إسلام ويب

سلسلة القطوف الدانية نور القرآنللشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • القرآن الكريم حبل الله المتين ونوره الذي يستضيء به المؤمنون، والذي يقرؤه بتدبر وتفكر يعظم انتفاعه به، والتدبر له وسائل لابد من تحقيقها وتعلمها والعمل بها.

    اسم المسجد وموقعه

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فأولاً: من نعم الله علينا جميعاً أن وفقنا لأن نتدبر بعض آيات كتابه، فهذا مطلب عظيم، وموئل كريم، ومنزلة جليلة، فإذا كان هذا التدبر والتدارس يتم في مسجد مبارك -كمسجد قباء- فهذا أعظم منزلة وأرفع درجة، نسأل الله أن يخلص النيات.

    أما هذا المسجد فهو مسجد قباء، وقباء في الأصل مكان عرف بهذا الاسم (قباء) لأنها كانت بئراً، ثم عرفت المنطقة باسم البئر فسميت بقُباء، وهذا هو النطق الصحيح لها (بضم القاف).

    يقال فيه مسجد قباء، وهي تسمية قرآنية: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى [التوبة:108] أي: مسجد قباء، وقال: مسجد بني زريق، كما ورد في الأحاديث.

    نقول: جرت عادة الناس أنهم يتبعون أوائلهم، والنبي صلى الله عليه وسلم أذن لأصحابه بالهجرة، فالمهاجرون الأولون قدر لهم أن ينزلوا ابتداء في هذه المنطقة المعروفة قديماً بقباء.

    كانت هناك داران في قبلة المسجد الآن -وقبلة المسجد جنوبية- دار كلثوم بن الهدم رضي الله عنه، ودار سعد بن خيثمة ، وكان سعد أعزباً.

    وهذه الديار كانت لبني عمرو بن عوف، وجهة الشمال -جهة مسجد الجمعة- كانت ديار بني سالم بن عوف، فمن هاجر من أوائل الصحابة نزل هنا، فكان بدهياً عندما يأتي صلى الله عليه وسلم أن ينزل في نفس المكان الذي نزل قبله به أصحابه رضوان الله تعالى عليهم.

    والنبي صلى الله عليه وسلم على المشهور دخل قباء لثمان خلون من شهر ربيع الأول على غير رواية ابن إسحاق ، والأظهر عندنا والعلم عند الله أنه صلى الله عليه وسلم ولد لتسع خلون من ربيع الأول، فيكون دخوله قد تم في يوم الإثنين الثامن من ربيع الأول للسنة الأولى من الهجرة، فهو ابن ثلاثة وخمسين عاماً بالتمام، فالقول الراجح عندنا أنه ولد في التاسع من ربيع الأول، ودخل المدينة في الثامن من ربيع الأول.

    لما نزل صلى الله عليه وسلم كان معه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فاستضافه كلثوم بن الهدم ، ثم كان صلى الله عليه وسلم يستقبل الناس في دار سعد بن خيثمة ، من هنا جاء الاضطراب في الروايات التاريخية هل نزل في دار كلثوم أو في دار سعد بن خيثمة .

    ثم أسس صلى الله عليه وسلم هذا المسجد المبارك لبني عمرو بن عوف.

    والصحابة لما هاجروا لم يؤسسوا مسجداً؛ لأنهم ما أرادوا أن يتقدموا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فمثل هذه الأمور تسند للإمام الأعظم.

    ومن هذه السجادة تقريباً إلى محراب المسجد من توسعة عثمان رضي الله عنه وأرضاه، فإن عثمان رضي الله تعالى عنه وسع في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم توسعة جنوبية، قال بعض أهل التاريخ والسير: إنه كذلك وسع في مسجد قباء توسعة جنوبية، أي: إلى جهة القبلة، فالمسجد النبوي المؤسس أنا لا أستطيع أن أحدده، فلنقل: إنه إلى هذا العمود أو الخط.

    وكانت قبلته جهة الشام؛ لأن القبلة لم تكن قد حولت بعد، فكانت القبلة جهة الشام أي: جهة بيت المقدس، ثم لما نزل قول الله: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144] جاء التحويل إلى القبلة الجنوبية.

    وقلنا: هذه ديار بني عمرو بن عوف، وديار بني سالم بني عوف كانت في جهة الشمال، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من هاهنا ومضى أدركته الجمعة في مسجد الجمعة الآن، فصلى بها الجمعة كأول جمعة تقام في الإسلام، وذلك بعد ما أسس المسجد، وقد مكث في المسجد الإثنين والثلاثاء والأربعاء، ووضع أول لبنة، بدأ، فتبعه أبو بكر ثم تبعه عمر ، ثم سائر الناس حتى بني المسجد، وكانوا ربما أنشدوا.

    قد أفلح من يعالج المساجدا ويذكر القرآن قائماً وقاعداً

    إلى غيره، وينسب هذا إلى علي رضي الله عنه، وينسب إلى عبد الله بن رواحة ، وينسب إلى غيرهما، ويقال: هو من حفظهما، وهذا كله أمر واسع، ولا تثريب فيه.

    ذكرنا أن هذا المسجد أسسه النبي صلى الله عليه وسلم من أول يوم، والآية جاءت منقطعة الإضافة، فالله يقول: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة:108]، فجاء القرآن بكلمة (يوم) منونة، والتنوين هنا لا خلاف أنه تنوين عوضي، لكن ما اللفظة المحذوفة؟ هذا مختلف فيه، فإذا قلنا: التقدير: (من أول يوم نزلت فيه) مسجد قباء بالاتفاق.

    وقيل إن التقدير: (من أول يوم أظهر الله فيه دينه)، وهذا قال به بعض العلماء، وهو الذي اختاره السهيلي في الروض الأنف، وعليه يفهم إنه عندما أسس مسجد قباء أمن الناس، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقدر على أن يؤسس مسجداً في مكة، لكن لما عزم صلى الله عليه وسلم على أن يؤسس مسجداً في المدينة دل ذلك على أن الله أعز الإسلام وأمن الناس، فهذا أول يوم أعز الله فيه الدين إعزازاً ظاهراً.

    ومن هنا يعلم القارئ للتاريخ فقه الصحابة رضي الله عنهم في أنهم جعلوا التاريخ يبدأ بالهجرة، لعلمهم رضي الله عنهم وأرضاهم أن الهجرة كانت فارقاً عظيماً، وبها ظهر إعزاز الدين وانتصاره، وكان ما كان من علو شأن الإسلام.

    إتيان النبي صلى الله عليه وسلم مسجد قباء

    المقدم: ما هو هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في إتيان مسجد قباء ماشياً وراكباً؟

    الشيخ: أتى النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأسس المسجد، ولم تكن تقام الجمعة إلا في المسجد النبوي، وكان بنو عمرو بن عوف منهم من يأتي مع النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة، ومنهم من لا يقدر، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم شفيقاً رءوفاً بأصحابه كان يأتي قباء، فهو يأتي قباء لفضل المسجد، لكن الذي يظهر -والعلم عند الله ولا نجزم به- أنه توخى يوم السبت حتى يتفقد من لم يحضر الجمعة من بني عمرو بن عوف، فيأتي عليه الصلاة والسلام يوم السبت يتفقدهم ويسأل عنهم ويرى أحوالهم، مع فضيلة المسجد.

    وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من تطهر في بيته، ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه ركعتين) وليس المقصود الحصر، وإنما المقصود أن الركعتين هما أقل ما يمكن أن يصليهما المصلي، فهو مجرد ضرب المثل، يعني: أن الصلاة لا تقصد لذاتها، فمن أدرك فريضة، أو لم تبق له إلا ركعة واحدة من الوتر فصلاها هنا دخل في عموم الحديث، أو صلى تحية المسجد، أو صلى العشاء في بيته ثم تطهر وصلى هنا نافلة العشاء، أو المغرب، كل ذلك صحيح إذا أتى المسجد وصلى.

    وأما الفضل فما ورد في الصحيح أنه كان يأتي يوم الاثنين، وكان يأتي أحياناً يمشي، ومن يأتيه كذلك يحصل على أجر عمرة بنص كلامه صلى الله عليه وسلم، لكنها لا تغني عن عمرة الإسلام، وقد كان الناس وما زالوا يأتون من بيوتهم إلى مسجد قباء، حتى نساء أهل المدينة قديماً كن يأتين من بيوتهن التي تبنى حول المسجد النبوي، وهناك شعر عن هذا، لكن قدسية المكان لا تسمح لإلقائه.

    ومن أتى هذا المسجد خمس مرات وصلى خمس صلوات كتب له لكل صلاة أجر عمرة، وفضل الله أكبر وأوسع.

    توسعة مسجد قباء حديثاً

    وأريد أن أذكر أن البناء لم يكن بهذه الصورة، إنما كان كما تيسر في تلك العصر، ثم ما زال ملوك الإسلام وخلفاؤه يعتنون بهذا المسجد، حتى وسع عام (1388هـ) في عهد الملك فيصل رحمة الله عليه، ثم في عام (1405هـ) تقريباً في عهد الملك فهد رحمه الله وسع هذه التوسعة التي ترى، وتشرف عليه وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، وأنا من هذا المنبر المبارك ومن هذا المسجد أشكرهم شكراً جزيلاً على موافقة الوزارة على أن تبث هذه الحلقة من هذا المسجد، وهذا معدود من رعاية الوزارة وفقها الله للدعاة والعلماء، ونشر الذكر ونشر الخير.

    وأخص بالذكر مقام معالي الوزير الشيخ صالح ، وسعادة الأستاذ الدكتور توفيق السديري وكيل الوزارة لشئون المساجد، كما لا أنسى شكر سعادة مدير عام فرع الوزارة بالمدينة الدكتور محمد الأمين الخطري وفقه الله تعالى.

    فهؤلاء الصفوة المباركة وأمثالهم من الإداريين من نعرف منهم ومن لم نعرف نشكرهم على الإذن وعلى الرعاية لإقامة هذا اللقاء في هذا المسجد المبارك.

    وفي هذا السياق ننوه ونشكر كذلك موقع البث الإسلامي الذي يبث هذه الحلقة صوتاً، وكذلك موقع المسك الذي يبثها صوتاً وصورة، فجزاهم الله خيراً على هذا التعاون.

    الحكمة من إتيان مسجد قباء راكباً وماشياً

    المقدم: الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأتي راكباً وماشياً، فهل هناك حكمة من ذلك؟

    الشيخ: التنوع في أداء العبادة أمر مطلوب، يبعد السأم، ولو أدام صلى الله عليه وسلم القدوم مشياً لظن الناس واجباً، ولو أدام الإتيان راكباً لظن الناس أنه واجب، فتنويع النبي صلى الله عليه وسلم فيه طرد للسآمة والملل، وفيه كذلك الرفق بالناس، لأنه ليس كل الناس يستطيعون أن يأتوا راكبين، وليس كل الناس يستطيعون أن يأتوا ماشين، فكل أحد يأتي بما يقدر عليه، وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

    تناسب أجزاء آية تأسيس مسجد قباء

    المقدم: قال تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ [التوبة:108] وفي نهايتها: فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108] هل هناك مناسبة بين أول الآية وآخرها؟

    الشيخ: هذا نزل في وصف أهل قباء من الأنصار رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، لأن بني عمرو بن عوف من الأنصار، وكان ثمة منافقون صنعوا مسجداً آخر غير بعيد عن هذا، وهو مسجد الضرار، فأظهروا شيئاً وأردوا شيئاً آخر، لكن ما أضمروه لا يخفى على علام الغيوب، إذ قال الله: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا [التوبة:107-108] أي: مسجد الضرار، ثم قال: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى [التوبة:108] والأشهر هذا، مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة:108]، ثم ذكر قرينة على أن الإنسان يتوخى المساجد المعمورة بالعباد الصالحين، المعمورة بالركع السجود، خاصة إذا كانت قديمة، وهذا ذكره الحافظ ابن كثير رحمة الله عليه في تفسيره.

    قالوا: والقرينة قول الله جل وعلا: فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108]، كان حب الطهارة فيهم جبلة، فكانوا يقضون حوائجهم ثم يغسلون بالماء ويستجمرون بالحجارة، فكان الأمر فيهم جبلة، والطهور شطر الإيمان كما قال صلوات الله وسلامه عليه.

    الحكمة من ابتداء النبي بتأسيس المسجد في المدينة دون غيره

    المقدم: نريد أن نختم الكلام على المسجد بذكر فائدة أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قدم المدينة بدأ بتأسيس المسجد، ولم يبدأ بتأسيس شيء آخر في الدولة الإسلامية، فهل هناك حكمة من ذلك؟

    الشيخ: لا حياة للناس إلا بصلتهم بربهم، والرمز الأعظم لأن يصل الناس حالهم بربهم الصلاة، والرمز الأكبر الذي تؤدى فيه الصلاة المساجد، فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:36-37].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089205985

    عدد مرات الحفظ

    782742312