إسلام ويب

في ظلال إياك نعبد وإياك نستعينللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد أنزل الله سبحانه وتعالى علينا الكتاب الكريم, لنستظل تحت وارف ظله, وجعله لنا نوراً وهداية, وأمرنا بتدبره.

    وقوله تعالى: (إياك نعبد وإيك نستعين) هو ملخص رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا الدرس معنى العبادة الواردة فيها، وأنواع العبادة، وأخبار العباد الذين استظلوا بظلها، ومعنى الاستعانة وأقسامها.

    الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه, حمداً يوافي نعماءه, والصلاة والسلام على معلم الخير وهادي البشر, الذي أتى بالكتاب المبين, والقرآن العظيم, والحبل المتين, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً, أمَّا بَعْد:

    فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته..

    ومع كتاب الله تبارك وتعالى, ومع هذه النعمة التي من الله بها على الأمة الإسلامية, يقول شوقي:

    آياته كلما طال المدى جدد      يزينهن جلال العتق والقدم

    أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له     وأنت أحييت أجيالاً من الرممِ

    أتى على سفر التوراة فانهدمت      فلم يفدها زمان السبق والقدم

    ولم تقم منه للإنجيل قائمة     كأنه الطيف زار الجفن في الحلم

    أمَّا بَعْد:

    فكنا مع الفاتحة، ولا نزال معها أبداً إن شاء الله, يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:1-7] وصلنا في هذا الدرس إلى قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].

    وهذا الدرس اسمه "في ظلال إياك نعبد وإياك نستعين" وهذه الكلمة هي ملخص لرسالته عليه الصلاة والسلام, لما أنزل الله الكتب السماوية: التوراة والإنجيل والزبور والقرآن, جمعها في المفصل, ثم جمعها في الفاتحة, ثم جمعها في قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] وفي هذه الآية ثمان قضايا:

    الأولى: إياك بالتشديد أو بالتخفيف, وما الفرق بين إياك , واياك.

    الثانية: لماذا قدم الضمير فقال: إياك نعبد ولم يقل: نعبد إياك؟

    الثالثة: لماذا جمع نعبد ولم يقل: أعبد؟

    الرابعة: ما معنى العبادة؟ وما أقسامها؟ وما أقسام العباد؟

    الخامسة: أنواع العبادة.

    السادسة: أخبار العباد، في رحلة شائقة مع العباد الذاكرين, والصائمين والمصلين, والقائمين الليل من السلف الصالح.

    السابعة: الاستعانة بقسميها الاثنين.

    الثامنة: الناس في العبادة والاستعانة أقسام, سوف أذكرها إن شاء الله.

    (إياك) بالتشديد والتخفيف والفرق بينهما

    فتقرأ (إيّاك) بالتشديد, ومن قرأها (إِيَاك) فقد أخطأ خطأً بيناً, وقد ذهب بعض القراء إلى أنها تقرأ (إِيَاك) بالتخفيف وليس (إِيّاك) وهذا خطأ؛ لأن (إياك) هي الشمس, فمن أسماء الشمس: إياك, فإذا نطقها القارئ (إياك) فمعناها: الشمس نعبد, وهو خطأ في القراءة, بل لا بد من التشديد فتقول: إيّاك نعبد وإيّاك نستعين, بالتشديد.

    وتغيير الحركات تقلب المعاني, ومن لم يتنبه إليها فإنها توصله إلى تغيير الألفاظ, بل وقع في تغيير بعض الكلمات أن أودت ببعض الرءوس, فبعض السلاطين كتب في كلمة له فقلبت الحركات والسكنات فأعدمت رءوس وأنفس؛ لأنها أزيلت حركات وسكنات, أما (إيّاك) فهي القراءة المطلوبة، التفت الخطاب هنا من الغائب إلى الحاضر, يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين) خطاب للغائب, (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) خطاب للغائب, (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) خطاب للغائب, (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) خطاب للحاضر المشاهد, وهو للتعظيم، وكأن المصلي يوم وجه وجهه إلى الله عز وجل كأنه يكلم ربه, ويناجيه, وهو الصحيح, وفي الحديث الصحيح: {إن أحدكم إذا قام يصلي فإنه يناجي ربه، فلا يبصقن أمامه} فأنت يوم تقول: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) تناجي ربك، وتخاطب مولاك جل وعلا.

    لماذا قدم الضمير فقال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ولم يقل: نعبد إيّاك؟

    أما لماذا قدم الضمير فقال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ولم يقل: نعبد إيّاك؟ فللحصر والاهتمام, تقول: إيّاك أريد, ولا تقول: أريد إيّاك, فإذا قلت: إيّاك أريد فكأنك تنبهه أي: انتبه فإني أريدك أنت لا أريد غيرك, و(إيّاك أريد) وهي أبلغ عند أهل اللغة من: أريد إيّاك, وأقصر كتاب في التاريخ, كتبه خالد بن الوليد سيف الله المسلول, لـعياض بن غنم وهو قائد آخر, يوم اجتمع على خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه أهل الباطل بالجيوش فضاقت على خالد بن الوليد بما رحبت, لكنه لجأ واستعان بالواحد الأحد.

    فالزم يديك بحبل الله معتصماً     فإنه الركن إن خانتك أركان

    فلما طوقته الجيوش أرسل لـعياض بن غنم رسالة هي أقصر رسالة في التاريخ قال: (بسم الله الرحمن الرحيم, من خالد إلى عياض إيّاك أريد والسلام) يقول: أدرك الموقف, فهو موقف خطير, من خالد إلى عياض إيّاك أريد والسلام, وهو يوم قصّر الخطاب, معناه انتبه وأدرك وإلا لن تدرك, فنحن في مأزق, فهذا أقصر خطاب.

    وتقديم قدم (إيّاك) في الآية يقيد الاختصاص, أي: إيّاك نعبد وحدك, وإن قلت: نعبد إيّاك فربما يحتمل أن يكون مع الله معبود غيره, سبحان الله عما يشركون, لكنك إن قلت: إيّاك وحدك نعبد, إيّاك وحدك نستعين, وإيّاك وحدك ندعو, فهو للحصر والاهتمام.

    لماذا جمع (نعبد) ولم يقل: أعبد؟

    إن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يحب اجتماع الناس, ويحذر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من الفرقة, ويد الله مع الجماعة, قال سبحانه: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105] وقال: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] وأمرنا بصلاة الجماعة, وهوّن عليه الصلاة والسلام من شأن صلاة المنفرد وحده, وذكر أن صلاة الجماعة تفوق على صلاة المنفرد بسبع وعشرين, والصلاة خلف الصف قال فيها صلى الله عليه وسلم: {لا صلاة لمنفرد خلف الصف}.

    فقول المصلين: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) أي: جميعاً كلنا لك عبيد, أما إذا قلت: إيّاك أعبد, كأن فيها أنانية وانحياز, وكأن فيها انفراد, {وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية} وإذا خلا العبد خلا به الشيطان وذم عليه الصلاة والسلام في الإنفراد، وفي حديث في سنده نظر: {يا ثوبان إيّاك والكفور -أي: السكن في القرى- فإن ساكن الكفور كساكن القبور}, قال الإمام أحمد: [[الكفور هي القرى, لأن فيها وحشة, وبعد عن مجالس الخير والذكر, وعن العون على الطاعة]] ولذلك تجد البدو غالباً من أجهل الناس في الأحكام, قال تعالى: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:97].

    فإذا عُلم هذا فالله يحب الجمع, ولذلك كانت صلاة الجمعة ويوم عرفة من أفضل المواسم للدعاء وذلك لاجتماع الناس, وفي الحديث: {ما رئي الشيطان في يوم أغيظ ولا أدحر من يوم عرفة} , وابن القيم يقرر أن القلوب إذا اجتمعت كان ذلك سبباً من أسباب استجابة الدعاء, فاغتنم اجتماع الناس, ويكفي هذا الشعار: إيّاك نعبد أي: كلنا يا ربنا, قال أبو تمام في اجتماع المسلمين:

    إن كيد مطرف الإخاء فإننا      نغدو ونسري في إخاء تالد

    أو يختلف ماء الوصال فماؤنا      عذب تحدر من غمام واحد

    أو يفترق نسب يؤلف بيننا      دين أقمناه مقام الوالدِ

    وصح من حديث جابر قال: {كنا إذا نزلنا في غزوة تفرقنا تحت الشجر وتركنا أكبر شجرة للرسول صلى الله عليه وسلم, فأنذرنا عليه الصلاة والسلام وقال: ما لكم! اجتمعوا فكنا نجتمع حتى لو طرح البساط علينا لكفانا}.

    وفي حديث أنه عليه الصلاة والسلام دخل المسجد فوجدهم حلقاً, حلقة هنا, وحلقة هنا, وحلقة هناك, قال: {ما لي أراكم عضين -أو عزين- اجتمعوا} فجمعهم عليه الصلاة والسلام، وخرج أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه الذي مزقت همته وعزيمته والعمل الصالح بخنجر الغدر.

    مولى المغيرة لا جادتك غادية      من رحمة الله ما جادت غواديها

    مزقت كل إهاب حشوه همم      في ذمة الله قاصيها ودانيها

    قل للملوك تنحوا عن مناصبكم     فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها

    فدخل المسجد فوجدهم فرقاً، فجمعهم وراء أبي بن كعب سيد القراء.

    وأقف قليلاً مع سيد القراء, وقد ذكرته في مناسبات لكن لا بأس بذكره هنا:

    أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره      كما المسك ما كررته يتضوعُ

    أبي بن كعب يقول عنه أهل التراجم: كان أبيض اللحية, أبيض الرأس من الشيب, أبيض الوجه, أبيض الثياب, أبيض القلب, نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النور:35] , سبب بياض لحيته ورأسه أن الحمى اشتعلت في جسمه ثلاثين سنة, لكنه لم يتعطل عن جهاد ولا فريضة ولا عن حج, كان إذا اقترب منه الشخص وجد الحرارة, وكان لا ينام من الليل إلا القليل؛ لأن من بعد صلاة العشاء كانت تزوره الحمى, والحمى فيها حياء تستحي لا تزوره إلا في الليل, كما يقول المتنبي:

    وزائرتي كأن بها حياءً      فليس تزور إلا في الظلام

    بذلت لها المطارف والحشايا     فعافتها وباتت في عظامي

    فكان يسهر إلى الفجر, وكان عمر ينتبه له إذا ورد, وقال له أحد أهل العراق: من هذا الذي تنظر إليه إذا تكلمت يا أمير المؤمنين؟ قال عمر: ثكلتك أمك, هذا سيد القراء أبي بن كعب. فجمعهم عمر وراءه في صلاة التراويح, فلما مر عمر وهو يقرأ بهم وهم يتباكون وقد استقاموا على العصي من طول قيامه, تبسم عمر وقال: [[نعمة البدعة هذه]] يعني البدعة اللغوية وليست البدعة الشرعية, فإن لها أصلاً في السنة, فإن الذي سنها هو الرسول صلى الله عليه وسلم.

    وفي السير أن عمر مر وأبي يقرأ في التراويح, فسمع أبياً وقد ارتفع صوته بالبكاء في سورة الصافات: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [الصافات:24-26] وكان عمر في جولة, فلماذا كان عمر يتجول؟ أيرتاح من صلاة التراويح؟ لا والله! لكنه كان يتفقد الأرامل والمساكين والأيتام والخصومة, ويرى حال المدينة ,كيف تنام العاصمة؟ أتنام على هدوء وسكون؟ أم هي قلقة؟! فلما سمع رمى العصا من يديه وانطرح على الأرض يبكي, وحُمِلَ على أكتاف الرجال وبقي شهراً مريضاً من هذه الآية رضي الله عنه وأرضاه.

    فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ولم يقل: إياك أعبد؛ لأن هذه فيها أنانية وانفراد, والله يحب الجمع، ويد الله مع الجماعة.

    ما معنى العبادة؟

    العبادة تطلق على معنيين:

    1- معنى العبادة اللغوي:

    وهي التذلل والخضوع والطاعة, يقال: طريق معبد أي: طريق مذلل, فتعبد: خضع وذل, وإنما سمي العبد عبداً؛ لأنه خضع وذل, قال الشاعر:

    أطعت مطامعي فاستعبدتني     ولو أني قنعت لكنت حرا

    قال ابن تيمية: المأسور من أسره هواه، فهذا المقيد والمكبل, وليس المأسور الذي سجن في السجن، إن المأسور الذي قيده هواه من حب الشهوة والمعصية والجريمة, هذا هو المأسور الذي وضع الغل والحديد في يديه. إذاً العبادة معناها في اللغة: التذلل والخضوع والطاعة.

    2- معنى العبادة في الشرع:

    تطلق على معنيين في القرآن: على الدعاء وعلى مجرد العبادة, قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60] أي: عن دعائي, وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً [الأعراف:55] هذا هو المعنى الأول للعبادة أنها بمعنى الدعاء.

    والعبادة تشمل الدعاء وغيره من أنواع العبادات, وعند الترمذي: {الدعاء مخ العبادة} وهو حديث ضعيف، في سنده دراج أبو السمح , يروي عن أبي الهيثم , وأحاديثه ضعيفة عن أبي الهيثم , وإنما الصحيح: {الدعاء هو العبادة} وهذا عند الحاكم في المستدرك , فإذا رأيت الإنسان يكثر الدعاء, فاعلم أنه قريب من الله, وأن إيمانه كثير.

    قالوا عن إبراهيم عليه السلام في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود:75] قالوا: كان كثير الدعاء, وقالوا: كان يقول: أواه من ذنوبي.. أواه من خطئي.. أواه من تقصيري وإسرافي.. وقيل: كان يدعو الله دائماً: قائماً وقاعداً.

    دخل رجل على قيس بن سعد بن عبادة بن دليم , وهذا السند, سند الكرماء عند العرب, فـقيس من أكرم العرب, وسعد من أكرم العرب, وعبادة من أكرم العرب, ودليم من أكرم العرب, ولم يجتمع في العرب أربعة من أكرم الناس إلا هؤلاء الأربعة.

    سندٌ كأن عليه من شمس الضحى      نوراً ومن فلق الصباح عمود

    يذكر ابن كثير: أن رجلاً دخل على قيس فوجد أصبعه السبابة لا تفتر, قال: تعشيت عنده, وسامرت معه, فلما أردت الانصراف سألته: ما حال أصعبك؟ قال: أدعو بها الله دائماً. ولذلك هداه الله سواء السبيل وكان من الموفقين في حياته.

    والذي يكثر من الدعاء لن يهلك أبداً, قال عمر: [[لن يهلك مع الدعاء أحد]] وقال أحد علماء الجزائر أيام الثورة في الجزائر: "رأيت عمر بن الخطاب في المنام فقلت: ما هي النجاة يا أبا حفص؟ فرفع يديه هكذا -أي: الدعاء-, وفي الترمذي قوله صلى الله عليه وسلم: {أفضل العبادة انتظار الفرج} فلا تزال تدعو الله حتى يفرج الله كربتك.

    وفي الحديث الصحيح: {لا يقولن أحدكم: دعوت فلم يستحيب لي} أو كما قال صلى الله عليه وسلم, ولا يجوز لك في الدعاء أن تقول: اللهم اغفر لي إن شئت.. اللهم ارحمني إن شئت.. اللهم أصلحني إن شئت.. هذا خطأ, بل قل: اللهم ارحمني, يقول عليه الصلاة والسلام وهو حديث صحيح: {لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت, فإن الله لا مكره له، لكن ليعزم المسألة} , لكن يجوز لك في المواعيد أن تقول: آتيك غداً إن شاء الله, قال تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24] سوف ألقاك إن شاء الله, سوف أتصل بك إن شاء الله، أما في الدعاء فاعزم المسألة ولا تتردد، فإن الله لا مكره له.

    أنواع العبادة

    وهي تدور على أنواع كثيرة, لكن أكثر ما يذكر في القرآن والسنة أربعة أنواع: الصلاة, والصيام, والصدقة, والتلاوة.

    وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص كما في الصحيحين وكان عبد الله قد شدد على نفسه رضي الله عنه وأرضاه, فكان يقوم الليل كله, ويصوم النهار سرداً, فشكاه أبوه إلى المصطفى عليه الصلاة والسلام؛ فأرسل غليه، ثم نازله عليها حتى قال: اختم القرآن في سبع, وصم من كل شهر ثلاثة أيام, قال: أستطيع أكثر من ذلك, قال: صم يوماً وأفطر يوماً فهو صيام الدهر, وهو صيام داود عليه السلام}.

    قال ابن القيم في طريق الهجرتين كلاماً معناه أن للجنة أبواباً ثمانية، والعباد يختلفون بجهدهم وطاقاتهم, منهم من يستطيع الذكر, ومنهم من يقدر على الصيام, ومنهم من يفلح في الصدقة قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ [البقرة:60] فأنت أعرف بنفسك, وأفضل الناس من ضرب في كل غنيمة بسهم, مع الصائمين ومع المصلين ومع الذاكرين ومع المجاهدين ومع المتصدقين، قال تعالى: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].

    أما أنواع العبادة فهي كثيرة منها الفرائض ومنها النوافل, وهي تصل إلى السبعين, بل في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة , يقول عليه الصلاة والسلام: {خمس عشرة خصلة أعلاها منيحة العنز, ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها, وتصديق موعودها إلا أدخله الله الجنة} قال الراوي في البخاري: فعددنا فما وصلنا إلا إلى خمس، منها تبسمك في وجه أخيك, وإماطة الأذى عن الطريق, والكلمة الطيبة إذا نويت بها ما عند الله دخلت بها الجنة, فأعمال الخير كالأنفاس, وأفضل الأعمال بعد الفرائض ذكر الله عز وجل, وهو شبه إجماع كما قال ابن تيمية في المجلد العاشر من فتاويه.

    أخبار العباد

    هذا الدرس سوف يكون أقرب إلى الآيات والأحاديث والسيرة منه إلى بعض الخلافيات, وإذا كان الأمر كذلك, فإن سير الصالحين أحسن ما يؤخذ في هذا الباب, وأنا أدل نفسي وإخوتي على مطالعة أخبار الصالحين كـالأسود ومسروق وأحمد ومالك وابن المبارك , وهؤلاء الملأ بعد الصحابة كانوا في انقطاع مع الله عز وجل ومتبتلين له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

    وأنا إذا ذكرت نماذج فإني ألزم نفسي وإياكم أن تجعلوها على السنة, فإن وافقت فبها ونعمت, وإن خالفت فاعلموا أنه اجتهاد من أصحابها الذين يريدون الخير.

    1- الأسود بن يزيد:

    أما الأسود بن يزيد فهو عابد عراقي, عالم, صام حتى اخضر جلده, ودخل عليه العلماء ووعظوه، قال: أصوم قبل أن يحال بيني وبين الصيام وأخاف من قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ [سبأ:54] من يصوم عني إذا لم أصم؟! ومن يصلي عني إذا لم أصل؟! أي: إذا مات.

    2- محمد بن واسع:

    ومنهم محمد بن واسع الأزدي كان من أعظم عباد الله عز وجل, قربوا له متكأً ليتكئ, فقالوا: اتكئ, قال: لا يتكئ إلا الآمن، وأنا خائف لأني ما جزت الصراط إلى الآن.

    محمد بن واسع حضر معركة كابول مع قتيبة بن مسلم حاصر كابول التي ضاعت عندما ضاعت لا إله إلا الله, فلما طوقوا المدينة بمائة ألف, قال قتيبة بن مسلم وقد صفت الصفوف, وهبت رياح النصر, وتنزلت الملائكة من السماء، قال لجنوده: اذهبوا وابحثوا عن محمد بن واسع، أين هو؟ وماذا يفعل في هذه الساعة؟ فذهبوا إليه فوجدوه وقد صلّى صلاة الضحى وقد اتكأ على رمحه, ورفع سبابته إلى السماء؛ يدعو الله الواحد الأحد بالنصر, فرجعوا إلى قتيبة , فأخبروه، فدمعت عيناه, وقال: [[والذي نفسي بيده لأصبع محمد بن واسع خير عندي من مائة ألف سيف شهير, ومن مائة ألف شاب طرير]] ثم فتح الله عليهم بنصره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وبتأييده, ثم بدعاء هذا الرجل الصالح, فلما أتت الغنائم سلموا لـقتيبة رأساً كرأس الثور من الذهب, فقال لوزرائه: أترون أحداً من الناس يسلم إليه هذا الذهب فيقول: لا؟ قالوا: لا نرى أحداً يسلم إليه هذا فيقول: لا! قال: والله لأُرينكم أناساً من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، الذهب والفضة أرخص عندهم من التراب, فدعوا محمد بن واسع فأتوا إليه وهو يصلي في خيمته, قالوا: ما لك تصلي في وقتٍ الناس فيه مشغولون بالنصر؟ قال: إن شغل النصر الشكر, فدعوه إلى قتيبة فأتى إلى قتيبة فقال قتيبة: خذ هذا, فأخذه, فتغير وجه قتيبة فقال لأحد جنوده: اذهب وراءه وانظر أين يضعه, ثم قال قتيبة اللهم لا تخيب ظني فيه, فمر فقير من المساكين يسأل فأعطاه محمد بن واسع كل هذا الذهب, فأعيد الفقير إلى قتيبة، وقال: أترون أنني أريتكم أن في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من عند الذهب والفضة أرخص من التراب!

    3- مسروق:

    ومنهم مسروق , أتى رجل إلى الإمام أحمد من طلبة العلم والحديث, فجهز له الإمام ماءً ليقوم الليل! قبل السحر فلم يقم, فقال له الإمام أحمد: لم لم تقم؟ قال: أنا مسافر, قال: طالب علم ولا يكون له ورد في الليل! سبحان الله! حج مسروق فما نام إلا ساجداً, مسروق بن الأجدع عراقي, من تلاميذ ابن مسعود الكبار, حج من يوم ذهب من العراق إلى أن رجع, كان إذا أتاه النوم توضأ واستقبل القبلة ونام وهو ساجد.

    وما عرف في العبادة مثله، منقطع النظير, حتى كانت ابنته تبكي بجانبه، وتقول: يا أبتاه هل قتلت أحداً؟ هل أخذت مال أحد؟ وهو يصلي ويبكي في الليل, فيلتفت ويقول: قتلت نفسي.

    4- أحمد بن حنبل:

    ومنهم أحمد بن حنبل صح عنه بأسانيد, أنه كان يصلي في كل يوم ثلاثمائة ركعة, قال ابنه عبد الله: فلما جلد كان يصلي مائة وخمسين ركعة.

    5- ابن المبارك:

    ومنهم ابن المبارك سئل كما في سير أعلام النبلاء: قال له رجل: ما رأيك أن أصوم يوماً وأفطر يوماً؟ قال: أنت تضيع نصف عمرك, صم الأيام كلها.

    ولكن السنة تحكم على هذا والقصد أوْلى, لكن انظر إلى همة هذا الرجل كان يصوم الدهر، ويقول للرجل: كيف تضيع نصف عمرك؟ تفطر يوماً وتصوم يوماً, صم الأيام كلها, هذا من العباد.

    6- عبد الغني المقدسي:

    ومنهم عبد الغني المقدسي كان يصلي في اليوم ثلاثمائة ركعة وهو يبكي, وكان كلما صلّى ركعتين رجع إلى الماء ليتوضأ فتتقاطر لحيته ويداه بالماء, قالوا: ما لك وأنت على وضوء؟ قال: أنا لا يطيب قلبي ولا ينشرح صدري إلا عندما أرى قطرات الماء تنسكب من على لحيتي, فهو يحب العبادة.

    سجنه السلطان في القدس وهو محدث الدنيا صاحب الكمال في معرفة الرجال. سجن في القدس مع المساجين وكانوا من اليهود والنصارى فلما كان بعد صلاة العشاء, قام فتوضأ فقام يصلي من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر وهو يبكي, فلما أتى الصباح وقف اليهود والنصارى من المحبوسين مدهوشين مذهولين, فطرقوا الباب على الحارس, قال: ما لكم؟ قالوا: نريد أن نسلم, فذهب بهم إلى السلطان، فقالوا: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, قال: ما لكم؟ قالوا: مرت بنا ليلة رأينا كأن القيامة قامت, قال: ولم؟ قالوا: حبس معنا عبد الغني المقدسي , فقام يصلي ويبكي فذكرنا لقاء الله فوقع الإسلام في قلوبنا, وهو ما تكلم بكلمة لكن بفعله.

    حضر السلاطين في مجلسه فقام يقرأ الحديث فقطعه البكاء, فأخذ المسجد يبكي, وبكى كثير من سلاطين الأكراد أسرة صلاح الدين الأيوبي , ونور الدين محمود , هؤلاء حضروا درسه, وكان درساً عاطراً هائلاً ما سمع في التاريخ بمثله.

    هذا من أخبار العباد, أو شيء من أخبارهم على قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.

    أقسام الاستعانة

    هي قسمان: قسم جائز, وقسم محرم, فاستعانتك بالشخص هي على قسمين: قسم يحرم أن تستعين بالمخلوق لأنه ناقص وقاصر، قال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً [الفرقان:3] فمثلاً إذا استعنت بالرجل تقول: استعين بك على أن تشافي ابني لأنه مريض, فقد أشركت بالله العظيم, وإذا قلت: أستعين بك على أن ترزقني, أو على أن تغفر ذنبي, أو على أن تنزل علينا الغيث فهذا هو الشرك, وهذا لا يتقبل الله عمل من فعل ذلك.

    وأما الاستعانة بما يستطيع عليه المخلوق فجائز, مثل قولك: أستعين بك أن تفتح لي هذا الباب, أو على أن تخيط لي هذا الثوب, أو على أن تبني هذا الجدار.. فلا بأس فيما يستطيعه المخلوق, أما ما لا يملكه إلا الخالق فمن استعان بالمخلوق فيه فقد أشرك بالله العظيم.

    ومن مثل ذلك, من يذهب إلى القبور فيستعين بالمقبورين, ويقدم لهم حوائجهم, ويشكو عليهم, فقد أشرك بالله العظيم, لأنهم لا يملكون ضراً ولا نفعاً, ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.

    أما الاستعانة بالله عز وجل ففي كل الأمور, وهو المستعان سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, في كثير من القصص كما قال في قصة يعقوب: وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18].

    أقسام الناس في العبادة والاستعانة

    أما الناس في العبادة والاستعانة فهم أقسام:

    القسم الأول: قسم يعبد الله ويستعين به فهؤلاء المؤمنون الكُمَّل.

    القسم الثاني: قسم يعبد الله ويستعين بغيره فهؤلاء فيهم نقص وفيهم معصية وذنب.

    القسم الثالث: قسم يعبد غير الله, ويستعين بالله, فهؤلاء المشركون.

    القسم الرابع: قسم يعبد غير الله, ويستعين بغير الله فهؤلاء كفرة ملاحدة, هذا أمر التقسيم وأحسنها من يعبد الله ويستعين به, فالله حصر الكلمتين لتبقى هاتان الكلمتان مبدأين للمؤمن, العبادة لله والاستعانة بالله, (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088525319

    عدد مرات الحفظ

    777128509