فربنا تبارك وتعالى أرسل الرسل مبشرين ومنذرين؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وقد دل القرآن والسنة على أن أول الرسل نوح وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء:163].
وأما الآية التي نحن بصدد التأمل فيها فهي قول الله جل وعلا: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ [القمر:23].
وثمود قبيلة عربية كانت تسكن شمال جزيرة العرب، وأهل التاريخ يقسمون العرب إلى ثلاثة أقسام: عرب بائدة، وعرب عاربة، وعرب مستعربة، أما ثمود فهم ينضمون -حسب التصنيف التاريخي المتأخر- إلى العرب البائدة، والكلام عنهم هنا قبل أن يبيدوا.
وقد بعث الله فيهم نبياً ورسولاً اسمه صالح، وقد كان صالح عليه السلام وجيهاً في قومه محبوباً لديهم، كما قال الله جل وعلا عنهم: قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا [هود:62]، أي: قبل أن تدعي النبوة.
يقول ربنا تبارك وتعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ [القمر:23]، وثمود قبيلة، ولذلك أنث الفعل في قوله جل وعلا: (كَذَّبَتْ) ومعلوم أن ثمود لم يأتهم إلا نذير واحد هو صالح، ولكن التكذيب برسول تكذيب بالرسل كلهم، وهذا من سياقات القرآن وأساليبه المتكررة.
قوله تعالى: (فَقَالُوا) أي: ثمود. وهذه النعرة -إن صح التعبير- التي وجدت في قوم ثمود كأنها أشبه بالموروث التاريخي في الأمم كلها، فإن كل الأمم من الذين حكى الله جل وعلا عنهم أنهم كذبوا أنبياءهم ورسلهم كانوا يعتمدون في تكذيبهم ويتكئون على مسألة أن من بعث إليهم بشر مثلهم، وهذا الأمر قاله القرشيون، وقاله الفراعنة، وقاله قوم ثمود، وقاله غيرهم من الأمم.
قال تعالى عنهم: (أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إنا إذاً) أي: إن حصل منا هذا، فوقع منا الاتباع (لفي ضلال وسعر).
والتنوين في قوله تعالى: (إِذًا) عوض عن جملة، أي: إنا إذا اتبعناه لفي ضلال وسعر.
و(بَلْ) للإضراب وللانتقاص، و(كَذَّابٌ) صيغة مبالغة من (كذب)، والعرب تأتي بصيغة المبالغة لمن يكثر منه الفعل، فيأتون بصيغة معينة يفهم من خلال عرض كلامهم أن هذه الصيغة تحمل الكثرة والترداد، فهذا معنى قولهم: (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ)، وهذا ظاهر ولا يحتاج إلى مزيد بيان.
والذي يحتاج إلى مزيد بيان هو إخبار الله جل وعلا عن هؤلاء الكفرة بأنهم وصفوا نبيهم بأنه كذاب أشر، فما الذي أفادته عبارة (أَشِرْ) في هذا السياق؟
إن الإنسان أحياناً يكذب بصرف النظر عن كونه له دليل أو ليس له دليل، ولكن الغالب فيمن يكذب أنه يكذب ليدفع عن نفسه الضرر، ومثال ذلك: رجل رأيته في مكان ذي حرمة، فعندما هتك تلك الحرمة ووصل إليها واجهته وسألته: لم أنت هنا؟ فاضطر إلى أن يذكر عذراً حتى يخرج من ذلك المأزق الذي أوقعته فيه، فيصبح كذبه هنا لسبب، وهو دفع الضرر عن نفسه، وإن كان هو قد وقع في الضرر بنفسه وسعى إليه بقدميه، فهذا يسمى كذاباً ولا زيادة عليها.
ولكن إذا كان الإنسان لا يحتاج إلى الكذب، وإنما يريد بالكذب أن يرتقي ويزداد مقاماً ورفعة أو ليحصل على أشياء لا حاجة له إليها في الأصل، لا ليدفع ضرراً قائماً؛ فإنه يسمى (أَشِراً)، فهذا معنى قولهم: (كذاب أشر)، أي: أنهم قالوا: إنك -أيها المتنبئ الذي يزعم النبوة ويدعيها- مكرم بيننا ومرجو، ولك الجاه والحظ الأكبر بيننا، فلا حاجة لك إلى أن تكذب لتدعي النبوة. وهذا من منطلق زعمهم وظنهم الفاسد أن صالحاً عليه الصلاة والسلام أراد بذلك الكذب ليصل إلى مقام أرفع بينهم، فهذا معنى قول الله جل وعلا: بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ [القمر:25].
قوله تعالى: (سَيَعْلَمُونَ) السين للمستقبل القريب. (غَدًا) كلمة (غداً) هنا لا تعني اليوم التالي للحديث، والعرب تقول في كلامها: إن من الكلام ما إذا عرف نكر، وإذا نكر عرف، ككلمة (أمس)، فإذا قال الرجل: (رأيت صاحبي أمس)، فهو يعني اليوم الذي قبل أن يتحدث فيه، فإذا حكى هذا الكلام يوم الخميس فإنه يقصد يوم الأربعاء، وإذا حكاه يوم الجمعة فإنه يقصد يوم الخميس، مع أن كلمة أمس هنا نكرة لم تعرف، وإذا عرفت أريد بها النكرة، كقوله تعالى: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ [يونس:24]، أي: فيما مضى، ولا يُقصَد اليوم الذي قبل أن يحكي الله جل وعلا فيه الآية.
