إسلام ويب

فتح الفتوحللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • صيحة عزة انطلقت ملء الأفواه، وصارت حديث الساعة، هل تعلمون ما هذه الصيحة؟

    إنها صيحة: الله أكبر! فتحت كابول، فتحت بعد أن دنستها الشيوعية الكافرة فيا ترى من فتحها؟

    وماذا قدم لفتحها؟

    وما سبب فتحها؟

    وما هو واجبنا نحو هذا الجهاد؟

    كل هذا ما ستعرفه في هذه المادة.

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أيها الإخوة الفضلاء! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذا اليوم (29) من شوال (1412هـ) وهذه المحاضرة من جامع أبي بكر الصديق في أبها بعنوان "فتح الفتوح".

    السيف أصدق إنباءً من الكتب      في حده الحد بين الجد واللعب

    بيض الصفائح لا سود الصحائف في     متونهن جلاء الشك والريب

    فتح الفتوح تعالى أن يحيط به     نظم من الشعر أو نثر من الخطب

    فتح تفتح أبواب السمـاء لـه     وتبرز الأرض في أثـوابها القشب

    أبقيت جد بني الإسلام في صعد     والمشركين ودار الشرك في صبب

    رمى بك الله برجيها فهدمها      ولو رمى بك غير الله لم يصب

    أبقت بني الأصفر المصفر كاسمهم      صفر الوجوه وجلت أوجه العرب

    سوف نتحدث عن فتح العاصمة الأفغانية كابل وقبل ذلك نذكر ثناء الله على نبيه إذ يقول: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً [الفتح:1-2] ويقول المعصوم عليه الصلاة والسلام: (نصرت بالرعب مسيرة شهر).

    نُصرتَ بالرعب شهراً قبل موقعةٍ     كأن خصمك قبل القتل في حلم

    إذا رأوا طفلاً في الجو أذهلهم     ظنوك بين بنود الجيش والحشم

    إن فتح كابل فتح للمؤمنين، وعليهم أن يحمدوا الله عليه: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:160] فلله الحمد أن أرانا أصنام الملحدين تتهاوى تحت أقدام المجاهدين، ولله الحمد أن أرانا أوثان الكافرين تتهاوى تحت ضربات المؤمنين.

    بالأمس صلى المسلمون في كابل، واستقبلوا القبلة، وقام رئيس جمهوريتهم المسلم يخطب في الألوف المؤلفة، فيقول: الله أكبر، فيكبر وراءه مئات الألوف.

    ولأحد الفضلاء من المشايخ شريط بعنوان "الله أكبر سقطت كابل " وهو فاضل ذكي، لكنه قال: سقطت، وودت أنه قال: الله أكبر فتحت كابل، فإن السقوط لغير كابل، بل هو فتح ورفعة لها، والله عز وجل سمى انتصارات رسوله عليه الصلاة والسلام فتحاً، فقال: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الفتح:1].

    والآن ميلاد كابل في هذه الأيام، فهو فتح كابل، وليس سقوط كابل، فالسقوط والهبوط والاحتراق والخراب لغيرها، أما هي فتوجت بدماء الشهداء، وبجماجم المجاهدين، وأصبحت تعزف على عزف بنادق المؤمنين الذين بايعوا ربهم: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111] ولهذا الدرس سبب:

    إنه يجب علينا كمسلمين أن نعيش قضيتنا، فإن الولاء بيننا يتحرك، والمسلم مع إخوانه يسعد لسعادتهم، ويأسى لمآسيهم وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] و(مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).

    والحقيقة أن عقول المؤمنين سالت بقرائح مبدعة، وببنات أفكار عجيبة فرحة بهذا النصر، وقد وصلتني عشرات الرسائل إن لم أقل مئات الرسائل ما بين نثرية وشعرية وكثير من القصائد ما بين عربية فصيحة ونبطية -أي: عربي وبلدي- واخترت بعض القصائد، وأعتذر للإخوة الذين لا أقرأ قصائدهم، فإن مقصودي أن ألقي درساً لا أمسية، ومقصودي أن أختار بعض القصائد وأن أرجئ بعضها داعياً الله عز وجل لمن نظم قصيدةً مشيداً ومثنياً وفرحاً أن يكمل فرحه في جنات النعيم.

    قصيدة في المجاهدين

    بين يدي قصيدة لفضيلة الشيخ الدكتور زاهر بن عوض الألمعي بعنوان "قادة الأفغان لا تختلفوا":

    سألت: أين الوفا؟ أين التواصل؟     قلت: أحلى ملتقىً في عرس كابل

    من حوالينا بدور أشرقت      بالجهاد الحر في كل المعاقل

    يلتقي القادات في قواتهم      لالتحام الصف من تلك الفصائل

    والجباه السمر من خوض الوغى     سطعت نوراً وباتت كالمشاعل

    فإلى كابل تنداح الرؤى      واجتماع الشمل أولى بالتواصل

    نظرت ليلى وقالت: حسرةً     فاضت الأنباء من حقٍ وباطل

    والإشاعات بدت آثارها في      اختلال النصر في تلك المحافل

    وانقسامات القوى تضعفها      واختلاف الرأي أدنى للتقاتل

    قلت يا حسناء! لا تصغي إلى      خدعة الخصم وأفاكٍ وسافل

    فالأباة الصيد ما لانت لهم     عزمةٌ أو حال دون النصر حائل

    والمغاوير الألى قد وثبوا     وثبة الأسد ونهر الموت سائل

    رفعوا الرايات فانجاب الدجى     ومضوا في عزة الشهم المنازل

    فسلي بامير عن صولتهم      وسلي كابل عن تلك الجحافل

    واطربي إن كان للنصر هوىً      في شغاف القلب واجتازي المهازل

    هذه كابل في قبضتهم     هذه الدنيا صغت والنصر ماثل

    أينما وجهت في تلك الذرى     خلتها تفخر بالصيد البواسل

    والأنوف الشم في أرجائها      عشقت في الله أصوات القنابل

    وقفت كالطود في ساحِ الوغى     دحرت قوات زنديقٍ وصائل

    أنقذت كابل من وحشتها     وأزاحت بالهدى كل العوازل

    فالأناشيد والأبيات شدت      في الربى في البيد في قفرٍ وآهل

    والهتاف الحر دوى بهجةً      عازفاً ألحان مقدام مقاتل

    وصدى التكبير في رحب الفضا     يملأ الآفاق في رعدٍ وهاطل

    قادة الأفغان لا تختلفوا      فانقسام الصف لا يرضاه عاقل

    أنتم اليوم على بوابةٍ      يرصد العالم مقتولاً وقاتل

    فعلى درب الجهاد انتظمـوا      فالمدى أبعد في سير القوافل

    قصيدة فتح الفتوح

    فتح الله عز وجل عليَّ ببعض الأبيات في قصيدة بعنوان "فتح الفتوح" وهي على بحر وقافية قصيدة أبي تمام:

    السيف أفصح من سحبان في الخطـب     سل كابل الفتح عن خطابها النجب

    واهتف لقومٍ أقاموا من دمائهمُ      جسراً إلى مجدهم من أعجب العجب

    عزف البنادق أندى في مسامعهم     من عزف غانيةٍ في ساعة الطرب

    صدت عن الوصل كابل وأطمعها      في الهجر بعد محبيها فلم تجب

    فأمهروها رءوساً لم تكن سجدت      إلا لخالقها في أروع القرب

    كابل ميلادك الأسمى يضرجه      دمٌ يروي عروق السفح والحدب

    كابل باب سماء النصر يفتحه     كتائب من بني الإسلام لم تهب

    كابل من بدر تروي كل قصتها     يا أختها من صميم الأصل والنسب

    فتح الفتوح وأعلام العلا رفعت     وارتجت الأرض من روما إلى النقب

    أصنام لينين أصخت وهي عابسةٌ     تذوي على النار أو تهوي إلى اللهب

    معاطسٌ كفرت بالله فاندحرت      على أزيزٍ من البارود والقضب

    والشمس في هالةٍ غبراء قد كسفـت      غابت من الهول فيه لا فلم تغب

    تسربل الصيد في قاني دمائهمُ     ما بين مختضبٍ أو غير مختضب

    فتحٌ تشيعه الأملاك من فرحٍ      وتبرز الأرض في أثوابها القشب

    و مكة تتهادى رجع فرحتها      وطيبة الفضل تروي مجد كل أبي

    واستبشر القدس والمسرى وعاوده      ما عاود الصيد في يافا وفي حلب

    فتحٌ وقيمته أرواح من نسجوا      ثوب المعالي من الأفغان والعرب

    أيها الإخوة الفضلاء! هذه نتائج الجهاد، وثمرات البذل والتضحية.

    ثمن المجد دمٌ جدنا به      فاسألوا كيف دفعنا الثمنا

    ثمن الانتصار

    ماذا دفع الأفغان ثمناً لدخولهم كابل، دفعوا أكثر من (1.500.000) قتيل في سبيل الله، شرد من وطنهم أكثر من (5.000.000) مشرد، احترقت الجبال بالنيران، وهدمت المدن، وسحقت المساجـد، ورملت النساء، ويتم الأطفـال، وصارت الدنيا ضاحية من ضواحي الدماء، وبركاناً من براكين البذل والتضحية، ثم أمدهم الله بنصر بعد أكثر من (13) سنة إلى (14) سنة بنصر مؤزر، دخلوا شباباً يهتفون.

    نحن الذين بايعوا محمدا     على الجهاد ما بقينا أبدا

    وصلوا الجمعة في صفوف متراصة كأنها السدود تتجه إلى الكعبة حيث انطلقت منها لا إله إلا الله، وأثبتوا للعالم أن الأرض التي تؤخذ بالسلاح لا تستعاد إلا بالسلاح، وأن المبادئ التي تسحق لا بد أن تعاد بالسحق لمن سحقها، هذه قضية، ثم أروا العالم أن الشجب والتنديد والاستنكار لا يأتي بشيء بل يأتي بقوة السلاح بعد الاعتصام بالله عز وجل.

    الجهاد في القرآن الكريم والحديث الشريف

    أيها الفضلاء! ذكر الله الجهاد وثمراته ونتائجه ومقاصده، وسوف أختار بعض الآيات من كتاب الله عز وجل، قال المولى جلت قدرته:إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ [البقرة:218] فسبحان اللهّ! بعد الهجرة والجهاد يرجون رحمة الله، فقل لي: ماذا يرجو القاعدون على الفرش؟! وماذا يريد المتمتعون بالشهوات؟! إذا كان المهاجر والمجاهد تجرح قدمه ويقطر دمه ويتناثر جسمه بالقنابل، ثم يقال له: كأنك ترجو رحمة الله، كأنك تريد ما عند الله، ويقول المولى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142].. أظننتم أن طريق الجنة محفوفٌ بالورود يميس كالحرير؟! لا. إنه طريق صعب، ولو كان سهلاً لدخله الناس جميعاً، ولكن يتخذ ربك شهداء ومجاهدين.

    إن من يحسب أنه سوف يدخل الجنة، وهو قاعد على فراشه، لا يدعو، ولا يبذل، ولا يضحي، ولا يغضب لله، ولا يبيع دمه وماله وعرضه من الله، فقد غلط في الحسبان، وأخطأ في العدد، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69] (فينا) انظر إلى الضمير (فينا) ما أحسنها من نسبة!

    لا تدعني إلا بيا عبدها      فإنه أشرف أسمائي

    قال: فينا، حتى يقول ابن أبي الحديد مخاطباً ربه:

    وحقك لو أدخلتني النار قلت لـ      ـلذين بها قد كنت ممن أحبه

    وأفنيت جسمي في علومٍ كثيرةٍ      وما منيتي إلا لقاه وقربه

    أما قلتمُ من كان فينا مجاهداً     سيحمد مثواه ويعذب شربه

    قال: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا [العنكبوت:69] فهي نون النسبة، فهم منتسبون إلى الله، جاهدوا من أجله ولوجهه، ومن أجل مبادئه، ومن أجل لا إله إلا الله، ومن أجل عين لا إله إلا الله، وجمال لا إله إلا الله، وروعة لا إله إلا الله، لا من أجل التراب والوطن، والدم، والجنس، ولا أي كيان وإنما (فينا).

    وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54] فإذا أرضوا الله، فما عليهم من لوم اللائمين، ولو لامهم العالم، ولو قال لهم العالم: أنهم متطرفون، أو متشددون، أو متزمتون، أو إرهابيون فهم إنما يجاهدون في سبيل الله، وهي الكرامة، وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَ3ِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [التوبة:41].

    يقولون: كان أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه أرضاه شيخاً كبيراً قد شارف على الثمانين، فسمع بالجهاد لفتح القسطنطينية في عهد يزيد، فخرج ولبس درعه، قالوا له: أنت كبير، أنت ثقيل، قال: لا. إن الله يقول: انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً [التوبة:41] والله لأنفرن، فقتل هناك، وسوف يبعث هناك بين قوم كفار يقول: لبيك اللهم لبيك.

    وقال عز وجل: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ [الحج:78] وحق جهاد الله أن يسيل الدم لمرضاته، وأن يقطع الرأس من أجله، وتدفع الدنيا بما فيها وبزينتها وبذهبها ليرضى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى:

    أيا رب لا تجعل وفاتي إن أتت      على شرجعٍ يعلى بخضر المطارف

    ولكن شهيداً ثاوياً في عصابةٍ      يصابون في فجٍ من الأرض خائف

    إذا فارقوا دنياهمُ فارقوا الأذى      وصاروا إلى موعود ما في المصاحف

    قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً [النساء:95] ولم يسم لنا الأجر، ولم يعدده لنا، إنما هو أجر عظيم، والأجر عند الله، فالمجاهدون أفضل من القاعدين بلا شك، المجاهدون من أجل لا إله إلا الله، والقاعدون يكفيهم اسم القعود، فلم يقل عنهم غير ذلك، إنما سماهم (القاعدون) لأنهم قعدوا، فكأنهم ليسوا قياماً، ولو في ديارهم، إنما لقلة هممهم وعزائمهم قاعدون فهذا وسام لهؤلاء، أما أولئك فـ (المجاهدون- الشهداء في سبيل الله) وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:95].

    هذه آيات، وغيرها كثير، وآيات الجهاد تربو على مائتين وأربعين آية في كتاب الله، وقال صلى الله عليه وسلم: {إن في الجنة مائة درجة؛ ما بين الدرجة والتي تليها كما بين السماء والأرض أعدها الله للمجاهدين في سبيله}.

    حث الرسول عليه الصلاة والسلام على الجهاد

    عن أبي هريرة رضي الله عنه وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من مات، ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق} رواه مسلم.

    ومعنى الحديث: من مات ولم تخالجه نية الجهاد، ولم يعزم على أن يجاهد، ولم يحدث نفسه مرة من المرات، ولم يزاول حركة الجهاد، ولم يغز بماله، أو بنفسه، مات على شعبة من النفاق، يلقى الله وفي قلبه، وعمله، وميزانه شعبة من شعب النفاق، فليحـذر العبد، وليجاهد بلسانه وبسنانه كما سوف يأتي في الحديث، وليجاهـد بكلمتـه، وبقلمه، وبماله، فهو الجهاد العظيم.

    قال أهل العلم في قوله: {من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق} قالوا: هي مرحلتان:

    الأولى: مرحلة الغزو المباشرة.

    الثانية: مرحلة التحديث.

    والتحديث معناها: مزاولة النية، واستثارة القلب من أجل التصميم على الجهاد إذا سنحت الفرصة، حتى إن بعض أهل العلم كان يصعد الجبال في الصباح، ويتدرب على حمل السلاح، فقيل له: لم ذلك؟ قال: أتهيأ للجهاد في سبيل الله.

    وفي سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه صعد جبل كسروان، ونزل هابطاً، فقيل له في ذلك، قال: أتهيأ للغزو في سبيل الله.

    وعن أنس رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم} رواه أحمد والنسائي وصححه الحاكم وهو حديث صحيح.

    جاهد بماله ونفسه، فهو بأعلى المنازل، وقد أرسل ماله، وقد قدم الله المال على النفس؛ لأنه يتيسر أكثر، والنفس وهي أرقى ما يبذله الإنسان.

    يجود بالنفس إن ضن البخيل بها      والجود بالنفس أعلى غاية الجود

    ويظن بعض الناس وهم على أجر ومثوبة أنهم إذا تنفلوا بالصلوات في المساجد أو في البيوت، وتركوا الجهاد ومراغمة أعداء الله والمنافقين؛ أنهم أفضل من أولئك، نعم.. هم على أجر، لكنهم ليسوا بأفضل، ولذلك يحقق هذه المسألة ابن المبارك أمير المؤمنين في الحديث، ويخرج التحقيق في أبيات:

    يا عابد الحرمين لو أبصرتنا     لعلمت أنك بالعبادة تلعب

    من كان يخضب خده بدموعه     فنحورنا بدمائنا تتخضب

    والجهاد باللسان يدخل فيه: المقالة، والخطبة، والدرس، وكلمة الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والقلم، والذاكرة، والفكر، والأدب، والثقافة، والتراث، كلها تكون لمرضاته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

    وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله} متفق عليه، وسبب الحديث: {أن رجلاً قال: يا رسول الله! الرجل يقاتل شجاعةً، ويقاتل رياءً، ويقاتل ليرى مكانه، ويقاتل حمية؛ أي ذلك في سبيل الله؟ قال عليه الصلاة والسلام: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله} قال بعض العلماء: هذا حصر، ومفهوم المخالفة في هذه الكلمة: أن من قاتل لغير أن تكون كلمة الله هي العليا، فليس في سبيل الله.

    {أتى رجل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: يا رسول الله! أبايعك على الإسلام، فبايعه، فأعطاه عليه الصلاة والسلام مالاً، فقال: يا رسول الله! غفر الله لك! ما على هذا بايعتك، قال: على ماذا بايعتني؟ قال: بايعتك على أن يأتيني سهم طائش غرب يقع هنا -وأشار إلى ثغره ولبة صدره- ويخرج من هنا -وأشار إلى قفاه- قال عليه الصلاة والسلام: إن تَصْدُق الله يصدقك، وأتت المعركة فوقع سهم في لبته، وخرج من قفاه، وقتل في سبيل الله، فمسح عليه الصلاة والسلام وجهه، وقبله، وقال: صَدَقْتَ الله فَصدَقك الله، صدقت الله فصدقك الله}.

    وصايا الرسول عليه الصلاة والسلام للمجاهدين

    عن سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش، أو سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: اغزوا باسم الله} انظر ما أحسن الابتداء! على بركات الله أن تفتتحوا غزوكم وجهادكم باسمه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ثم قال: {اعزوا باسم الله وفي سبيل الله؛ قاتلوا من كفر بالله، اغزوا، ولا تغلوا} والغلول سرقة شيء من الغنيمة على وجه الخفاء: {ولا تغدروا} وهو النكث بالميثاق {ولا تمثلوا} وهو تشويه القتلى ولو من الكفار، فالتمثيل لا يسوِّغه، انظروا حفظ الذمم، انظروا العهد والميثاق، انظروا هذا الشرف لهذا الشريف العظيم عليه الصلاة والسلام: {ولا تقتلوا وليداً} فليس في الإسلام قتل الأطفال، إنه احترام للمبادئ، وتميز للناس، ووضع للأمور في مواضعها: {وإذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى ثلاثة خصال، فأيتهن أجابوك إليها؛ فاقبل منهم وكف عنهم، ادعهم إلى كلمة الإسلام، فإن أجابوك إليها، فاقبلها منهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن أبوا، فأخبرهـم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا؛ فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك؛ فاقبل منهم، فإن أبوا؛ فاستعن عليهم بالله تعالى وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوا أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تفعل، ولكن اجعل لهم ذمتك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله، وإذا أرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تفعل، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا} أخرجه مسلم.

    هذه وصاياه عليه الصلاة والسلام لأتباعه ولجنوده في المعارك، من حفظ للعهد، ومراعاة للذمة، واحترام للمواثيق، وعدم فساد في الأرض، وتحرير للعقول، وإزالة للباطل عن طريق الدعوة حتى تصل إلى مستحقها وإلى أهلها.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088522601

    عدد مرات الحفظ

    777112219