إسلام ويب

العلماء ما لهم وما عليهمللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تحدث الشيخ عن فضل العلم والعلماء، وعن حق العلماء على الأمة، وحق الأمة على العلماء، فبين أهمية العلم ورفعته، ومكانة العالم، وطاعة العلماء، وبعض آفات العلم.

    وفصل القول فيما يجب للعلماء وما يجب عليهم، وذكر أن علماء بني إسرائيل لم يقوموا بالوفاء بهذه الحقوق، وكان من نتائج ذلك التحريف في شريعتهم.

    الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.

    سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وحياكم الله يا طلعات الإيمان، ويا أهل الفضل، ويا أهل التوحيد، ويا أهل الحب والطموح.

    إن حضوركم هذا تأييد للدعوة، ونصرة للإسلام، وحضور تكريم للوافدين إليكم:

    أصح وأعلى ما سمعناه في الندى     من الأثر المعروف منذ قديم

    أحاديث ترويها السيول عن الحيا     عن الغيث عن كف الأمير تميمِ

    وأشكر إمام هذا المسجد الشيخ عبد الله السميعي، وأشكر جماعة المسجد، وأشكر كل من حضر وسمع وشارك بقلبه مسيرة العودة إلى الله عزوجل.

    عنوان المحاضرة: العلماء مالهم وما عليهم، وما أتيت هذه الليلة لأسرد عليكم النصوص في فضل العلم والعلماء، فهي معروفة لديكم، لكني أتيتكم في هذه الساعة، وفي هذه الأيام، وفي هذا الوقت الحرج بالذات؛ لكي نقف جميعاً، يقف العلماء في صف، ونقف نحن شباب الصحوة في صف، ونرى ما هي الحقوق التي تلزمنا للعلماء فنؤديها.

    دينٌ لعينك عندي ما وفيت به      يا طالما كذبت عيني عيناكِ

    ونقف أمام العلماء لنسألهم حقوقنا، نحن لنا حقوق وديون على العلماء، لكن بعد أن نسلمهم حقوقهم؛ نأخذ حقوقنا، ثم ننفصل في مجلس المصالحة، و(البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) فإذا تفرقا فقد وجب البيع.

    عناصر هذه المحاضرة ثلاثة:

    أولها: فضل العلم والعلماء.

    الثاني: ما هو حق العلماء على الأمة.

    الثالث: ما هو حق الأمة على العلماء.

    أما فضل العلم: فيكفي من ذلك قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: [[كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من ليس من أهله، وكفى بالجهل مذلةً أن يتبرأ منه من هو فيه]].

    العلم يدعيه كل إنسان، جهلة يدعون أنهم علماء، لشرف العلم، وقال ابن عبد البر: ومن أحسن الكلام ما قال علي بن أبي طالب: [[قيمة كل امرئٍ ما يحسنه]]؛ فقيمتك المعلومات التي في ذهنك إذا اتقيت الله وعملت بها، وقيمة المرء ليست بجسمه ولا بوزنه ولا بلحمه ولا بشحمه إنما هي بالفضل الذي يحمله، وبالمواثيق التي لله عليه إذا عمل بها.

    يقول سبحانه وهو يستشهد على ألوهيته: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18] والشاهد هنا َأُولُو الْعِلْمِ [آل عمران:18] قال ابن كثير في تفسيره: وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام، وأيُّ خصوصية أن يجعلهم الله معه ومع ملائكته يشهدون بألوهيته، فلقد ميزهم عن الناس لفضلهم ولمكانتهم. قال سبحانه: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] بعدما ذكر الله الآيات الكونية، والشرعية، وذكر ما للعلماء من منزلة، قال: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] ومفهوم المخالفة في الآية: أن غير العلماء لا يخشون الله.

    ووجد في العلم التجريبي التكنولوجي، والعلم الطبيعي المادي، أن أكثر الناس عودة إلى الإسلام من نبغ في هذا العلم، الذين ألفوا كتاب: الله يتجلى في عصر العلم؛ من العلماء البارزين أسلموا وأعلنوا إسلامهم، وهم جماعة من الأمريكان، وكثير منهم أعلن إسلامه مثل: كريسي موريسون، وأظن أن أليكسيس كارل صاحب كتاب: الإنسان لا يقوم وحده أعلن إسلامه؛ لأنه تعمق في حياة الإنسان.

    العالم المثالي

    قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9].

    والجواب مسكوت عنه، وتقديره: أنهم لا يستوون، وأن العلماء أفضل، والله يقول: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43] لا يفهم الآيات البينات، ولا يعقل مقاصد الأمور ولا تأويل الحوادث إلا أهل العلم.

    ويقول سبحانه: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49] ثم يقول سبحانه: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].

    ولسنا بحاجة يا شباب الصحوة! ويا أبطال التوحيد! ويا حملة الرسالة! لسنا بحاجة إلى أناس يحفظون النصوص، ثم لا يكون لها أثر في واقعهم، وحياتهم، وسلوكهم، وأمتهم، كما سيأتي في العناصر المقبلة إن شاء الله.

    حاجتنا إلى عالم يمشي قرآناً على الأرض، يقول سبحانه للرسول عليه الصلاة والسلام، وهو في أول الطريق: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19] قال البخاري في صحيحه: فبدأ بالعلم قبل القول والعمل، أمة متعلمة.

    هل العلم في الإسلام إلا فريضة      وهل أمة سادت بغير التعلم

    من الذي فتح منائر العقل؟!

    من الذي خاطب الضمير بالعلم إلا محمد عليه الصلاة والسلام؟!

    لما ثار الفرنسيون على الكنيسة عام (1887م)؛ كان سبب ذلك: أن الكنيسة كانت تحارب العلم، كانوا إذا اكتشف مكتشف علماً ذبحوه، أو اخترع مخترع جهازاً؛ قتلوه وشنقوه، وظنوا أن كل دين سوف يحارب العلم حتى الإسلام، ففصلوا بين الإسلام وحياة الناس، وهذا خطأ، والله عزوجل يقول للرسول عليه الصلاة والسلام: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114] لم يطالبه بالتزود من شيء إلا من العلم.

    هو العضب المهند ليس ينبو     تصيب به مضارب من أردت

    وكنزٌ لا تخاف عليه لصاً     خفيف الحمل يوجد حيث كنت

    يزيد بكثرة الإنفاق منه      وينقص إن به كفاً شددت

    وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ والإِيمَان [القصص:80] يوجد في الساحة علم بلا إيمان، عندنا دكاترة يحملون رسالة الدكتوراه، لكن لا يصلون الفجر في جماعة!! وعندنا دكاترة قطعوا أرحامهم، ودكاترة استهزءوا بالدين، ودكاترة تهجموا على شباب الصحوة والملتزمين، ودكاترة تجرءوا على اقتحام الشريعة!! أين العلم؟!! يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7] وقال تعالى: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ [النمل:66].

    إذا ما لم يزدك العلم خيراً      فليتك ثم ليتك ما علمتا

    وإن ألقاك فهمك في مهاوٍ     فليتك ثم ليتك ما فهمتا

    مشيت القهقرى وخبطت عشوى     لعمرك لو وصلت لما رجعتا

    وإذا لم يصل الأستاذ إلى اليقين، كيف يستمر؟ ولذلك يقول الناظم:

    لعلك يا أستاذ ما زرت أحمدا     رسول الهدى المبعوث من خير هاشمِ

    فوالله لو قد زرته الدهر مرة     لما كنت نهباً للقصور القشاعمِ

    لما انفصل العلم عن الإيمان، صار العلم طاغوتاً يُعبد من دون الله.

    نشرت جريدة الهدف قبل اجتياح الكويت في افتتاحيتها مقالاً تقول: امرأة فنزولية تلد كلباً، ووجد أنه صحيح، عقموا المرأة بمني كلب!! وهل هذا يجوز في الإسلام؟

    إنه حرام بالإجماع!! لكنهم ما سألوا الإيمان، عندهم علم، فاخترعوا وتطورا وتقدموا لكن ما ضبطوه بالإيمان، والله تعالى يشترط في العالم أن يكون مؤمناً: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ [الروم:56].

    غيث الرسالة

    أيها الفضلاء! يقول عليه الصلاة والسلام، وهو يصف رسالته، ودعوته، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث}.

    أي أسلوب؟! وأي فصاحة؟! وأي إبداع؟!

    قال: الهدى والعلم، لماذا؟

    أليس العلم هدى؟

    بلى.

    أليس الهدى علم؟

    بلى.

    لماذا فصل العلم عن الهدى؟

    لأن العلم هو العلم النافع كما قال ابن تيمية، والعمل: هو العمل الصالح.

    {كمثل الغيث} وقال الغيث لمعنيين:

    الأول: أن الغيث صافٍ من السماء، ينزل على القلوب.

    والثاني: أن الغيث فيه غوثٌ للأرواح، فرسالته عليه الصلاة والسلام كالغيث للأرواح.

    أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له      وأنت أحييت أجيالاً من الرممِ

    أنا وأنت، وأبي وأبوك، وجدي وجدك، كنا رعاة إبل وغنم، حتى أتى محمدٌ عليه الصلاة والسلام، فقال: استيقظوا فاستيقظنا، وقال: افتحوا الدنيا بلا إله إلا الله فكبرنا وفتحنا بالعلم، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولكن فجر حصائل العقول بمفاتيح العلم، فسرت في غياهب الدياجير تبني بدوراً في سماء الفضل.

    وفي الصحيح عن معاوية رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} ومفهوم المخالفة، وهو ليس حجة عند الأحناف، لكن مفهوم المخالفة حجة عند الجمهور: أن من لم يرد الله به خيراً لا يفقهه في الدين.

    أنت الآن تجد العلمانيين عنده شهادة دكتوراه في هندسة التربة، وعنده دكتوراه في مرض الدوسنتاريا في البقر، وعنده دكتوراه في السرطان في الحمير، لكن لا يعرف الوضوء ولا التيمم ولا المسح على الخفين، لماذا؟

    لأن الله ما أراد به خيراً، فهو يفقه كل شيء إلا الإسلام، موسوعةٌ في كل شيء إلا في صحيح البخاري وصحيح مسلم والفقه والتفسير؛ لأنه يعلم علماً ظاهراً ولا يعلم علماً باطناً.

    وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر}.

    يا أيها الإخوة! ما هو ميراثه عليه الصلاة والسلام؟ أين قصوره؟ أين دوره؟

    كفاك عن كل قصرٍ شاهق عمد     بيتٌ من الطين أو كهفٌ من العلم

    تبني الفضائل أبراجاً مشيدةً     نصب الخيام التي من أروع الخيم

    إذا ملوك الورى صفوا موائدهم     على شهيٍ من الأكلات والأدم

    صففت مائدة للروح مطعمها     عذبٌ من الذكر أو هديٌ من الكلم

    نقف وهذه الليلة الخالدة نحن والعلماء أمام الله، ثم أمام الناس، ثم أمام البلاد، لنسألهم هل أنقصنا من حقهم شيئاً؟

    ونسأل حقنا عندهم؟ ولعل الله أن يؤلف بين الشبيبة والرواد، وبين الرواد والشبيبة ليصلح الحال.

    رفعة منزلة العلماء

    والعلم من فضله يرفع الفقير، ويعلي المسكين، ويجعل المولى سيداً، فهذا عطاء بن أبي رباح مفتي الدنيا، نادى سليمان بن عبد الملك: لا يفتي في المواسم إلا عطاء بن أبي رباح؛ كان عبداً، أشلَّ، أفطس، ضعيف البنية، هزيلاً، أحنف، لكن حمل علماً! فكان الخلفاء والأمراء يأخذون طريقهم في الدور ليسألوه سؤالاً.

    وكان ابن أبي الجعد مولىً عند سيده، فأعتقه، وقال له سيده: ما أعتقتك حباً فيك، لكنك لا تحسن تجارة، ولا نساجةً، ولا خشابةً، فعليك بالعلم، قال: فطلبت العلم، فاستأذن عليَّ أمير المدينة أن يزورني بعد سنة فما أذنت له.

    كان مشغولاً، طرق عليه الباب أن يأذن له، فما أذن له.

    لماذا رُصِدَ لـابن تيمية هذا الرصد العالمي الهائل، فقد ألف فيه أكثر من أربعين كتاباً من الغرب، أما الشرق فمئات الكتب، لماذا رصد له؟ ألمنصبه؟

    لا. ليس معه منصب! ما تولى ابن تيمية منصباً أبداً.

    ألتجارته؟

    ما عنده إلا ثوب وكسرة خبز.

    ألأسرته؟

    لا. أسرته لا تستطيع تحميه.

    لكن للعلم الذي حمله، وللعمل الذي قام به، والإنتاج الهائل الذي قدمه للأمة عليه رضوان الله.

    تقدم شاعراً فيهم خطيباً     ولولاه لما ركبوا وراءه

    هذه بعض اللمحات.

    يسجن الإمام أحمد من أجل فتنة القول بخلق القرآن، يأبى ذلك ويرفض فتبقى الأمة في الشوارع وتملأ سكك بغداد.

    يقول الخليفة للناس: ادخلوا البيوت؟

    قالوا: لا ندخل البيوت والإمام أحمد في السجن.

    قال: أنصتوا؟

    قالوا: لا ننصت حتى نسمع أحمد.

    أخرج المعتصم جيشاً يطوقُ الطرقات، وأعلن حالة استنفار في جيشه الذي حطم به الروم، وهزم به أهل عمورية، وأحرق المدن، يريد أن يطوق هذا الهيجان الإيماني فيأبون، يقولون: نريد أن نسمع كلام أحمد أولاً.

    يا عباد الله! قالوا: عباد الله حتى نسمع كلام أحمد، فيقول أحمد الكلمة فتخرج الأمة معه، وينتصر الحق، ويثبت المنهج الرباني، ويكون الرصيد العالمي للإمام أحمد أنه رجل عامة، كما سأذكر ذلك إن شاء الله.

    يقول الشاطبي في الاعتصام: وذلك أن الجميع اتفقوا على اعتبار أهل العلم والاجتهاد سواء ضموا إليهم العوام أم لا. فهم أهل الاجتهاد، وهم أولو الأمر، وهم أهل الريادة والقيادة العلمية، ولا عبرة بغيرهم.

    وقال ابن تيمية في كتاب الفتاوى (4/97): وعيب المنافقين للعلماء -كالعلمانيين- بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قديم، من زمن المنافقين الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأما أهل العلم، فكانوا يقولون: هم الأبدال لأنهم أبدال الأنبياء وقائمون مقامهم.

    وهناك حديثٌ في الأبدال لكني إلى الآن أتتبع طرقه ولم أرَ أنه صحيحٌ ولو أن بعض المحدثين المتأخرين يصححونه، لكن الأبدال هم أبدال الأنبياء الذين يخلفونهم في حمل الرسالة، وحمل العقيدة، وتقديمها للأمة هؤلاء هم الأبدال.

    وقال ابن القيم في إعلام الموقعين (1/9): فقهاء الإسلام ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام، الذين خصوا باستنباط الأحكام، وعنوا بضبط قواعد الحلال والحرام، فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء؛ بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب.

    طاعة العلماء

    أيها الأحباب! هذه مكانة العلماء، أن يطاعوا بأمر الله، إذا قالوا نفذ أمرهم، لكن إذا قالوا عن الكتاب والسنة لا بآرائهم، إذا اتقوا الله، إذا قالوا كلمة الحق، إذا تقدموا وأنكروا المنكر، حينها لزم على الأمة أن تطيعهم في طاعة الله.

    وقال الشافعي في الرسالة: فإن من أدرك علم أحكام الله تعالى في كتابه نصاً واستدلالاً، ووفقه الله للقول والعمل بما علم منه، فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الريب، ونورت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] متى تكون إماماً؟

    بم تنال الإمامة في الدين؟

    بالصبر واليقين. من تعلم وعمل فهو الرباني، وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79].

    وقال البخاري في الصحيح: باب (انحسار العلم وقلة العلماء) وذكر انقباض العلم، وقال: كيف يقبض العلم؟ وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: [[أن انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خشيت اندراس العلم، وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً]]. ثم أورد حديث ابن عَمْرو الصحيح: {إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا}. أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

    آفات العلم

    أيها الإخوة! هذا فضل العلم، ولكن تدخل على العلماء وعلى طلبة العلم آفات وأخطر الآفات ثلاث:

    الكبر، الرياء، الحسد.

    عقارب طلبة العلم، وحيات العلماء ثلاث:

    الكبر، والرياء، والحسد، أعاذنا الله من ذلك.

    أما الرياء: فقال الرسول عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: {من راءى راءى الله به، ومن سَمَّعَ سَمَّعّ الله به} {أول من تسعر بهم النار ثلاثة، ومنهم: عالم تعلم العلم ليقال: عالم، وقد قيل، قال: فخذوه إلى النار}. وهذه آفة، لا يدركها إلا الفطناء من المخلصين، وهي خطورة عظيمة تتصدى لطلبة العلم، وتقف لهم بالمرصاد.

    المسألة الثانية: الكبر.

    والكبر آفة عظيمة، ومن تكبر على الله وضعه، وحقيقٌ بمن حمل الكبر أن يذله الله عزوجل، وألا يجعل له قبولاً، وإنه مزرٍ مزرٍ ولكن بالعلماء أزرى وأزرى.

    والعالم إذا تكبر، وقبض جبينه، وتكبر على عباد الله، وارتفع عليهم، انسلخت محبته من القلوب، وذهبت بشاشته وملاحته، وما أحبته الأرواح، وما انقاد له الناس، وأصبح مبغوضاً في أوساطهم، وهذه سنة الله في المتكبرين.

    يقول أحد الشعراء في المتكبرين:

    وجوههم من سواد الكبر عابسةٌ     كأنما أُوردوا غصباً إلى النار

    هانوا على الله فاستاءت مناظرهم     يا ويحهم من مناكيد وفجار

    ليسوا كقوم إذا لاقيتهم عرضاً      أهدوك من نورهم ما يتحف الساري

    تروى وتشبع من سيماء طلعتهم      بذكرهم ذكروك الواحد الباري

    قال ابن الجوزي في تلبيس إبليس عن هذه الآفات، وعن أصحاب الحديث: إن بعضهم يقدح في بعض؛ طلباً للتشفي، ويخرجون ذلك مخرج الجرح والتعديل، الذي استعمله القدماء في هذه الأمة للذب عن شرع الله، والله أعلم بالمقاصد.

    أكثر غيبتنا الآن في الجرح والتعديل، تغتاب فلاناً فأقول: استغفر الله، فيقول: ليس قصدي أن أغتابه، إنما قصدي أن أخبر الناس به، الحاج موسى وموسى الحاج، أنت ما قصدت إلا غيبته، بل بعض الاستغفار والدعاء غيبة، كما إذا ذكر لك رجل، وقال: ما رأيك في فلان؟ فتقول: استغفر الله. فهل تستغفر من الذنب؟! إنك تطعنه بالخنجر من الاستغفار، وهذا عيب على طريقة الذاكرين.

    ومنها: الغيبة إذا ذكر لك رجل، قلت: هداه الله، وما قصدك الدعاء لكنك تقصد شيئاً فطلبت الدعاء له، وقد نبه على ذلك شيخ الإسلام في منشور من الفتاوى موجود.

    وذكر الغزالي في الإحياء: عن الحسن قال: (عقوبة العلماء موت القلب). نعوذ بالله من موت القلب، وموت القلب طلب الدنيا بعمل الآخرة، إظهار التزهد وهو يريد أن يجمع الدنيا، ويستولي على المناصب، ويجمع الدنانير والدراهم، وأن يترك رسالته.

    عجبت لمبتاع الضلالة بالهدى     ومن يشتري دنياه بالدين أعجب

    وأعجب من هذين من باع دينه     بدنيا سواه فهو من ذين أعجب

    وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:175-176]. نزلت هذه الآيات في عالم من بني إسرائيل، وهذا قياسٌ يطرد في كل عالم ترك منهج الله، وترك الدعوة إلى الله، وأخلد إلى حطام الدنيا، وكتم علمه، ولم ينكر المنكر، ينسلخ من قداسة العلم، ومن شرعية الكلمة، فللكلمة شرعية.

    لكن لا يحملها إلا العلماء، شرعية الكلمة، متى يقول، فيسمع له، إذا حمل جلباب العلم، وكأس العلم، وسيف العلم.

    قال ابن الجوزي في صيد الخاطر (ص:442): (وينضاف إليه مع الجهل بها -أي: بالسنن- حب الرياسة، وإيثار الغلبة في الجدل، فتزيد قسوة القلب): فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا [المائدة:13].

    أيها الفضلاء! ولكن يبقى في بعض الناس رقة، وخير وفضل، ويبقى في أهل العلم بقية؛ هم أهل الصدارة والريادة.

    قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/174): (وددت لو أن جسمي قرظ بالمقاريظ، وأن الخلق كلهم أطاعوا الله عز وجل).

    يقول: يا ليت جسمي قطع تقطيعاً وأن الخلق أطاعوا الله!

    يا ليتني قدمت جسمي فداءً لهذه الأمة وأنهم أطاعوا الله.

    قال: (فعرض قوله على بعض المتقدمين) فقال: (إن كان أراد بذلك النصيحة للخلق، وإلا فلا أدري، ثم غشي عليه) أغمي عليه من كثرة البكاء، ومن خطورة هذه الكلمة التي تدل على النصيحة وعلى الصدق.

    وقد قرأت عن الإمام أحمد أنه قال: (يا ليت الله يجعلني فداءً لأمة محمد عليه الصلاة والسلام).

    يقول: ليتني أفديهم، وبالفعل تقدم الإمام أحمد للسياط، وجلد، وعرض للسيف، ومع ذلك ما تزحزح من أجل رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن أجل أمة الرسول عليه الصلاة والسلام.

    فتىً كلما فاضت عيون قبيلةٍ     دماً ضحكت عنه الأحاديث والذكر

    تردى ثياب الموت حمراً فما أتى     لها الليل إلا وهي من سندس خضر

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088518473

    عدد مرات الحفظ

    777079958