فهنا يقول ربنا تباركت أسماؤه وجل ثناؤه: (سَيَعْلَمُونَ) أي: قوم ثمود (غَدًا) أي: في مستقبل أيامهم (من الكذاب الأشر).
ومنه قول الله جل وعلا: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24].
والناقة ليست الآية فيها أنها ناقة، فالنياق في الأرض كثير، وقد كانت هناك نياق عديدة في قوم ثمود، ولكن الآية والمعجزة فيها أنها خرجت لهم من صخرة صماء، وهذا ينبغي أن يستصحبه المرء وهو يتدبر آيات الله التي أيد الله بها رسله، كما قال الله جل وعلا في قصة نبيه موسى عليه الصلاة والسلام مع فرعون: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ [الأعراف:133]، فقول الله جل وعلا: (آيَاتٍ) هو الذي يعنينا هنا؛ لأن القمل والضفادع والجراد تكون في كل زمان وفي كل مكان، ولكن الآية فيها أنها خرجت عليهم على شيء غير مألوف، وعلى حال غير معهودة، ولهذا أصبحت آية.
وكذلك الناقة هنا، قال الله جل وعلا: (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ) وقال في الإسراء: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [الإسراء:59]، و(مبصرة) صفة لموصوف محذوف، أي: وآتينا ثمود الناقة آية مبصرة.
فقوله تعالى: (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ) أي: اختباراً وابتلاءً.
قوله تعالى: (وَنَبِّئْهُمْ) أي: نبئ قومك. (أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) بين الناقة من وجه، وبين قومك من وجه آخر، بمعنى أن أهل القرية كلهم يشربون في يوم، واليوم الآخر تكون البئر كلها من نصيب الناقة، وكون الناقة تشرب ما تشربه القبيلة كلها في يوم من قرائن وبراهين أنها ناقة معجزة، وأنها آية أُيِّد بها رسولهم، ولكنهم لم يكونوا يلتفتون إلى هذا المعنى؛ لأن الله جعل قلوبهم غلفاً، نعوذ بالله من ذلك.
إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم
وهناك أناس غلبت عليهم الشقوة، فيتقلدون أي أمر؛ لأنهم يسارعون إلى الظهور في أي حال، ولهذا حذر الله تعالى أولياءه بقوله: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا [القصص:83].
فهؤلاء القوم -قوم ثمود- تبنوا مسألة عقر الناقة، ولكنهم لم يستطيعوا أن يحملوا ذلك الهم ويقوموا به، فما زالوا يتدافعونه حتى انحصر في تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون، ثم انحسر في هؤلاء التسعة حتى أصبح في شخص، ولكن التسعة وباقي القبيلة من غير المؤمنين كلهم كانوا بقلوبهم وجوارحهم مع ذلك المعروف بـأحيمر ثمود عاقر الناقة، قال الله جل وعلا: فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ [القمر:29]، أي: عقر الناقة، فحق عليهم العذاب، قال الله تبارك وتعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا [الشمس:11-14] أي: كذبوه فيما قال.
وفي سورة القمر التي بين أيدينا نسب الله ذلك إلى واحد منهم، وفي سورة الشمس نسبه الله إلى الجماعة، فنسبته إلى الفرد -وهو قدار بن سالف أحيمر ثمود عاقر الناقة- باعتبار أنه باشر عقر الناقة، أما نسبته إلى الكافرين من القبيلة فباعتبار أنهم كانوا راضين تمام الرضى، وقلدو صاحبهم ذلك، فقال الله جل وعلا: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا [الشمس:14-15]، أي أن الله جل وعلا أهلكهم وجعل ديارهم حصيداً كأن لم تغن بالأمس، جزاء لهم على أنهم كذبوا ذلك الرسول الذي بعث إليهم، وتلك سنة الله جل وعلا في سائر من كذب رسله، إلا فيمن كذب نبينا صلى الله عليه وسلم، لأن الله قد علم أزلاً أن هذا النبي هو خاتم الأنبياء، وأن أمته آخر الأمم، ولم يكن الله قد أذن بهلاك العالم آنذاك، ولذلك لم تبسل أمة محمد صلى الله عليه وسلم بآية ظاهرة حتى لا تهلك، وهذا أمر بينه الله جل وعلا في سورة الإسراء، وهو محرر في دروس خلت.
والذي يعنينا أن هذا ما ذكره الله جل وعلا في سورة القمر عن خبر عبده ونبيه صالح عليه الصلاة والسلام.
والعجب أنه كان لأمير المؤمنين ابنة اسمها أم كلثوم ، وقد تزوجها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وكانت تقول: ما لي ولصلاة الفجر. وذلك لأن زوجها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه قتل في صلاة الفجر، وأبوها علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه قتل وهو غاد إلى صلاة الفجر، وهذا من باب اللطائف المتعلقة بخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (أشقى الأولين
هذا ما تحرر إيراده، وأعان الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر