تجدد
وصلى بهم صلى الله عليه وسلم سنين عمره التي قضاها في المدينة إماماً في ذلك الموضع الشريف، ثم صلى أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي بين أظهرهم أيام مرضه عليه الصلاة والسلام، وكانت آخر صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم حي هي صلاة الفجر.
ثم إن عمر رضي الله تعالى عنه تولى الخلافة بعد وفاة أبي بكر ، فصلى بالناس في نفس البقعة المحمدية التي كان يصلي فيها نبينا صلى الله عليه وسلم إماماً، وفيها طعن، وكان يقرأ رضي الله عنه وأرضاه بسورة يوسف، جاء أبو لؤلؤة المجوسي ، وطعنه، فقيل له: يا أمير المؤمنين! ألا نحملك إلى دارك، فقال: لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، وبقي يصلي وجرحه ينزف دماً حتى انتهت الصلاة، حيث أكمل بهم الصلاة عبد الرحمن بن عوف ركعتين خفيفتين، ثم حمل رضي الله تعالى عنه وأرضاه إلى بيته.
موضع الشاهد: أن هذه أحداث عظام كانت في ذلك المسجد المبارك، مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا العهد الميمون دولة آل سعود أدام الله توفيقهم عني بالمسجد عناية عظيمة، فإذا جئت إلى المسجد الآن وخرجت منه من جهة الغرب، ستلحظ في الشمال الغربي قطعة أرض بها نخل وزرع غير مبنية، مع أن البناء عن يمينها وشمالها ومن جميع الجهات، إلا الجهة التي تستقبل بها هذا الموضع الحرم مكتوب عليها: سقيفة بني ساعدة، وبني ساعدة بطن من الخزرج، ينسبون إلى جد يقال له: ساعد ، ولم يسكن المدينة، في هذه السقيفة بويع للصديق رضي الله تعالى عنه ورأضاه عندما اجتمع الأوس والخزرج بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وحضر الاجتماع بعد ذلك أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ، ونجم عن ذلك الاجتماع المبارك مبايعة الصديق بالخلافة.
المقصود أن موضع سقيقة بني ساعدة باق لم يتغير إلى اليوم، وهو في الجهة الشمالية الغربية من المسجد النبوي الشريف، ثم إن التوسعة أوصلته إلى القبر الشريف، وإلا فالقبر ما وضع في المسجد، بمعنى أن الصحابة لم يدفنوا النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد حتى يحتج علينا محتج فيقول: يجوز دفن الموتى في المساجد، أو يحتج علينا أنه يجوز أن نبني مسجداً على قبر، فهذا كله باطل، فلا يدفن أحد في مسجد، ولا يبنى مسجد على قبر، إنما غاية الأمر أن المسجد النبوي من جهة الشرق عمد الوليد إلى توسعته، فوصلت التوسعة إلى أن بلغت حجرات أمهات المؤمنين؛ لأنها كانت قريبة جداً من المسجد، ونحن نعلم أن الوليد لم يوفق في هذا، لكن هذا قد مضى بقدر الله، وليس فيه حجة لأحد أن يبني مسجداً على قبر أو أن يدفن ميتاً في مسجد، فهذا كله لا أصل له شرعاً، فالموتى يدفنون في المقابر، والمساجد تبنى على أرض فضاء ليس فيها مقابر، بل إن الصلاة في المقبرة لا تجوز، اللهم إلا أن تكون صلاة على ميت فيسن أن يصلى عليه فيها، كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على قبر المرأة العجوز التي كانت تقم المسجد.
فالصلاة في المسجد النبوي -كما سبق- بألف صلاة، لكن كذلك يذهب جمهور العلماء إلى أن الصلاة في المسجد الحرام مائة ألف صلاة، وذلك في المسجد المحيط بالكعبة وفي أي مكان في مكة، فمساجد مكة سواء في الأجر، فمن صلى -عند جمهور العلماء- في أي مسجد من مساجد مكة كمسجد ذي جرول مثلاً فصلاته عند جمهور العلماء بمائة ألف صلاة، وذلك كمن صلى في المسجد الذي يحيط بالكعبة، وهو المعروف بالمسجد الحرام، في حين أن العلماء متفقون على أن الصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة، أما الصلاة في غير المسجد النبوي فليست إلا بسبع وعشرين درجة، شأنها شأن سائر الصلوات، وهذا من الفوارق بين مسجد المدينة ومسجد مكة.
أما الساحات المحيطة بالحرم فلأنها مسورة ولها أبواب فإن الصلاة فيها كالصلاة في المسجد.
هذا ما هيئ إيراده، وما أعان الله على قوله حول مسجد رسولنا صلى الله عليه وسلم.
وفقنا الله وإياكم لكل خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر