إسلام ويب

الفاروق في القرن الخامس عشرللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • عمر بن الخطاب رضي الله عنه شخصية ألمعية, وعبقرية فذة, وعدالة نادرة, لا تخفى على مسلم, وحياته حافلة بالمواقف الموفقة, والدروس المتألقة: كالعزة الفريدة, والتواضع العجيب.

    وفي هذا الدرس تجد استعراضاً لبعض المواقف التي سطرها التاريخ بقلم الصدق عن تلك الشخصية الفريدة.

    قال الشيخ عبد الوهاب الطريري حفظه الله في مقدمة المحاضرة:

    الحمد لله على نعمائه، والشكر له على آلائه، وصلاته وسلامه على أفضل خلقه وأشرف أنبيائه، ثم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    أيا عمر الفاروق هل لك عودةٌ      فإن جيوش الروم تنهى وتأمر

    يحاصرنا كالموت ألف خليفة     ففي الشرق هولاكو وفي الغرب قيصر

    تأخرت يا أغلى الرجال فليلنا      طويلٌ وأضواء القناديل تسهر

    سهرنا وفكرنا وشاخت دموعنا      وشابت ليالينا وما كنت تحضر

    دخلت على تاريخنا ذات مرةٍ      فرائحة التاريخ مسكٌ وعنبر

    أتسأل عن أعمارنا أنت عمرنا      وأنت لنا الفاروق أنت المحرر

    تضيق قبور الميتين بمن بها      وفي كل يومٍ أنت في القبر تكبر

    نحن الليلة على موعدٍ مع رحلة تخترق حقب الزمن, وترفع حجب التاريخ، لنفضي إلى ساح شريف ورحابٍ منيف، إنه رحاب الإمام العبقري، والمحدث الملهم الفاروق عمر؛ لنرى رجلاً عظيماً بفكره.. عظيماً بأثره.. عظيماً بخلقه.. عظيماً ببيانه.. عظيماً قبل ذاك بإيمانه، إنه العبقري الذي جمع العظمة من أطرافها.

    نفضي إلى ساحه لا لنقيم مأتماً في ذكراه، ولكن لنستكشف مواضع العبرة من سيرته، ومواقع القدوة من شخصيته، لأن أمتنا المعطاءة، لم ولن تعقم أن تدفع من يعيد سيرته، ويقفو طريقته.

    أما قائد هذه الرحلة وربانها فهو العالم، بل الداعية، بل الأديب، بل الأريب، بل كل ذلك وأكثر من ذلك، إنه صاحب الكلمة التي تسمعها فيتراءى لك صدق اللهجة, وحرارة الإخلاص, ووضاءة الحق, ونور الحقيقة.

    يحملنا ربان هذه الرحلة على جناح الكلمة المشرقة، والعبارة المتألقة، فإذا المعاني شاخصة، والحقائق ناطقة، فيا أبا عبد الله هذه الآذان قد أنصتت فصافحها بكلمتك، وهذه الأبصار قد نظرت فعانقها بطلعتك.

    فقم حادث الدنيا كأنك طارقٌ      على بركات الله يرسو ويبحرُ

    قال الشيخ عائض القرني: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين, وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن سار على منهجه إلى يوم الدين.

    أيها الكرام.. أيها الموحدون.. يا أبطال العاصمة.. حياكم الله!

    أهلاً وسهلاً والسلام عليكم      وتحية منا تزف إليكم

    أحبابنا ما أجمل الدنيا بكم      لا تقبح الدنيا وفيها أنتم

    قمت وأنا -والله- كالمتحير, ما ظننت أن هذا الخطيب سوف يوقفني في هذا الموقف المدهش، وأنا أجعله أستاذاً وشيخاً لي، وأعلم من قدراته وفضله ما ليس فيَّ، ووالله! ما أتيت أكيل له المدح هاء وهاء ويداً بيد، لكن من باب أن يعرف الفضل لأهله، فهو رائدٌ من رواد الصحوة، وشيخٌ من شيوخ البلاد، أقولها كلمة وأنا مسئول عنها، وأما ثناؤه عليَّ فأنا أعرف بنفسي, وأسأل الله أن يغفر لي ما لا يعلم.

    أيها الأخيار.. أيها الفضلاء.. عنوان المحاضرة (الفاروق في القرن الخامس عشر) وكان العنوان (الفاروق في القرن العشرين) لكن من الذي أسس التاريخ الهجري؟!

    أليس عمر؟

    أليس وفاءً منا أن نجعل التاريخ بالهجري بدلاً من الميلادي, لأنه أسس التاريخ؟

    بلى أيها الأحباب! فأنا أعرف أن الأطفال عندنا في الابتدائية يعرفون أين ولد عمر , ومتى ولد؟ وأين توفي؟ ومتى توفي؟ ولكن أعرف أن من أساتذة الجامعة من لا يعرفون سطوع عمر، ولا عبقرية عمر.

    وأنا لن أحدثكم اليوم عن تاريخ الأموات.. عن زوجات عمر وأبنائه، أو عن لباس عمر , ولكني سوف أحدثكم عن تاريخ الأحياء الذي عاشه عمر رضي الله عنه إماماً وعبقرياً وعادلاً.

    أسلم عمر بسورة طه، وكان أصدق من الشمس في ضحاها، وأوضح من القمر إذا تلاها، وأشهر من النهار إذا جلاها، تولى الخلافة فأعلاها، وقاد الأمة ورعاها.

    من أين أبدأ يا أبا حفص ولي     قلب له في حبكم أسرارُ

    يا أيها الفاروق تاريخ الورى      زورٌ وفي تاريخكم أنوار

    لقبه الفاروق، وقد لقبه بذلك أهل الكتاب، أسلم وعمره بضع وعشرون عاماً، وشهد بدراً وأحداً والمشاهد كلها، وهو أول من عس بـالمدينة، ودار كالشرطة في الليل، وحمل الدرة، وأدب بها، وجند الجنود، ودون الدواوين، وفتح البلاد.

    كان خشن العيش، قليل الضحك، لا يمازح أحداً، كثير البكاء، نقَش بخاتمه: (كفى بالموت واعظاً يا عمر) وهذا من كلام ابن كثير.

    والله ما ادكرت روحي سيرته      إلا تمنيت في دنياي لقياه

    ولا تذكرته إلا وخالجني      شوق أبو حفص فحواه ومعناه

    تبكي عليه الملايين التي فقدت      بموته عزة الإسلام إذ تاهوا

    الطفل من بعده يبكي عدالته      يقول هل مات ذاك الغيث أماه

    والناس حيرى يتامى في جنازته      تساءلوا من يقيم العدل إلا هو

    مضى إلى الله والآلاف تندبه     ابن الشريعة حياها وحياه

    إني أحييك من قلبٍ يقطعه      شوقي إليك فهل واسيت فقداه

    يقول خالد محمد خالد -وأنا أعترف وأزيد على ما قال- يقول: لست أكتب تاريخاً لـعمر، ولا أزيد معرفةً بـعمر، ولكني لا أرفع شأوه، ولا أزكي على الله نفسي بالكتابة عن عمر، فالله أحبه واصطفاه، لأنه الرجل الكبير في بساطة، والبسيط في قوة، والقوي في عدل، والمتواضع في رحمة، والرحيم في تواضع.

    فضائل عمر

    يترجم الرسول صلى الله عليه وسلم لـعمر بن الخطاب! الشيخ الإمام يترجم لأحد طلابه ويثني على أحد تلاميذه، فاسمع إليه عليه الصلاة والسلام.

    عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك بـعمر بن الخطاب أو بـعمرو بن هشام} رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، وصححه ابن حبان، ورواه أيضاً الطبراني عن ابن مسعود والحاكم عن ابن عباس، وأغار عليه الألباني فضعفه ومزقه شذر مذر، وأنا أقول: ما زال الحديث يحتمل التحسين إن شاء الله.

    وعن ابن عباس عند الحاكم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اللهم أعز الإسلام بـعمر بن الخطاب} وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بينما أنا نائمٌ رأيتني في الجنة بجانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لـعمر بن الخطاب فأردت أن أدخله فذكرت غيرتك يا عمر؛ فبكى عمر؛ وقال: أعليك أغار يا رسول الله}.

    إذاً أصبح قصره هناك، لا بطوله ولا بأمواله ولكن بمؤهلاته التي سوف تسمعونها هذه الليلة ترشق آذانكم رشقاً.

    وعند الترمذي من حديث حذيفة بسندٍ حسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اقتدوا بالذين من بعدي: أبي بكر وعمر} قال ابن تيمية في كتاب قتال أهل البغي: "وإنما خص الشيخين لأن عثمان تأول في الأموال، وعلياً تأول في الدماء، وأما أبو بكر وعمر فلم يتأولا، لا في الدماء ولا في الأموال" لله درك!

    وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بينما أنا نائمٌ أُتيت بلبنٍ فشربت حتى رأيت الري في أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب، قالوا: ما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: العلم} إنه العلم الشرعي.. العلم الذي وصله بالله، وهو علم الخشية؟ علم إياك نعبد وإياك نستعين.

    وفي الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بينما أنا نائمٌ رأيت الناس يعرضون عليَّ وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثُدي -جمع ثدي- ومنها ما دون ذلك، وعرض عليَّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره، قالوا: ما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين}.

    إن الرجل ديِّن من الطراز الأول، إنه يخاف الله، وسوف تسمعون من خوفه لله العجب العجاب، وفي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يـابن الخطاب والذي نفسي بيده! ما رآك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلكَ فجاً غير فجك}.

    وعند البخاري عن أبي هريرة قال: قال عليه الصلاة والسلام: {لقد كان فيمن قبلكم من الأمم ناسٌ محدثون, فإن يكن في أمتي فـعمر بن الخطاب}.

    من لي بمثل سيرك المدلل      تمشي رويداً وتجي في الأول

    وروى الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه} فهو يقول الحق, ويعتقد الحق، ويعمل بالحق.

    وعند الترمذي والحاكم وصححه عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لو كان بعدي نبيٌ لكان عمر بن الخطاب} ورواه ابن عساكر والطبراني عن ابن عمر أيضاً، وهو حديث صحيح.

    مدح الصحابة لعمر وبعض شمائله

    ويستمر المديح، ويشارك الصحابة في الإعجاب بـعمر، كلهم يثني ويمدح ويحب، يقول علي في البخاري: {والذي نفسي بيده! لطالما سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، فأسأل الله أن يحشرك مع صاحبك}.

    وعن ابن مسعود قال: [[ما زلنا أعزة منذ أن أسلم عمر , كان إسلام عمر عزة, وهجرته نصراً, وتوليه رحمة]] روى هذا الأثر ابن أبي شيبة في المصنف , والطبراني في المعجم الكبير.

    وقال ابن الحداد، عالم المالكية في القرن الخامس, قال: "كفنت سعادة الإسلام في أكفان عمر".

    لما دفن عمر كفنت سعادة الإسلام ونوره وإشراقه، ولكن بقيت من الإسلام بقايا عمر، فكان حاجباً بين الفتن، وكان حصناً في وجوه الأعداء، فلما مات دخلت الفتن على الأمة.

    يقول مايكل هارف وهو الأمريكي الذي له كتاب الأوائل المائة كما تعرفون، يقول في صفحة (166) من كتابه: "إنما مآثر عمر مؤثرة حقاً، فقد كانت شخصية رئيسية في انتشار الإسلام بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وبجهاده وتضحياته، ضرب الإسلام بعطنه عبر العالم" أو كما قال.

    وقال أنس وهذا عند ابن سعد في الطبقات: [[كان عمر وراء حائط، فسمعته يبكي، ويقول: والله يا عمر! إن لم تتق الله ليعذبنك]] لقد كان يحاسب نفسه، وكان أكبر ما يخاف من الله، فكان قبل أن يقدم على خطوة أو كلمة يراقب الله في رضاه وغضبه، وفي حركته وسكونه.

    فاروق مصر وهو نكرة أراد أن يقلد عمر، لكن عمر اسمه الفاروق بأل وفاروق مصر بدون (أل) للتعريف، كتب له محمد إقبال في أرض المشرق رسالة يقول فيها: يا فاروق مصر! إنك لن تكون كـالفاروق عمر حتى تحمل درة كدرة عمر.

    يقول: أخرج الجواري التي في قصرك، فعندك ستمائة جارية, وتريد أن تسمى الفاروق، وتكذب على الجماهير، عندك تلاعب بالأموال، وبضمائر الناس، وتريد أن تكون عمر؟ لا. أنت فاروق لكنك لست الفاروق , لأنك لا تحمل درة كدرة الفاروق.

    قال أبو نعيم في الحلية: "كان عمر يمر بالآيات في ورده فتخنقه، فيبكي حتى يسقط، ثم يلزم بيته ويعاد -مريضاً- من تأثره".

    وقد قلت لكم: إننا لن ندخل في تفصيليات وجزئيات حياة عمر في أكله أو في لباسه، لكنا ندخل في خطوطٍ عريضة قوية أثرت في حياة هذا الرجل حتى أقر به أهل الشرق والغرب، وألف فيه أكثر من ستة وخمسين كتاباً ما بين غربيٍ وشرقي لغير المسلمين، ألفوا في التربية في حياة عمر , وفي علم العمران، وعلم العدل والسياسة، كلها مشتقة من فطنة عمر رضي الله عنه وأرضاه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088523445

    عدد مرات الحفظ

    777119042